«جوغينغ» … مونودراما الوجوه الثلاثة لـ «ميدي»

*عبده وازن 

قد يمثل عرض حنان الحاج علي المونودرامي «جوغينغ» خلاصة تجربتها المسرحية، كممثلة أولاً ثم كمؤلفة اختبرت فن التأليف الجماعي في «مسرح الحكواتي» في الثمانينات مع المخرج روجيه عساف وأعضاء آخرين، ثم كامرأة مسرح، مثقفة وملتزمة فنياً وصاحبة مبادرات. غير أنها هنا ممثلة أولاً وآخراً، كتبت نصها لتؤديه بنفسها، بصفتها الشخصية الرئيسة والوحيدة التي هي حنان بوجوهها كافة. لكنّ هذا العرض المونودرامي سعى الى مقاربة لعبة المسرح داخل المسرح بمرونة وذكاء، من خلال شخصية الممثلة التي هي حنان والشخصيات التي تؤديها من دون أن تنسى أنها امرأة وزوجة وأم تعيش في مدينة بيروت. وأولى الشخصيات الثلاث هي «ميدي» البطلة الإغريقية كما تجلت في مسرحية اوريبيدس الشهيرة والتي ارتكبت جريمة قتل ولديها انتقاماً من زوجها جازون. ثم تليها شخصية ايفون المرأة اللبنانية التي قتلت بناتها الثلاث وانتحرت انتقاماً أيضاً من زوجها، ثم شخصية زهرة المرأة الجنوبية التي عاشت حالة شبه «ميديوية» بعد خيانة زوجها لها وفقدها أولادها الثلاثة في حال شبه قدرية.

تعترف حنان الممثلة بأنها مهووسة بشخصية ميدي كما ابتدعها اوريبيدس مسبغاً عليها ملامح إنسانية ومحرراً إياها من معظم الصفات الميتولوجية، مبقياً على وقيعة صعودها الى الشمس في ختام المسرحية. حنان شاءتها بدورها امرأة من لحم ودم، فهي كما تقول على المسرح، شخصية فظيعة وعظيمة تحلم في أدائها كل الممثلات. لكنها تعترف بأن ميدي بمقدار ما تغريها ترهبها أو «تنفرها». ومثلما وضع الكاتب والمخرج الألماني الكبير هاينر ميللر ميدي في قلب الحداثة الألمانية أو الأوروبية في مسرحيته المقتبسة من الأصل الاوريبيدي «ميدي ماتيريو» (على طريقة مسرحيته الشكسبيرية «هاملت ماشين») تبحث حنان عن صورة لبنانية لميدي، طارحة على نفسها في العرض: «مين ممكن تكون ميدي اليوم في مدينة مقطّعة موصّلة مثل بيروت؟». إنها ميدي التي تشبه بيروت أو لعلها بيروت التي تشبه ميدي.

تستهل حنان الحاج علي عرضها كممثلة: ممثلة على خشبة شبه فارغة تؤدي التمارين التي يفترض أن تؤديها، جسداً وصوتاً أو حنجرة عبر «الخرخرة». و «الخرخرة» تعني لديها اللعب بسخرية تامة على حرفي الخاء والراء اللذين يجتمعان في الختام ليمثلا رمزياً حالة القرف التي تُغرق المدينة. لكن الممثلة التي تؤدي دور الممثلة بدءاً، لا تلبث أن تنتقل الى أداء دور المرأة التي تدعى حنان الحاج علي في ما يشبه التداعي المونودرامي: أنا حنان الحاج علي، بنت علي أمين درويش، مواطنة لبنانية أصيلة منذ أكثر من عشر سنوات… ثم تقدم ما يشبه البورتريه الشخصي السريع لتخلص الى أنها امرأة تهوى الجوغينغ في بيروت وتحديداً في منطقة الصنائع (تذكر هنا زيكو هاوس ومبنى تلفزيون المستقبل وحمام الحديقة الشهيرة وعصافيرها التي تسلح في الهواء)… إنها بيروت المتعفنة التي تدفع الممثلة الى استدعاء جملة هاملت الشهيرة عن رائحة «العفن» التي تفوح في المملكة. وليس كلامها عن «الجوغينغ» إلا مدعاة للحديث عن حياتها اليومية الرتيبة كامرأة متزوجة من المخرج العبقري كما تقول، واصفة إياه بسخرية «أهلية» بـ «الجبل القاعد على قلبي» ثم تضيف بوداد الزوجة اللبنانية «ريتو يقبر قلبي». إنها أيضاً حنان الأم التي هاجر أولادها، وعانت ألم مرض أحدهم، والمرأة «المحجبة الكول» (أو الهادئة) والتي لا تخفي أن أحلامها في الليل تفجر مكبوتات جسدها ولاوعيها الجنسي (الليبيدو) فتخجل عندما تستيقظ من نفسها هي «الست النظيفة العفيفة»… وفي هذه اللقطة البديعة تكسر حنان الممثلة «التابو» وتحرر فعلاً جسدها – كممثلة أيضاً – من السطوة الرمزية للحجاب الذي تضعه على رأسها والذي لا تتخلى عنه كامرأة ملتزمة دينياً واجتماعياً، حتى على المسرح. لكنّ أداءها الجريء والمتين والخلاق يتخطى «الحجاب» فينفجر الجسد ليأسر أقصى لحظات التعبير حسياً وإنسانياً. إنها الممثلة – المرأة تتخبط في رغباتها الداخلية (لن أقول المقموعة وفق وصف فرويد) لتشعلها وترقى بها حركياً وجمالياً. وكم بدت موفقة ورائعة فكرة وضع حنان «البوستيش» (الشعر النسائي المستعار) على رأسها فوق الحجاب لدى أدائها دور ايفون المرأة «القاتلة» والمنتحرة، فبدت كأنها تنقلب على نفسها في لعبة «ترافستية» مسرحية وهي توازي التقنع أنثوياً. وتمكنت حنان الممثلة البارعة من إحداث مفاجأة أو ربما صدمة في وجدان الجمهور وذاكرته، لا سيما أنها أرادت الجمهور مشاركاً في لعبتها بل متواطئاً معها. تتوجه اليه مباشرة أو تدعو أشخاصاً منه ليشاركوا فعلاً في اللعبة مما أفسح المجال للقليل من الارتجال.

عندما وضعت حنان «البوستيش» على رأسها بدت امرأة أخرى، ليس بشعرها الطويل فقط وإنما بوجهها الذي أضاء وتبدلت ملامحه. حتى عيناها اختلف بريقهما وحمل معاني غير مألوفة نابعة من صميم معاناة ايفون المرأة «الميديوية». وهذا بمثابة امتحان صعب لا تقوى عليه إلا الممثلات القديرات وقد اجتازته حنان بمهارة فائقة. وليس من قبيل المصادفة أن تذكر حنان الممثلة الفرنسية الكبيرة فاليري درفيل التي أدت دور ميدي ولكن في نص هانير موللر الرهيب (من إخراج المسرحي اناتولي فاسييليف – مهرجان افينيون 2002). ولم تذكر حنان هذه الممثلة إلا عندما كانت تصبغ وجهها بالابيض لتؤدي دور ايفون، حاملة بيدها مرآة صغيرة ترى فيها وجهها الحقيقي لا المقنع، وجه المرأة المنتقمة من خيانة زوجها ومن القدر في آن واحد.

ثلاثة وجوه لشخصية ميدي إذاً أدتها حنان الممثلة متتابعة ومتقطعة، وتنقلت بينها بمهارة وشغف ممتلكة بقوة أدواتها التمثيلية: ميدي الإغريقية اليوريبدية ذات المشلح الأحمر التي لم تخل – ولن تخلو- مسارح العالم على اختلاف مدارسها من طيفها، ميدي المرأة اللبنانية (المسيحية بالصدفة) التي تدعى ايفون وهي امراة حقيقية ارتكبت جريمة عنيفة في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009 انتقاماً من زوجها الذي يعمل في إحدى الدول الخليجية، هاجراً عائلته وخائناً زوجته، فقتلت بناتها الثلاث مسممة إياهن بالفاكهة والكريما (وظفت حنان فكرة الكريمة جيداً) ثم منتحرة وقد صورت شريط فيديو تحدثت فيه الى زوجها. هذا الشريط اختفى في أروقة «الدولة» ولم تبق منه سوى جملة واحدة لا تخلو من القسوة والعبثية هي: «رحت وأخدت بناتي معي حتى ما يعيشو العذاب اللي عشتو أنا وحتى أمّن عليهن». وتفاجئ حنان الجمهور بعد أن ترتدي معطفاً لتؤدي دور ايفون، برسالة تقرأها وكأنها لإيفون فإذا بها الرسالة التي كتبتها الروائية البريطانية فيرجينيا وولف قبيل انتحارها وتركتها لزوجها وفيها تحكي عن انهيارها النفسي واختيارها الارتماء في ماء النهر بعد ملء جيوبها بالحجارة.

لعبة المونتاج الذكية هذه تعتمدها حنان في أكثر من فاصل في ما يشبه «التناص» (انترتكست) مختارة نصوصاً قصيرة وجملاً وقصائد و «أطيافاً» من أعمال يوريبدس وشكسبير وهاينر موللر وبازوليني الذي أخرج فيلم «ميدي» أيضاً متعاوناً مع «الأسطورة» ماريا كالاس كممثلة. أما ميدي الثالثة فهي امرأة جنوبية (شيعية) تدعى زهرة، ولعلها أيضاً حقيقية. تحضر زهرة في أعمار عدة ومراحل هي مراحل الذاكرة اللبنانية: من جو العائلة الجنوبية المحافظة الى حركة اليسار والعروبة فإلى الالتزام الديني (حزب الله والمقاومة)… ومن الحب العاصف بينها وبين محمود الذي أصبح زوجها، فإلى خيانته المعلنة لها وزواجه من امرأة فتية (هي قرين… التي تزوجها جازون وأثارت جنون ميدي في نص يوريبدس). لكن زهرة لن تنتقم لنفسها ومن زوجها بل القدر هو الذي يجعلها تفقد ابنين لها في حرب تموز 2006 ثم ابنها الثالث عام 2013 بعدما التحق بصفوف المقاتلين في الشمال السوري. في أدائها دور زهرة تسترجع حنان الكثير من ملامحها «الحكواتية» كممثلة وكأنها في حال من الحنين الى تلك المرحلة المهمة في تاريخ المسرح اللبناني الحديث، وتمنح نفسها المزيد من الحرية في التمثيل والتعبير والحركة. لكن دور زهرة بدا يحتاج الى بعض التشذيب في النص وكذلك الرسالة التي بعث بها الابن قبل مقتله والتي تقرأها حنان في الختام لتعود من ثم الى كونها امرأة تمارس الجوغينغ.

«جوغينغ» عمل بديع وفريد أنجزته حنان الحاج علي بشغف ووعي مسرحي عال، وشاءت أن تضع نفسها كممثلة وكاتبة وجهاً لوجه مع الجمهور على «خشبة» فقيرة. ورفضت حنان تقديم نصها للرقابة اللبنانية لتنال الموافقة على إخراجه فقدمته في صالة.

تُعرض المسرحية عرضاً إضافياً مجانياً ليلة الجمعة 11 الشهر الجاري، الساعة التاسعة مساءً، في فضاء «ستايشن»، في إطار عروض فوكس ليبان، والحجز عبر موقع ihjoz.com

___

*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *