* خالد الوادي
(ثقافات)
“المهم انك تعرف من أنا”، بهذه الجملة القصيرة انتهى الحوار ، غادرتُ منكسراً ألوذ بالصمت , ينتاب مسامعي صوت المذياع.
كان المذيع يتحدث بصوت واثق: ” انفجار في دمشق يوقع عدداً كبيراً من الضحايا. أزمة سياسية في بغداد ربما تقود إلى حرب أهلية. مصريون يتجمهرون في ميدان التحرير يطالبون بالإصلاح. قناصة في طرابلس يقتلون طفلاً يبلغ التاسعة من العمر.”
لم أستطع الاستمرار في قيادة السيارة. أرهقتني الأزمة; تلك التي اخترتُ أن أخوض تجربتها رغم ثوابتي المتجذرة. الشاخصة. هائلة الوقع .. تراجعتُ عنها في لحظة استثنائية لم أحدد ملامحها. هل هي حب حقيقي ؟.. رغبة عابرة؟ أعجاب؟محاولة لامتلاك شيء ؟ .. المخزي أنها قالت في أول مواجهة :
” الحب شيء تافه” ، وحقيقة علاقة الرجل بالمرأة تحددها تداعيات، المهم في الرجل أن يكون ميسورا; يمتلك المال اللازم حتى تستمر العلاقة . ركنتُ (التاكسي) الذي أعمل فيه سائقا ، ودخلت المقهى المكتظ كعادته بالعجائز. متقاعدون بدشاديش فضفاضة. يقضون نهاراتهم بلعب الدومينا. صعاليك لا وطن لهم سوى هذا المكان السابح بدخان (الأركيلات ..). مثقفون منهزمون اعتادوا على قراءة كتبهم رغم الضوضاء.
جلستُ منهكاً أحاول التركيز .. فأنا مصدوم; هذا ما اكتشفته. الصدمة تمثلت بالهزيمة التي لحقت بي . قلت مع نفسي :
” هل تعاستي بسبب امرأة غادرتني باستخفاف ؟ هل عليَ تقبل الانصياع إلى الحزن ؟”.
لقد هدأت من روعي ( أم كلثوم ) جاء صوتها منساباً كرسائل التعزية. “فات الميعاد وبقينا بعاد والنار بقت دخان ورماد”.
أهدأ . أهدأ; هكذا أمرت نفسي، ومضيت صامتا أتأمل أجواء المكان وجدرانه المكتظة بالصور المبروزة. الملك غازي مبتسما .. شارع نظيف تتوسطه حافلة نقل الركاب ( لايلاند). الزعيم عبد الكريم قاسم يلوح بيده فيما قطعات الجيش تستعرض أمامه. سيدة جميلة مجهولة الهوية بفستان أنيق واقفة وسط حديقة الأمّة. قارئ المقام يوسف عمر. عبد الحليم حافظ. الزعيم جمال عبد الناصر. مجموعة من الرجال في الزيّ العربي، .. وأنا. أنا ؟؟ يا إلهي!; هذه صورتي بالأسود والأبيض; ذات الملامح، والقامة الفارعة. الفارق هو تلك الملابس المنتمية إلى حقبة بعيدة. ما الذي يحصل؟. تحركت نحو صاحب المقهى كان بدينا احتشدت طاولته ببكرات أغاني أم كلثوم، سألته بتعجب عن صورتي الكبيرة، من هذا :
استاء من سؤالي وأجابني بلهجة قلقة : ألا تعرف أنه يشبه الجميع ؟ ألست من رواد المقهى; هذا الكائن هو شبيهك وشبيهي وشبيه كل من يرتاد المقهى. إنه رمز لبؤسنا وتعاستنا. نحن تعساء.هذه مقهى التعساء،وأنت تعيس. اذهب إليه سيحدثك . ثق بي .. اذهب .. هيا ..
تحركت خائفا. وقفت أمامه وأدركت مقدار سخرية ابتسامته الواضحة. صرخ بوجهي. العجيب أن صرخته لم يبالي لها جميع الجالسين هنا، لقد اعتادوا المشهد .
” أيها البائس هل تبحث عن امتلاك امرأة؟ هل انتهيت من جوعك حتى تعشق؟ .دعك من ذلك; نحن هنا نملك الحق في استنشاق الهواء الملوث فقط، أما الأحاسيس وما يلحقها فهي حكر لأولئك المنتصرين الغارقين بالترف .. اجمع شتاتك وتقدم .. وأعلن التوبة.
__________
*قاص وروائي من العراق