جائزة القاتل


*غادة بن صالح

( ثقافات )

حين كان يبحث عن حلة السهرة السوداء، اصطدمت يده بقميصه الأخضر وسرواله الأسود المعلقين بمعزل عن باقي الثياب، كان يستخدمهما غالبا في رحلات عمله التي تستلزم توغلا عميقا في أعماق الأحياء المغبرة، وفي خضم العديد من المواجهات الدامية بين المتظاهرين والشرطة.
لقد كان عمله كمصور فوتوغرافي يحتم عليه الدخول في مغامرات خطيرة قد تودي بحياته لكنه لم يهتم بهذا ولن يهتم، إذ لطالما عشق الصورة ولطالما نالت إعجاب كل من رآها.
تحسس ملابس مجده وهو يبتسم، مازالت عليها آثار من غبار وطين جراء مغامرته الأخيرة، هذه المغامرة التي سينال عليها الآن الجائزة التي رصدتها مجلة نيويورك تايمز لأفضل صورة لهذا العام. إنه بارع. ارتسمت على وجهه ابتسامة فخر ورضا وهو يربت على ملابسه، ثم يخرج بدلته السوداء اللامعة ويمضي أمام المرآة.
مازالت ذكرى ذلك اليوم الرهيب تغتال ذاكرته، لقد أرسلته الصحيفة إلى إحدى المناطق الساخنة حيث اشتدت المناوشات بين الجيش والمعارضين، لم تكن تعنيه السياسة رغم كل ما في هذا المبدأ من تناقض، فهو يعمل في صحيفة سياسية بامتياز وهو مصور وكاتب مقالات من نار، لكنه كان يمتهن السياسة كحرفة أما حياته الخاصة فالسياسة بعيدة عنها ولا تطالها إلا حين يكون مجبرا لساعتين أو ثلاث ساعات في اليوم أن يقرأ أهم العناوين ويشاهد آخر الأخبار لكي يتقن عمله إلى اقصى حد.
كان ذلك اليوم غائما، كانت شوارع المدينة مزيجا من غبار ورماد وحطام وجثث، وكان فريق التصوير معه يرتجف لتلك المشاهد الرهيبة، وحده هو لم يهتم، كان يلتقط مئات الصور لكل شئ بحثا عن صورته المفقودة.
تلك الصورة التي كادت تفقده حياته، وهاهي الآن تتوجه ملكا للمصورين الفوتوغرافيين في نيويورك.
****
لقد كان يجري هو ورفاقه في أحد الشوارع التي يجهل اسمها، من تلك المدينة المحطمة، وكانت القذائف تسقط من فوق رؤسهم ودوي الرصاصات والطائرات والانفجارات يعم المكان، الدخان كثيف يعمي عيونهم والطريق غير واضحة أمامهم، وفجأة تهوي قذيفة فريبا منهم لتطرحه هو وفريقه أرضا وهو يسعلون بشدة، ووسط ذلك الضجيج يستمع إلى صوت كهل متهدج يصرخ فيهم باللهجة المحلية :
“اقتربواااا، تعالوا احتموا هنا في بيت الله…”
بوصفه الوحيد الذي كان يفهم اللغة العربية، التفت إلى مصدر الصوت ليجد عجوزا يحاول أن ينهض رفاقه فنهض من مكانه وجروا جميعا إلى المسجد المواجه لهم حيث وجدوا رجلا عجوزا يرتدي جلبابا طويلا ينتفض ويرتعش وهو ينظر إليهم وما ان اطمأن إلى دخولهم حتى أغلق الباب الأمامي مرة أخرى وهو يتمتم بأدعيه غير مفهومة.
“الله حماكم يا رجال، الله قوي على كل ظالم..”
إنه يتذكر حينها أن اكتفى بمجرد كلمة شكر بسيطة إليه، ولم يضف عليها شيئا وهو يتأمله، كان رجلا أشيب ورغم ذلك فشجاعته لا تتلاءم مع سنه، من ذلك الذي يجازف بحياته تحت القصف والنيران لينقذ أشخاصا لا يعرفهم غير أبطال الأفلام الأميركية؟؟
هدأ القصف قليلا فغمز بعينيه فريقه ليخرج من المسجد ويتابع سيره، خرجوا جميعا ودعوات الرجل تلاحقهم بالسلامة والأمن.
ما لبث أن نسي الرجل الذي أنقذ حياته منذ قليل تماما حين اصطدمت عيناه بمشهد أربعة جنود بزي مميز وعصابات سوداء معقودة فوق رؤسهم يقتادون رجلا نحيل القوام حافي القدمين لا يكاد عمره يتجاوز 21 سنة، أنبأته غريزته أنه بصدد تحقيق سبق صحفي مذهل، تبعهم رغم اعتراضات فريقه، رآهم يقتادون الأسير إلى حديقة خلفية وراء طام البناء وهو يتوسل إليهم أن يتركوه فلا يجيبونه إلا بالركلات واللكمات على وجهه الدامي.
كان يلتقط مئات الصور لكل شئ وتفطن إليه أحدهم فاندفع نحوه بسرعة وأمسكه من عنقه وصرخ فيه : “أتريد أن تصور بطولاتنا؟؟ اقترب إذن”
إنه يتذكر ذلك المشهد، لقد كان الجندي يقتاده كأنه نعجة مساقة للذبح، كان قلبه يدق بسرعة لكن لذة الاكتشاف تغلبت على كل شيء. 
