تراجيديا الشعر!

خاص- ثقافات

*مرزوق الحلبي

الشعر، هذا الكائن الشفيف بقدر ما هو ساطع الحضور، فإنه هشّ. بقدر ما هو أزلي فإنه قد يتعرّض للأذى فتظهر عليه الكدمات أو الخدوش. بقدر ما هو عصيّ فإنه مجبول على حسّ مرهف حيال الأيدي التي تجبله أو تحمله أو تمتدّ إليه. للشعر بوصفه الكلام المصفى حساسية قد تصير طفحا على وجهه في بعض الحالات فيشوبه كدر أو غصّة أو انكسار.

التكلّف، يعتري الشعر فلا يُبقي منه سوى مفردات تصطفّ حيث هي إما، وعادة بالإكراه. الشعر لا يقوم إلا على علاقة إرادية طوعية بينه وبين كاتبه/شاعره. على عفوية في اللمس والهمس والعناق واللقاء بين النصّ وواضعه. على شغف بين الشاعر والشعر. الشعر، لا يُطيق مثلا الذين يريدون أن يُثبتوا أنهم شعراء أو الذين ينشدون انتماءً فيدخلون على الشعر غدرا. والشعر، على سعته، لا يُطيق حشر المفردات وثنيها و”تطعيجها” وإكراهها على الوقوف حيث لا يروق لها أو على الاقتران القسري بأخرى على نحو يخدم فجاجة واضعه. الشعر، يمقت أن يأتي نتيجة اعتقاد واهم من الذي يكتب بأنه شاعر، ويكره حضور عرس لا صدق فيه. الصدق شرط ضروري لحضور الشعر. الصدق في الفكرة والحب والمشروع واللغة. الصدق إذا كتبنا في الحب، والصدق إذا كتبنا في “القضية”، والصدق إذا كتبنا عن الكتابة، والصدق إذا كتبنا عن ذواتنا. والشعر، ينقلب مثل السحر، على شاعره. كل تكلّف، مصيره الانكشاف. وكل شاعر مبتذل، مصيره الانفضاح. إذ لم يكن عند هذا المنعطف، فعند ذاك!

العُقم، يُصيب الشعر فيدور الشاعر في قاموس محدود جدا من المُفردات. يقضي عمره وسط قاموس من بضع مئات من المُفردات أو أقلّ، يرميها أو يستردها، يوظّفها أو يسحبها من النصّ، يزاوج بينها أو يضطرها على الانفصال، فإذ بالنص الأول الذي نتج مثل الأخير. ضيّق على الفكرة الضيقة وعلى الشعر. ومن الداخلين على الشعر مَن لا يستطع الكتابة سوى عن عينيها ونهديها وجسدِها وعن …. ومنهن مَن لا تكتب إلا استدعاء للرجل وعطرِه وذراعيه. فكم من الشعر يُمكن أن ينمّ عن بضع عشرات من المفردات وتيمة واحدة؟ العُقم، قد يظهر في التيمة الواحدة والمفردات المكرورة. فإذا قرأت نصا واحدا كأنك قرأت كل النصوص. وإذا قارنت ستجد نصوص المئات منهم واحدة، وإن النص الأخير للشاعر نفسه (أو للشاعرة) لا يختلف في شيء عن النص الأول للشاعرة من الفئة ذاتها! فيظلّ شَعر الحبيبة أسود مدة أربعين عاما، ويظلّ نهداها حصانين أو زغلولين مدة ثلاثة عقود. وهكذا، كل الصور والعناصر الأخرى لا تتبدّل ولا تتغيّر. الشعر الجامد يجمّد معه اللغة والكون! نصوص لا يتغيّر فيها أي شيء، يتوقف فيها العالم عن جريانه والوقت عن اندفاعه. نصوص، عقيمة لا تعدنا لا بمطر ولا حتى ببرق خُلّب. والشعر عدوّ العُقم لأنه خَلْق دائمٌ للعوالم والصور والكيانات المسحورة وإعادة إبداع للغة ومدّها بالنسغ. الشعر لا يعيش رغدا بهيا إلا من خلال تِيمات على مدّ النظر!

الضيق، ضيق الأفق وضيق المفهوم عدو الشعر وسجنه القابض على الروح. فالشعر حركة دائمة من حيث المفهوم ومساحة حركته. سنعجب إذا ما نظرنا إلى تلك المسيرة التي قطعها منذ بدأ وجوده، من قُدرته على التحوّل والتعدد والتنوع والركض. سنعجب للياقته ومرونته وقدرته على إنتاج نفسه من جديد في كل عصر. سنعجب من تفاعله الخلّاق مع الذين يتّسعون لحركته ولمفهومه وسيولته. يمقت الشعر أولئك الذين يصرّون على حبسه في كهوف أو رميه مقيّد اليدين والرجلين في لجّة بحر. يمقت أن يفهموه على أنه صدر وعجز وقافية فقط. يمقت جدا أن يتركوا جوهره ويهتموا بشكله. يصرّ أنه قادر على العيش الحرّ الكريم في كل مكان مفتوح لأن المهم روحه ومعناه، فيجرّونه إلى الأقبية المظلمة كي لا يفضحهم، ويحشرونه في مقاطع كالمعلبات أو في تراكيب يُضطرُّ فيها على التكوّر والتقوّس والانحناء. فإذ به عندهم كيان مشوّه منطفئ العينين والقلب بينما هو في الأصل بهي الخلقة والهيبة والألق. يتدحرج مفهومه ككرة ثلج بدأت تدحرجها منذ بداية الخلق. وهل يُمكن لكرة كهذه أن تُحشرُ في خرمِ إبرة أو تفعيلتين؟

الرشوة، تراجيديا الشعر. حين يختار الداخل على الشعر تيمات مفصّلة على مقاس المتلقّي. فينافق من خلال الشعر ويداهن من خلال الشعر ويخطب ودّ الطُغاة من خلال الشعر، ويضرب بسيف السلطان من خلال الشعر، ويرقص مع البلاط تانغو من خلال الشعر. هذه المواضع التي يحوّل فيها الداخل على الشعر “شعره” إلى أداة انتفاع إلى مركب رواج وانتشار، هي هي تراجيديا الشعر وجنازته. في هذه المواضع يموت الشعر طوعا كي يولد على يد شاعر مُبدع في أماكن أخرى. تنتقل روحه على الفور من جسد النص المنصوص بفكرة الرشوة إلى نص خلّاق على صفحة مُبدعة أو مُبدع. أو تظلّ الروح محلّقة في الفضاء ريثما يتكون نص شعري فتحلّ فيه الروح ويحتفي به ذووه. ربّ داخل على الشعر ينافق داخلا آخر من أترابه وشلّته. هناك أيضا، لا يعيش الشعر بروحه وإن رأينا هيكله الخارجي على شكل أمسية أو طلّة منبر أو إطراء ممجوج كسيجارة من الحشائش البرّية. الشعر كائن عصيّ على الرشوة. فلا هو يرتشي ولا يُطيق الذين يحولنه قيمة يرشون بها. الشعر يكره أن يعيش في ظل قضايا وغايات لأنه القضية والغاية. الشعر ليس وسيلة لتحقيق منفعة أو مشروع. الشعر هو هو المشروع!

_________
*شاعر فلسطيني

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *