صحيح أنَّ النّقاش حول علاقة العرب بالتُّراث احتدم مع مطالع النَّهضة لكنَّني أرجّح أنَّه دار على نحو ما قبل ذلك ضمن اجتهادات فرضها اللّقاء بالآخرين وإن اتَّسمت هذه اللّقاءات بحديث عن الهويَّات المتواجهة لا عن مواجهة الحداثة كما صاغتها المركزيَّة الأوروبيَّة بعد الرينسانس. وقد شهد هذا النّقاش توتّرا في أوقات الأزمات العربيَّة ومع انكفاء مشاريع الدّولة على ما تعنيه من طموحات تحديثيَّة. أمَّا وإنَّ الأزمة اليوم شاملة فإنَّه ينبغي فتح النّقاش من جديد ليس من النّقطة الَّتي انتهى إليها في حينه بل من النُّقطة الَّتي وصلتها الأمور على صعيد قافة العربية وعلى صعيد فكرة الدَّولة وسيرورات العولمة.
نشير بدايةً إلى النّقاش حول العلاقة بالتراث نشأ بفعل مواجهة سؤال الحداثة الَّذي مثُل أمام العرب بكامل هيبته واستحقاقاته. وبهذا المعنى، فإنَّ فتح النّقاش إيَّاه مرتبط سببيًّا بالحداثة وتحدّياتها كما فرضها اللّقاء المتوتّر بالغرب، وهو لقاء صراعيّ في جزء منه نجم عن الاستعمار بأشكاله المعروفة، وهو حضاريّ كما رآه البعض بين شرقيي الهوى وغربيين، وهو إضافة إلى هذا وذاك، دينيٌّ، كما يُريد له أنصار الصَّحوة الإسلاميَّة الأولى والأخيرة، السّياسيَّة الثَّقافيَّة منها والتَّكفيريَّة العدميَّة، أيضا. وهو في مجمله نقاش هويّتي بين ذاتين تاريخيتين متخيّلتين سبق لهما أن تصارعتا من قبل ولا تزالان.
لقد دار هذا النّقش دائما على ثلاثة محاور وبينها. في الأوّل ـ دعوة واضحة إلى القطيعة مع التُّراث والتَّاريخ والنُّصوص والتَّعويل على ما أنتجه المركز الأوروبيُّ واعتماده، شرطا للنُّهوض. في الثَّاني ـ دعوة إلى غربلة التُّراث ونقده وترك ما تقادم منه والإبقاء على ما هو حيوي قابل للحياة. وفي الثَّالث ـ تيَّار اشتدّ ساعده مع الوقت وتحوُّل إلى دعوة صريحة للعزوف كليًّا عن النَّموذج الحداثيّ الغربيّ والتَّعويل على التُّراث بكلّ ما يعنيه من نصوص وصولا إلى المقدّس. بل استمدّ أنصار المحور الثَّالث قوَّة من تنظيرات فلسفيَّة في الغرب ذاته مثل التَّنظير القائل بعدم وجود هرميَّة قيميَّة بين الثَّقافات وأنَّ الأمور نسبيَّة. أو تلك التَّنظيرات القائلة بأزمة بنيويَّة للدّمقراطيَّة الغربيَّة وانتكاسة النَّموذج أو تلك المناهضة للعولمة كسيرورة ونظام.
إنَّ أنصار العودة إلى التُّراث، كانوا من أصحاب النَّزعة السَّلفيَّة القدسيَّة الدّينيَّة أو النَّظرة التَّاريخانيَّة غير المقدّسة، يأخذونا في سجالهم، وعلى نحو جدليّ، إلى أنصار القطيعة التَّامَّة مع التراث. فادعاء ما يُطرح في إطار المناظرة يقودنا دائما إلى الادعاء النَّقيض. وهنا الدَّعوة إلى القطيعة مع التُّراث على كلّ ما يعنيه. وهي دعوة تفرضها هذه العودة الجماعيَّة إلى التُّراث ـ الدّينيّ منه بوجه خاصّ ـ واستحضاره أفق للخروج من الأزمة الشَّاملة. بل كلَّما كانت الدَّعوة إلى التُّراث جذريَّة كانت الدَّعوة إلى القطيعة معه جذريَّة. فتجربة داعش والحركات التَّكفيريَّة من الشَّاطئ الغربيّ لأفريقيا حتَّى أفغانستان وجنوب شرق آسيا ـ الفلبين ـ بوصفها الشَّكل الأكثر تطرّفا للتّراث الدّينيّ، تجعلنا نطرح الشَّكل الأكثر تطرفا للتَّعامل مع التُّراث، وهو القطيعة التَّامَّة معه. لكن قبل أن نفعل علينا ببعض الإشارات المتَّصلة بالسّياق الَّذي نُجري فيه هذا النّقاش وهو ليس السّياق الَّذي جرى فيه في السَّابق. فلا المعطيات هي هي ولا البرادايم المتاح لنا اليوم كان متوفّرا في حينه. بمعنى، أنَّنا ندعي وجود أطر مفاهيميَّة جديدة يُمكن أن نُجري النّقاش بواسطتها وبأدواتها. وإلاَّ لنسخنا السّجال من حقبة زمنيَّة مضت وأوردناه هنا! وليس هذا القصد.
