الكنغَر أو القنعر أو القنقر حيوان جرابيّ نباتيّ يتغذَّى على الحشائش وأوراق الشَّجر، وينتشر في سهول أستراليا. ومنها حِيكتْ أسطورة طريفة حول اسم هذا الحيوان، لا يزال البعض يصدّقها، على الرغم من أنّ علوم اللغة والأنثروبولوجيا أثبتت بطلانها وتهافتها. وخلاصة هذه الأسطورة أنّ الملاّح والمستكشف جيمس كوك (1728- 1779) كان في حملته يستكشف جنوب المحيط الهادئ، ويدوّن كما يفعل الرحّالة عادة، هو وجوزيف بانكس، عالم النبات في البعثة؛ أسماء الحيوانات والنباتات في البلدان التي كان يطأها أوّل مرّة مثل نيوزيلندا واستراليا.
رأى كوك الكنغر ولم يكن رآه من قبل أو سمع عنه، فسأل أحد السكّان الأصليّين كان معه؛ وهو يشير إلى الكنغر: «ما اسم هذا الحيوان الغريب؟» وردّ الرجل بعبارة: «كنغورو»؛ ومعناها في لغته: « لا أدري» أو «لا أعرف». ووقع في ظنّ كوك وبانكس اللذين يجهلان لغة الاسترالي أنّ هذا هو اسم الحيوان. وهكذا وفد اسم الكنغر على اللغة الإنكليزية kangourou أوّل مرة عام 1770، من سوء فهم حسب هذه الأسطورة.
ودون خوض في أصل الاسم واشتقاقاته، وفي تهافت الأسطورة ـ على طرافتها ـ فإنّ الأمر، على ما يرجّح البعض؛ قد يتعلّق بالفكاهة البريطانية، أو بسخرية الإنكليز من أنفسهم وأبطالهم.
على أنّ ما يعنيني في السياق الذي أنا فيه، هو سوء الفهم في ترجمة Autofiction حتّى تحوّلت إلى ما يشبه «الكنغر»؛ وهو مصطلح كنت بحثت في دقّة ترجمته في مقال سابق في «القدس العربي»، واعترضت على الذين يترجمونه بـ«التخييل الذاتي».
وذكرت أنّه مصطلح مبتكر أو مستحدث، ظهر في الغرب، في السبعينيات من القرن الماضي، وكان سارج دوبروفسكي، وهو جامعيّ وكاتب أوّل من استعمله؛ وذاع أمره منذ ذلك الوقت في الأدب والنقد معا. كيف نترجم هذا المصطلح «الهجين»؟ وهو نحت أو تركيب أشبه بتوليف جمعيّ إذ يجمع بين السيرة الذاتيّة والرواية؟ أمّا ما يدعوني إلى طرحه ثانية عسى أن يكون موضوع سجال وتدقيق، فأمران اثنان: أحدهما تقوّض الحدود والفواصل بين الأجناس الأدبيّة؛ حتّى لكأنّنا إزاء بنية تماهٍ بالمطابقة، وجائزة نوبل التي أسندت منذ أيّام إلى المغنّي الشاعر بوب ديلان تؤكّد، مهما يكن اعتراض البعض عليها، على أنّ هناك مراجعات متتالية لمقولة «الجنس» و«الشعر» و«الأغنية»، ولم نعد نطمئنّ كثيرا لما استقرّ من تصنيفات اقتضتها دوافع هي في أحيان كثيرة إيديولوجيّة، وأحيانا تبسيطيّة. وقد لا تكون هناك حدود جليّة وقطعيّة.
لكنّ ذلك لا يعني الدّعوة إلى كتابة سائبة تخبط هنا وهناك. صحيح أنّ التّهجين ضرورة حداثيّة في الكتابة، وصحيح أنّ التّراشح بين الخطابات والأجناس يوفّر دفقا تجديديّا للكتابة الإبداعيّة نفسها؛ إلاّ أنّ ذلك لا يعني، بالمقابل، انتفاء تخوم الأجناس، وإنّما يعني «رسمها» على نحو رخْوٍ مرِنٍ هو في الواقع، أمارة قوّتها لا ضعفها. والكتابة الأدبيّة اليوم ورشة كبرى مُشرعة على موارد شتَّى، وتجسيد لأجناس مختلفة وتشبيك بين نصوص متباينة الأزمنة والأنساب تتعالق في ما بينها على نحْو ملتبس؛ فهي متماهية من حيث هي، في الوقت نفسه، متجاورة؛ من حيث هي، في الوقت ذاته أيضا، متحَاورة. ومن حيث هي في الوقت ذاته تتفاصلُ ليتجاوز بعضها بعضا. إذن أقول إنّ الكتابة مرجل يغلي لا غطاء له ولا يتلاشى بُخاره. بيْد أنّ هذا لا يشفع لنا في نحت مصطلح «التخييل الذاتيّ» الذي يكاد لا يعني شيئا في حدّ هذا النمط من الكتابة السرديّة الهجينة. وها هنا أسوق الداعي الثاني، وهو الذي أوقع بعضنا في سوء فهم المصطلح.
وزملاؤنا التونسيّون كانوا سبّاقين في ترجمة هذا المصطلح؛ بنبرة قاطعة ودون تأنّ كبير، بل هم بادروا بترجمة عنوان رواية سارج دوبروفسكي «Fils» بـ«ابن»؛ وهي كما سأبيّن ليست كذلك تماما، وإنّما هي لعب مقصود، مداره على كلمتين اثنتيْن. جاء في معجم السرديّات، الرابطة الدوليّة للناشرين المستقلّين، بيروت، 2010، ص ص 78-79 بقلم محمّد آيت ميهوب، وإشراف محمّد القاضي:
«تخييل ذاتيّ
Self-fiction Autofiction or
التخييل الذاتيّ مصطلح ابتكره الروائيّ والباحث الفرنسيّ سارج دوبروفسكي وأثبته على الصفحة الرابعة من غلاف روايته «ابـن» (Fils) الصادرة سنة 1977 تعيينا للجنس الفرعيّ الذي أدرج فيه روايته تلك من جهة وردّا من جهة ثانية على فيليب لوجون الذي استبعد في كتابه «الميثاق السيرذاتيّ» أن يكون في تاريخ الرواية* نصّ روائيّ قائم على ميثاق تخييليّ صريح يحمل فيه البطل اسم المؤلّف ولقبه.
فكان إصدار دوبروفسكي رواية «ابن» محاولة منه لسدّ هذا الفراغ الذي لاحظه لوجون، وإثبات أنّه يمكن أن يتطابق البطل والروائيّ في الاسم، ومع ذلك يظلّ النصّ تخييليّا.
ولئن عاد فضل ابتكار المصطلح إلى دوبروفسكي فإنّ فضل تعريف المفهوم وتفصيل القول فيه والتمييز بينه وبين مفهوم الرواية السيرذاتيّة إنّما يعود أساسا إلى الباحث الفرنسيّ فانسان كولونا. فقد صاغ «للتخييل الذاتيّ» تعريفا يركّز على البعد التخييليّ في النصّ الروائيّ ويقصي البعد السيرذاتيّ المرجعيّ. فقال: «التخييل الذاتيّ عمل أدبيّ يختلق بواسطته مؤلّف ما لنفسه شخصيّة ووجودا ويظـلّ محافظا في الوقت نفسه على هويّته الحقيقيـّة (اسمه الواقعيّ… وقد تبنّى جيرار جونات هذا التعريف فقال متمثّلا موقف المؤلّف حين يقدّم لقارئه رواية تنتمي إلى التخييل الذاتيّ مقيما معه ميثاقا قرائيّا مزدوجا، إنّني أنا المؤلّف، سأروي لكم حكاية أنا بطلها غير أنّ أحداثها لم تقع لي البتّة. فأهمّ ما يميّز التخييل الذاتيّ من الرواية السيرذاتيّة أنّ الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية السيرذاتيّة شخصيّة تخييليّة لا تطابق بينها وبين المؤلّف، ولكنّ المؤلّف لا ينفكّ يقرّب بينها وبينه ويعقد أواصر قرابة وتشابه معها. أمّا في التخييل الذّاتي فإنّ الشخصيّة الرئيسيّة متطابقة في الهويّة مع المؤلّف، غير أنّ ما تعيشه في القصّة من أحداث وما تتّخذه من مواقف بعيدان عن سيرة المؤلّف وما عاشه في الواقع المرجعيّ».
أمّا مأخذنا الأوّل فهو على هذا التركيب بالنعت «التخييل الذاتي». وهل من معنى لقولنا «رواية التخييل الذاتيّ»؟ أليس كلّ أدب مهما يكن نصيبه من الواقع، تخييلا وإيهاما بالواقع؟ ونقدّر أنّ كتاب جينيت «Diction et Fiction» وقد لاحظت أنّ البعض يتحاشى ترجمة عنوانه، يعزّز من وجاهة الطرح الذي أسوقه؛ والمقصود به هو «القول [فنّ القول] والقصّة [الرواية]». ولا يخفى عن باحث مثل جينيت أنّ التخييل مهما تغايرت ضروبه، فإنّ القول الشعريّ أخصّ به من غيره. ولو استخدم زملاؤنا «التخيّل» بدل «التخييل»، لتمحّلنا لهم بعض العذر. ولعلّ ما أوقعهم في هذا «الخلط» صعوبة التمييز بين «رواية السيرة الذاتيّة» وهذا الجنس الذي يمكن أن نترجمه؛ وإن بحذر شديد بـ«الرواية الشخصيّة» أو «الرواية الذاتيّة».
وأمّا المأخذ الثاني فهو ترجمة رواية دوبروفسكي (Fils) بـ«ابـن». وليس الأمر كذلك. وقد تعمّد الكاتب أن يكون العنوان ملتبسا، وأن يكون في الكلام «دُلْسَةٌ» بعبارة حازم القرطاجنّي، حتّى أنّ القارئ يَحَارُ ويسأل ما إذا كانت الكلمة الفرنسيّة بصيغة المفرد «ابن» أم بصيغة الجمع «خيوط» أي جمعFil ، وهي تُكتب مثل سابقتها Fils ولكن بتلفّظ مختلف؛ والتماثل بينهما كتابيّ وليس صوتيّا. وقد وقع في سوء الفهم الروائي محمّد برادة أيضا، فاستخدم المصطلح «تخييل ذاتي»، وترجم عنوان رواية دوبروفسكي بـ«خيوط» (مجلّة نزوى 87/ 2016 ص.28). ولعلّ الأصوب ترجمة العنوان بـ«ابن/ خيوط»، على ما في ذلك من قلق العبارة؛ ولكن لا مناص منه، فليس لنا في العربيّة ما يجمع بين هاتين الكلمتين بصــــريّا كما هو الشأن في الفرنســـــيّة. ولا أفهم كيـــف لا يفطن أهل الاختصاص منّا، إلى أنّ دوبروفسكي يتوخــــّى نوعا من اللعــب، ويتقصّد أن يكون نصّه مشطورا بين ذاكرة متاهة أو هي فوضى، ورغبة في النظام تخفي رغبة في حصول معنى أو دلالة: ابن من؟ وأيّ خيط ينتظم هذه المتاهة الروائيّة المعقودة على الانفعال أو الوجدان، حيث الطفل يتجلّى تدريجيّا بشكل حلزونيّ أو لولبيّ، وينجرف في تيّار الكلام ودوّاماته، ويتخبّط في خيوطه؟
إنّ قضيّة المصطلح ليست بالبساطة التي قد يتصوّرها البعض، وهي تهجم على لغتنا بقوّة. ولابدّ من كثير من الحيطة والحذر في نقلها إلى العربيّة. وها هو مصطلح آخر يَفدُ، وقد يزيح هذا «التخييل الذاتي» أو «الرواية الذاتيّةّ» في تقديرنا؛ ونقصد «الرواية الغيريّة» Exofiction
وهو مصطلح ظهر في فرنسا عام 2013 لتصنيف الرواية التي تمتحُ عناصرها وأمشاجها من الواقع، ويكون مدارها على شخصيّات معروفة مشهورة؛ الأمر الذي يعيدنا إلى سؤال سارتر: ما الأدب إذن؟ لعلّه كنغرٌ آخر.. لعلّه!
________
تساؤلات لجذب الانتباه ليس غير ، يقول القدامى: إذا فهم المعنى فلا مشاحة في الاصطلاح . اعطني اصطلاحًا محل اتفاق في مفهومه ، ولن أبالي بخطأ الترجمة .