اقترب من مكان اجتماع رباعي الموت ليجد أحدهم يشحذ سكينه على أحد الأحجار الحادة والأسير منبطح أرضا يقيده إثنان بجسديهما. جره الرابع ليقترب أكثر وبدأ هو بالتقاط الصور أكثر للمشهد الرهيب. اقترب صاحب السكين وتكبيرة جليلة تنطلق من خلفه “الله أكبر”
– “والآن نعلن عن إسم الفائز، إنه السيد…”
دوى التصفيق والهتاف حين سماع اسمه في جميع أنحاء القاعة الواسعة وشد هو من قامته ورسم ابتسامة فخر وسعادة على وجهه وهو يتقدم ليستلم جائزته وليتوج على عرش مملكته.
– “الله أكبر”
مع انطلاق التكبير، تحمس أكثر وإنطلق في التصوير كمحموم، ولحظ أثناء ذلك طفلا صغيرا مذعورا يتأمل المشهد بحرقة وراء شجرة قريبة التقط صورتين له بعد اهتمام ليركز على وجه الأسير.
رأى في عينيه الهائجتين بالدمع نظرة متوسلة، أيريد منه أن ينقذه؟ آسف لكن ذلك ليس من قبيل عملي، هكذا دمدم لنفسه ليعود إلى التركيز على التقاط الصور.
وهوت السكين على عنق الأسير، وفي نفس اللحظة انطلقت صرخة الطفل مدوية :
– “أخي..” 
كم كان بوده لو كانت الصور تحمل أصواتا أيضا، لم يجد نفسه في موقف معبر ومثير للإبداع الفوتوغرافي مثل هذا الموقف، تناثرت الدماء على وجهه وعلى الكاميرا وصيحات التكبير تنطلق من جديد :
– ” الله أكبر، الله أكبر، إنه لنصر عظيم..”
تركه الرجل الذي كان ممسكا بعنقه، وانسحب الآخرون بسرعة تاركين الجثة غارقة في دمائها، والطفل المذعور تحول ذعره إلى نوبة بكاء عنيفة هستيرية وهو يشهد بركة الدماء التي يغرق فيها أخوه.
تأمله للحظة بأسف لكنه كان معتادا على كل تلك المشاهد المأساوية، فلم يعد يتأثر بكل ما يشاهده، أصبح صلبا قويا أكثر من قبل، لذلك ما لبث أن أشاح عينيه بسرعة وهو يخرج منديله المطوي ليفتح أحد طرفيه ليمسح وجهه والكاميرا من آثار الدماء التي أصابتها وعاد إلى فريقه وهو يرتعش من فرط الإثارة.
– “إن فائزنا اليوم يستحق الفوز عن جدارة، فبالإضافة إلى إلى صوره المثيرة، لا يجب أن ننسى أنه قد عرض حياته للخطر في سبيل نقل الحقيقة وكرم مهنته كصحفي ومصور كأحسن ما يكون التكريم بشجاعته وإقدامه، فلذلك هو يستحق منا أن نقف انبهارا وتحية بعمله الرائع الذي سيعرض عليكم الآن على الشاشة.”
تسارعت دقات قلبه، وهو يستمع إلى شهقات الجمهور المعجبة والتي تعالت مع ظهور صوره على الشاشة الكبيرة، صور البناء المحطم، الحديقة الخلفية، الأسير الذبيح، عيناه المليئتان بالتوسل والرجاء والرعب والخوف، دموع الطفل الغائمة، الشجرة الحزينة، السماء الغائمة.
تدافع كل هذا في عقله، وهو يتذكر الشيخ الذي أنقذه، ووالده المسلم الذي كان كثيرا ما يستمع إليه في صلاته وهو يقرأ نصوصا جميلة يطرب لرنينها لكنه لم يفهمها إلا حين تعلم العربية، تذكر طفولته التي قضاها بين دقات الأجراس في الكنيسة وصوت التكبير في المسجد في حيهم، تذكر التكبيرة الرهيبة التي أعلنت موت الأسير، منظر الرجل الذبيح بفمه المفتوح وعينيه المظلمتين، دموع أخيه الصغير الدامية، فريقه هو، الجنود المهللون بالنصر، الصورة التي من أجلها نال الجائزة..
مر شريط حياته أمامه سريعا، تدافعت كل ذكرياته أمامه، وشعور غريب بالاختناق ينتابه ويعصر قلبه، هاهو يتعرق مرة أخرى كما عادته حين يتوتر، أخرج منديله ليمسح به وجهه ليلحظ وجود بقع حمراء عليه.
– “تفضل لتتسلم جائزتك سيدي”
تأمل مضيفة الحفل بذهول، أدار عينيه للجمهور الذي يصفق بحرارة وقد وقفوا تحية له.
إنهم لا يفهمون شيئا، ولا هو كان يفهم شيئا، لقد ساهم في قتل ذلك الرجل الذي لا يعرفه ولم يضره، دمائه يحملها معه إلى حفل مجده، صورة جثته هي شاهد جرينته وفكر بألم إنه لم يكافأ إلا لأنه قاتل.
“وحدهم القتلة من يكافؤون في هذا العالم”

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *