*أبو بكر العيادي
بعد رواية أولى “في حديقة الغول”، 2014 وضعت الكاتبة المغربية المقيمة في باريس منذ سبع عشرة سنة ليلى سليماني قدمها على درب الكتابة السردية، لتنشر رواية ثانية عنوانها “أغنية هادئة” حازت إعجاب النقاد والقراء على حدّ سواء، ووصلت إلى القوائم القصيرة للجوائز الفرنسية الكبرى، وأهمها غونكور التي منحتها جائزتها لهذا العام. وهي العربية الثالثة التي تفوز بها بعد المغربي الطاهر بن جلون واللبناني أمين معلوف.
امرأة محطمة
تنتمي رواية “أغنية هادئة” إلى جنس القصص السيكولوجية المثيرة، التي تقوم على التشويق والمواقف المتشابكة، وهي هنا لا تتوقف عند الحدث، بل تبحث عن الدوافع التي أدت إليه، والعوامل النفسية والاجتماعية التي مهدت لوقوعه. فمنذ الصفحات الأولى يُصدم القارئ بجريمة قتل فظيعة راح ضحيتها طفلٌ وَأخوه الرضيع، والمكان بيتهما الذي يفترض أن يكون مرفأ آمنا، والقاتل حاضنُتهما التي عافها الموت بعد محاولة انتحار فاشلة. وينتأ في ذهنه سؤال محيّر: “لماذا؟” ذلك السؤال الأزلي منذ بدء الخليقة كما يقول أمبرتو إيكو، هو ما سوف تجهد الرواية في تلمس إجابته، والإيحاء بأسبابه، وتضع الإصبع على بعض أدْواء حياتنا المعاصرة، والعلاقات المريبة بين السّيّد والمسود في مجتمع مديني متطور.
المفارقة أن هذه “النونو”، كما تسمّى في العائلات الموسرة، اختارها الأبوان بول ومريم ماسّيه بعناية، واشترطا ألا تكون “عجوزا ولا محجَّبة ولا مدخِّنة”، فكانت لويز ملبية لتلك الشروط وزيادة، حيث وجدا فيها منذ الأيام الأولى “لؤلؤة نادرة”، حازت كل صفات المربّية الرؤوم، والخادم النشيطة، التي تدبر شؤون البيت وحاجة الطفلين كأحسن ما يكون التدبير، في غيابهما. ذلك أن الأب المنتج في غياب دائم لظروف العمل، والأم المحامية قررت بعد إجازة الولادة أن تلتحق بمكتب محاماة. وكان الزوجان يقابلان رعايتها بالبيت وبطفليهما بحنان بالغ، حتى صارت لديهما فردا من أفراد العائلة، لا يترددان في دعوتها إلى مرافقتهم جميعا حتى خارج فرنسا في أوقات العطل.
بمرور الأيام، صارت لويز لا غنى عنها، خصوصا بالنسبة إلى مريم الموزعة بين أمومتها ورغبتها في النجاح المهني. ولكن ما لبثت حالة الحاضنة النفسية أن تأزمت، واستبد بها شعور حاد بالوحدة، فبدأت تستعيد أحلامها المجهضة، وتوازن بين وضعها كخادم تأتمر بأوامر سيّديها، وتلبي رغباتهما، ووضع هذه العائلة المحظوظة، فتنقم على هذه الفوارق الاجتماعية التي تميز بين خلق الله، وتستحضر شتى الأحكام المسبقة لتغذي غيرة سرعان ما تحولت إلى حسد ثم إلى حقد، وتنغلق على نفسها شيئا فشيئا، وتمعن في هذيان سوف يدفعها إلى تلك العاقبة الوخيمة، ما يعني أن جدلية السيد والعبد تستند دائما إلى شيء غير سويّ. فخلف المظاهر الخداعة، تختفي في الواقع امرأة محطمة، كانت تنحدر يوما بعد يوم إلى قيعة مظلمة، في غفلة من الأبوين اللذين لم يلحظا في سلوكها ما يريب، لانشغالهما بحياتهما المهنية، وفي سقوطها أوقعت الطفلين معها. والقارئ، في هذه المأساة المعلنة، يتقدم يقظا، موتورا، يدفعه الفضول إلى أن يتلمّس في هذا التوازن الظاهر العلائم المنذرة بالكارثة.