من الأمور الَّتي اختلفت بين شروط النّقاش في حينه وبين شروطه الآن، أنَّنا في زمن العولمة والحداثة السَّائلة وهو ما يعني زمن ضعف الدَّولة القوميَّة وتراجع سيادتها وأنظمة الحماية الوطنيَّة فيها لصالح القوى الوافدة عليها من خارجها. وهناك مَن يعتبرها “حداثة سائلة” بمعنى متحرّكة مثلما هي خطوط الإنتاج والعمالة والسّلع والرَّأسمال والمعلومات والأفكار وتنقلات البشر. في حينه، جرى النّقاش في إطار البحث عن النَّموذج الأمثل لنهوض المجتمعات العربيَّة ونجاح الدَّولة القوميَّة في تحقيق السَّعادة والرَّفاهيّة للإنسان المشارك في العقد الاجتماعيّ. أمَّا الآن، فنحن بصدد انهيارات الدُّول وتفككها الأمر الَّذي يجعل مستوى السُّؤال مختلفا ينفذ إلى صلب عمليّة الاجتماع بصيغة ما قبل الدَّولة. ومن الاختلافات الأخرى، أنَّ النّقاش إنَّما يجري الآن في ظلّ تمدّد التيّار التَّكفيري العدميّ ممثلا بـ“داعش” وسواها من حركات تستأنف على الدَّولة كمفهوم للاجتماع وتراهن على نموذج ساد قبل أكثر من 14 قرنا وتقترحه مخرجا للعالم وليس للمجتمعات العربيَّة فحسب. صحيح أنَّ فكرة الخلافة طُرحت من قبل ـ سيّد قُطب وحسن البنا مثلا ـ لكنَّها لم تأخذ الشَّكل ولا الاستحقاقات الَّتي تفرضها تجربة “داعش” في سورية والعراق. كما أنَّ محور السّجال انتقل من مستواه القوميّ وخطاب القوميَّة على ما يعنيه من تنظيرات (مقابل الغرب وقومياته الاستعماريَّة أو تطلعا إلى دولة قوميَّة) إلى مستواه الدّينيّ على ما يعنيه من خطاب الغيبيّ والمقدّس اللاَّ تاريخي. أخيرًا، إنَّ النّقاش حول علاقة العرب بالتُّراث تأتي اليوم في إطار الرَّدّ على مُخرجات ما بعد الحداثة وما بعد الدّولة وفي إطار نقاش أوسع بكثير يلفّ العالم حول معنى السّياسة والاجتماع في زمن الحدود الافتراضيَّة وجريان كلّ شيء بما فيه الأزمنة والأمكنة (كما يقول زيغمونط باومن).
العلاقة مع التُّراث تكتسب معاني جديدة في ظلّ الشُّروط الجديدة للسّياق الرَّاهن خاصَّة إنَّ حركة العودة إلى التُّراث كما تُعبّر عنها المذاهب المختلفة للإسلام السّياسيّ تنزع إلى جذريَّة عدميَّة كلَّما نزعت العولمة إلى دكّ “الحدود” واختصار المسافات ونشر الأفكار المقوّضة للاجتماع بالأشكال الَّتي عرفناها من خلال النَّماذج المختلفة للدَّولة الإقليميَّة. بل إنَّ نشوء دولة القوميَّة الوظيفيَّة (“Functional nationalism”) أو الدولة المدنيَّة (“Civil State”) والمدن الكونيَّة (“Cosmic cities”) والاتّحاد الأوروبيّ كصِيَغ جديدة للاجتماع والسّياسة يلقي بظلاله على مفهوم التُّراث وسؤال العلاقة به في سياقنا العربيّ. فأيُّ تراث عربيّ يُمكن أن يُجيب على سؤال إخفاق الاجتماع بصيغته العربيَّة ـ تفكّك الدُّول ـ وتفجّر الحروب الأهليَّة الشَّديدة العنف؟ إنَّ ما تمّ تجريبه من نماذج تراثيَّة في السُّودان وما هو متداول من أفكار سلفيَّة تنزع إلى العدميَّة قاصر عن مُفهمة المرحلة وجلّ ما يقترحه هو نماذج متخيّلة وهشّة لا يُمكنها أن تصمد حيثما فشت الدُّول ذات السّيادة في زمن تكرّست فيه ـ في حينه ـ الحدود الإقليميَّة ومبدأ السّيادة الوطنيَّة المدعومة بنظام الحرب الباردة. بل كأنّي بالمشاريع التراثيَّة كلّها لا تعدو كونها إرهاصات يريد بها أصحابها وقف جريان كلّ شيء كما أسلفنا. وكما حدث في المرات السَّابقة، يحاول أصحاب مشاريع التراث بإعادة السُّلطة الإلهيَّة وطرحها بديلا للسُّلطة البشريَّة وسلطة القانون والعقل كما يتجلَّى الآن في هذه النُّقطة من الزَّمن لإعادة صياغة الاجتماع البشريّ أو قُل هدمه إذا حكمنا على الأمور من زاوية التَّجربة التكفيريَّة لمجموعة كبيرة من حركات الإسلام السّياسيّ الجذريّ.
يقينا أنَّنا لن نستطيع تعقّل الواقع الرَّاهن للمجتمع البشريّ وبضمنه الإنسان العربيّ بتراث من أيّ نوع كان ولا بالتُّراث العربيّ والدّينيّ منه بوجه الخصوص. بل أرى في التُّراثيين الجذريين مجموعة من التَّسطيحيين الجهلة الَّذين اختاروا الكسل الفكريَّ على الاجتهاد وإنتاج النَّموذج الفكريّ والعمليّ لواقع مأزوم. فماذا سيُفيدنا أيُّ حديث من الأحاديث النَّبويَّة المسنودة أو المجروحة في حلّ ضائقة القصور في أداء الاقتصادات العربيَّة؟ أو في مواجهة التَّصحّر مثلا وسواها من قضايا البيئة والتَّلوّث؟ هل من حديث أو نصّ مقدَّس أو غير مقدَّس من لدن التُّراث ساعد من قبل في حلّ أزمة السَّكن في القاهرة وترييف دمشق وبتر نهوض بيروت؟ كيف يُعيننا الموروث بمعناه الشَّامل على الرَّبط بين الأطراف والمراكز أو تكريس كرامة الإنسان رجلا أو مرأة؟ وهل في التُّراث كلّه حلّ لتصريف الخلافات وآليات للتَّداول على السُّلطة؟
أسئلتي الآنفة عمليّة بمعنى تقصد فحص العلاقة بين التُّراث على مستوياته وبين قضايا وتحديات يوميَّة أمام المواطن والمسؤول العربيّ حيثما هو. وهي تحدّيات تتَّسع وتتسارع في ظلّ الانهيارات العربيَّة المتتالية. يُمكن للدَّاخلين في العقيدة التراثيَّة أن يجتهدوا ليُخرجوا حديثا أو سالفة لتأويلها فتشكّل إجابة على أسئلة نطرحها ـ لكنَّني أسمح لنفسي باعتبار مثل هذا العمل إهانة للعقل السَّويّ وضربا من التَّخريف.
أؤكّد على هذا لاعتقادي أنَّ العربيَّ ليس بحاجة إلى ماض يعيش فيه أو ينفض عنه الغبار ويجمّله ويطلوه من جديد بالورد وألوان قوس قزح بل إلى حاضر يتقدّم منه إلى مستقبل أفضل. صحيح أنَّ بناء الأمم والجماعات يستند إلى استثمار التَّاريخ والذَّاكرة لكن هذا الاستثمار محصور في مرحلة البناء ويصير قاتلا إذ اختزل عمليّة البناء وانكفأ إلى سياسات هويتيَّة تركّز على الانتماء وطلب الولاء للهويَّة الوطنيَّة بدل مواصلة التَّقدُّم بمشروع البناء نحو رِفعة الإنسان الفرد والجماعة. أقول هذا في ضوء الولع غير المبرّر في الثَّقافة العربيَّة السّياسيَّة بالوقوع في فخّ الهويَّة الجمعيَّة ومَثْلَنتها والاكتفاء ببنائها بدل المضي بالمشروع الأمَّة نحو تحقيق رفاهيتها. فالهويَّة لا تُقاس أبدا بماضيها بل بمشروعها السّياسيّ كما يُطبّق على الأرض. وهنا ـ لا يكفي الوعي بمن أنت كفرد وجماعة ـ بل هناك حاجة إلى ترجمة هذه الذَّات وتحقيقها. وهي لن تتحقَّق باستناد إلى تراث بل باستناد إلى ما أنتجته البشريَّة من نماذج وموديلات عمل في الإدارة وتصريف الحكم والحاكميّة والاقتصاد والتَّعليم وكلّ مرافق الحياة الأخرى. بمعنى، لا فائدة من الوعيّ بالهويَّة أو بالواقع أو بالتَّاريخ أو بالحاجة إلاَّ إذا اقترن بآليات وتدابير وأفعال تأخذ هذا الوعي من الفكرة إلى الممارسة.
أرجّح أنَّ أزمة اليونان الأخيرة مثلا مقابل الاتحاد ألأوروبي لم تُنتج تيَّارا تراثيًّا يونانيًّا يدعو للعودة إلى أيَّام الاسكندر المقدوني وأنَّه ليس في المجتمع الإسبانيّ أو الإيطاليّ من يدعون إلى العودة نحو فترات الرينسانس هنا أو هناك. ليس لأنَّهم لا يعرفون التَّاريخ بل لأنَّهم يراهنون على مُنجزات الحضارة البشريَّة والاجتماع الإنسانيّ دون أن يشعروا أنَّهم أقلّ وطنيَّة أو غيرة على مجتمعاتهم. وما دمنا ذكرنا إسبانيا أشير إلى أنَّني في ختام جولة طويلة في ربوع هذا البلد انتهيت إلى مقولة سجّلتها في دفتر رحلاتي : الإسبان يعيشون من التَّاريخ لكننا كعرب نعيش عليه”!