كتارا للرواية… جائزة باردة

*محمد العباس

لم تُحدث قضية سحب جائزة الأعمال غير المنشورة للروائي محمد الغربي عمران عن روايته «ملكة الجبال العالية» أي ضجة بأي شكل من الأشكال، إذ مرت في الأوساط الثقافية كخبر أقل من العادي، وكأن كل ما يحف بجائزة كتارا للرواية لا يشكل أي أهمية تذكر، تماماً كالجائزة ذاتها، التي لا يعبر الفائزون بها عن فرحتهم، ولا يعلن غير المتأهلين تذمرهم واحتجاجهم، ولا أحد يستفهم عن محكميها، ولا أحد يبدي شكوكه حول النتيجة النهائية، على الرغم من القيمة المالية الكبيرة للجائزة.
إنها جائزة لا يصاحب احتفاليتها أي صخب إعلامي، ولا تحيط بنتائجها الإشاعات والتوقعات، وتقريباً تتسرب نتيجتها شبه كاملة قبل الإعلان عنها قبل لحظة التتويج، والأغرب أنها لا تحضر في الإعلام إلا كمادة خبرية، فهي جائزة بلا إثارة، ولا مفاجآت، ولا تنافس، ولا نكهة ثقافية، وهو مآل يثير الدهشة والتعجب، كما يدفع للبحث عن سبب هذا البرود في جائزة مخصصة للرواية التي تشكل اليوم همّ الإنسان العربي وليس الأدباء وحسب.
ويبدو لي أن السبب الأبرز والأهم لهذا الخلل يعود في الأصل إلى فكرة الجائزة، فهي مجرد تقليد غير أصيل للجائزة العالمية للرواية (بوكر) التي قطعت شوطاً في هذا الصدد، واكتسبت من السمعة والمكانة ما يصعب زحزحتها عن مواقعها، بمعنى أنها صدى لتجربة راسخة، وبالتالي فلن تشكل في المشهد الثقافي إلا مصيدة أو فرصة إضافية للذين لم يحالفهم الحظ بالفوز في البوكر، فالرواية العربية بوضعها الحالي لا تحتمل أكثر من جائزة واحدة، لأن الإنتاج الروائي من الوجهة الفنية على درجة من الضعف، ووجود جائزة كبرى يسمح بامتصاص رحيق التجربة الروائية العربية إلى حد ما، وبالتالي فإن الذي اتخذ قرار تأسيس الجائزة لم يكن موفقاً ولا مطّلعاً بما يكفي على حال الرواية العربية، مهما قيل عن أهمية تشجيع الإبداع وتحفيز الروائيين على الكتابة النوعية.
كذلك يبدو أن القائمين عليها من المستشارين والمشرفين والمنظمين لا خبرة لهم بأجواء الجوائز والمنافسات الأدبية، ولا دراية لديهم بأهمية الإعلام الثقافي المصاحب للجائزة، حيث يتضح أنها جائزة بلا خبراء في فن التسويق، بقدر ما هي رهينة الإبهار والاستعراض الذي لا يمت للفن الروائي بصلة، فالجائزة بعد دورتين لم تستقر بعد على تاريخ معين يمكن ترقبه، كما أن من فازوا في الدورة الأولى لم يعد يتذكرهم أحد، إذ لا وجود للقراء المتلهفين على الأعمال المتأهلة، ولا أي مقاربات نقدية تذكر، كما أن الصفحات الثقافية اكتفت بالنتيجة المعلنة ولم تبحث لا عن أسماء الفائزين، ولم تسلط الضوء على منتجاتهم الروائية، في الوقت الذي لم يبذل فيه القائمون على الجائزة أي جهد ثقافي أو إعلامي للتعريف بالفائزين، وتوطينهم في المشهد الثقافي كنجوم، وأظن أن من حصدوا الجوائز في الدورة الثانية سيكون هذا قدرهم، الأمر الذي يؤكد سلبية القوى والعقول التي تدير الجائزة.
ومن يقرأ ما بين سطور البيانات القليلة الصادرة عن كتارا حول مقاصد الجائزة، ويتأمل إيقاع التنويه البطيء والرتيب عنها منذ نشأتها إلى لحظة الإعلان عن النتائج، سيلاحظ أنها مناسبة تكريمية أكثر من كونها مسابقة، وهو الأمر الذي يسهل على لجنة التحكيم اختيار الفائزين بالروايات المنشورة، لأن مهمتها تنحصر في انتقاء أسماء مرموقة ولها سمعتها الروائية لتتوج بالفوز، دون أن تدخل في صراع حقيقي مع الكُتّاب الجدد، ودون أن تضطر إلى تقديم المبررات لذلك التتويج، لأن معظم الفائزين يشكلون خلاصة التجربة الروائية التي كرسها الإعلام الثقافي، وعليه فإن الجائزة بكل هياكلها تبدو في مأمن من المساءلة، وهذا هو ما يفسر عدم اضطرار القائمين على الجائزة إلى إصدار أي بيانات حول فنية الأعمال المتأهلة، أما الروايات غير المنشورة فهي غير معلومة أصلاً للقارئ، ولا مجال للحديث حولها إيجاباً أو سلباً، وهذا هو ما يفسر أيضاً زهد الكُتّاب والنقاد والمهتمين في التعليق على نتائجها أسماء وروايات.
لم تقنع المؤسسة العامة للحي الثقافي (كتارا) القراء بجدوى وأهمية جائزتها، ولم تتمكن من تسويق فائزيها وتقديمهم كنجوم، وبالتالي فإن ما أعلنته في رؤيتها التأسيسية لجعل (جائزة كتارا للرواية العربية صرحاً لنشر الرواية العربية المتميزة، وأن تصبح كتارا منصة إبداعية جديدة في تاريخ الرواية العربية تنطلق بها نحو العالمية) يبدو هدفاً بعيد المنال، فلا مقدمات تذكر في هذا المجال، بل أن وجودها على المستوى العربي لا يتناسب مع السخاء المالي المصروف لتوطينها كجائزة منذورة لتعزيز (ودعم أدب الرواية العربية للارتقاء الإنساني بقيم الحق والخير والجمال وتأكيد الهوية الحضارية العربية من خلال ملتقى إبداعي لإثراء الوعي الثقافي)، وهو الأمر الذي يحتّم إعادة النظر في آليات عملها لإخراجها من طقسها البارد، فالمنجز الروائي العربي لا يحتمل كل هذا الكم من الجوائز دون إضافات نوعية.
قد يبدو التفكير بهذه الطريقة التصادمية فيه شيء من التطرف، وهو شكل من أشكال التساؤل والتأمّل المشروع، فالجائزة التي تعتبر الأكبر في هذا الحقل، الواعدة بالتأريخ للرواية العربية، لا يمكن أن تؤكد على وجودها بمنظومة من المقولات الإنشائية للفائزين والمنتفعين، بل بما تضيفه فعلاً إلى رصيد الرواية العربية وخطابها، وبما تقدمه من أسماء تجرب سردياً خارج المألوف والمعتاد والمستهلك، عوضاً عن تكريس الأسماء المكرسة أصلاً، فللتكريم مقامه وللتنافس منصاته وحلباته.
ليس بالمال وحده تنهض الرواية، بل بالعقول والضمائر الحيّة، بالإدارة الثقافية التي تثبــــت فعلاً لا قولاً أنها تعي أهمية المنتجات الثـــــقافية، أما الجائزة ذاتها فهي ليست حفلة كوكتيل عابرة، بل ينبغي أن تكون جهداً معرفياً أدبياً لإبراز (الدور الـحضاري البناء الذي يقوم به الروائيون العرب في إثراء الثقافة الإنسانية عامة والأدب العربي خاصة) كما جاء في الأهداف الرنّانة للجائزة.
________

*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *