خاص- ثقافات
*حاوره ميمون حـرش
منذ فترة بدأ الدكتور جميل حمداوي ينشر مؤلفاته المثمرة، والكثيرة، والمتنوعة والموزعة بين الأدب، والفلسفة ، والتربية ، والتكنولوجيا، وعلم الاجتماع، والتاريخ ، والفن ، ومقارنة الأديان؛ ويتركها رهن إشارة القارئ في الفضاء الأزرق حيث تتقاطر ، و تنساب مطراً خفيفاً، تخصب تربة المهتمين والسائلين والباحثين ، يهديها لأصدقائه، وأحبابه ، دون أن ينسى أحداً أبداً..وأصبحت تتقاطر عليه، كلما نشر مؤلفاً جديداً، تعليقاتٌ كحبات الرمل شاكرة، ومنوهة ، ومعبرة عن دهشة، أظهرها الكثيرون بكثير من الإكبار ، ويخفيها الآخرون لسبب ما، وهم كثر أيضاً..
الدكتور جميل حمداوي عندما يرسم على وجهه ابتسامة وهو يتصفح كتاباً.. وعندما يقرأ عنوان كتاب ما، ويغرق في فك شفرته،…وعندما يقرأ المتن، ويحس أن جسده يتنمل كما الحشرات تخزه بسبب ما يقرأ،… وعندما يقف عند معارف الكتاب يسجلها، ويعلق عليها،وعندما يحس براحة رطبة تُستثار داخله بفعل وقع الكلام الجذاب الأنيق الشاعري على نفسيته وهو يقرأ… عندئذ يصبح الدكتور جميل حمداوي شخصاً آخر، يكبر أمام الكتاب، يصبح كما هو الآن كبيراً في مجال التأليف..
الرجل يرتاح حين يرى كتاباً، قد ينام ملء جفونه عن بعض ضرورات الحياة، لكن الكتاب، وحروفه، وكلماته تجعله في منتهى الصحو..
كتب عنه الأستاذ حسن الطويل معلقاً :
“الأستاذ الجميل، عطاؤك المتواصل هذا يثير فينا دهشة جميلة، دهشة الإكبار والإجلال. ألتمس منك أن تكتب عن تجربتك مع الكتابة؛ تعاملك مع الوقت، خطتك في الإعداد للموضوع، تعاملك مع التخصصات… أنت حقا لست كاتباً عادياً. تقديري”
مرحباً بك دكتور جميل في حوارت ” العرين ” وفي لقاء خاص حول تجربتك في التـأليف..
س- تنشر مؤخراً كتبك بأريحية منقطعة النظير.. هذا الجود يعجز القارئ عن أن يفيك الشكر الذي يليق بك…
صحيح أنني نشرت مجموعة كثيرة من الكتب الإلكترونية التي نشرت ورقيا. وهناك كتب تنتظر لحظة الطبع والنشر الورقي. والهدف من ذلك كله هو خدمة وطني وأمتي والإنسانية جمعاء. فهدف الإنسان العالم، في هذه الأرض، ليس هو احتكار المعرفة وتخزينها ، بل لابد أن يشرك الآخرين في بنائها ومعرفتها والانفتاح عليها بغية توطيد الحوار الهادف، وتحقيق التواصل الحميم البناء، والسعي الجاد إلى خلق نوع من التفاعل المباشر .
ومن هنا، فقد قدمت كل ما لدي إلى القارىء، بمختلف مستوياته ودرجاته العلمية، لكي يستفيد منه لتقوية مستواه المعرفي والمعلوماتي والفكري والمنهجي، دون تقتير، أو بخل، أو ضن، أو شح. و هذا كله في سبيل الله تكفيرا عن أخطائي وذنوبي وسيئاتي.
س- ما قصتك مع التأليف بهذا الزخم المتواصل في الآونة الأخيرة؟
سؤال مهم. قد يفهم الكثير أن ذلك من أجل إثبات الذات، أو من أجل تحقيق الشهرة، أو من أجل الظهور، أو لميل نرجسي أو سادي أو مازوشي، أو لهدف تنافسي، أو لإثارة الغير من أجل الانتباه إلى هذا الباحث المسكين. فالدواعي والأسباب كثيرة كما يراها الآخرون. يمكن أن تكون تلك الدواعي صحيحة بحال من الأحوال، مادمنا ذواتا بشرية ضعيفة، قد ينخرها الإعجاب بالذات، أو تنساق وراء الغرور والتكبر والخيلاء، ونعوذ بالله من هذا كله…
بيد أن هدفي هو إخراج مجموعة من الكتب القديمة ونشرها بسبب قلة الإمكانيات لطبعها ورقيا. والهدف الثاني هو تقريب كتبي ورسائلي ودراساتي وأبحاثي من التلاميذ والطلبة والباحثين والمدرسين بأبسط الوسائل الممكنة.لذا، اخترت النشر الإلكتروني وسيلة ناجعة لتعريف القراء بإنتاجي المتواضع. ويعد الفايسبوك – اليوم- أداة تواصلية فعالة لخلق نوع من التفاعل المباشر وغير المباشر مع الراصد المتقبل لتبادل الأفكار والمعارف والبيانات. وأكتب كذلك طمعا في صدقة جارية تنفعني بعد موتي، إذا رضي الله – فعلا – عن ذلك العمل.
س- أتخيلك كما لو كنت في حرب ضروس مع ” الكتاب”،بين يوم وأخر كتابٌ جديد..هل هو حب، أم عناد، أم انتقام.. أم ماذا بالضبط؟
لا يمكن للكاتب، أو الناقد، أو الباحث، أن يثبت نفسه في زمن يتميز بشدة التنافس في جميع المجالات، بما فيها السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، إلا بفرض وجوده علميا وفكريا كما وكيفا. ويعني هذا أن التطور الذهني والمعرفي ، وجودة الإنتاج، وتحسين المردودية، يتحقق ذلك كله بالكم والكيف معا.
وأكثر من هذا فقد كان علماؤنا القدامى، في العصر الوسيط، أكثر إنتاجا من حيث التراكم الكمي والكيفي. ومن ثم، لابد أن يكون الناقد، أو الباحث، أو الدارس، دائم الوجود في المواقع والفضاءات والحقول التي يتواجد فيها القراء والمتصفحون والفايسبوكيون من أجل خلق نوع من التواصل والتفاعل والتبادل الهادف والبناء.
س- عطاؤك ، فعلاً، يثير فينا دهشة جميلة، هل تقصد أن تستثير القارئ بهذا العطاء المتواصل ؟
ج- يمكن أن يكون ذلك صحيحا. يقول المثل الشكسبيري: كن أو لا تكن، فذلك هو السؤال(To be or not to be.That is the question).
كلنا نتصارع ونتبادل ونتواصل من أجل إثبات ذواتنا. وهذا حق مشروع في زمن التنافسية والتغير والتبدل. ويمكن القول: إن الهدف من ذلك هو تجاوز مرحلة التنكير نحو مرحلة التعريف. وربما يكون الهدف كذلك هو خدمة الآخرين، كما وعدت الله بذلك في أدعيتي المتكررة والمتواصلة والمستمرة، والله شاهد على ذلك.
س- هل كتبك مقروءة دكتور جميل ؟ وهل لهذا التأليف المتنوع والمتواصل رجع صدى لدى القارئ ، وما هي تجلياته؟
نعم كتبي مقروءة بكثرة. والدليل على ذلك إحصائيات موقع الألوكة الإلكتروني الذي يبين، مثلا، عبر مؤشر الكم، ومؤشر التعليقات ، مدى إقبال القراء على تلقي تلك المقالات والكتب. فعدد قراء كتابي (ميادين علم الاجتماع ) هو( 20.810). أما مقالي (المفاهيم السوسيولوجية عند بيير بورديو)، فعدد قرائه هو (39.992). وعدد قراء مقالي (أصول الإنسان الأمازيغي ) هو (153.788).
وتتجاوز كتبي الورقية- كما أتثبت إحصائيات مكتبة سلمى بتطوان- ستمائة (600) نسخة في المغرب. وقد أخبرني صاحب مطبعة أفريقيا الشرق برواج كتبي النوعية، وتدفق القراء الخليجيين على شرائها في كل معرض تقيمه دولة من الدول العربية. أما مقالاتي الأضعف قراءة، فتتجاوز الألف مع مرور الوقت.
وتعني هذه الأرقام الصريحة أن ثمة إقبالا كبيرا من قبل القراء العرب.والدليل على ذلك أن هناك من يهاتفني ويراسلني ويدلي بإعجابه بإحدى مقالاتي أو كتبي. و لذلك، تطبع كتبي في مصر، والجزائر، والأردن، ولبنان، والسعودية، والكويت، والإمارات العربية المتحدة، والعراق…وقد ترجمت مقالاتي إلى الكردية والفرنسية.
أضف إلى ذلك أن مقالاتي وأبحاثي ودراساتي أصبحت مراجع ومصادر مهمة، يعتمد عليها كثير من الباحثين في المعاهد والمؤسسات والكليات والجامعات المغربية والعربية على حد سواء.
س- كتبٌ كحبات الرمل تنشرها، وبل و تتكرم وتهديها للقارئ…وبالنظر إلى تنوع الموضوعات التي تكتب عنها،حدثنا عن تجـربتك في الكتابة، وكيف تنظم وقتك مع هذا التنوع، ألا تختلط عليك الأوراق حين تكتب وفي تخصصات مختلفة؟
أولا أشكر الله كثيرا على ما أمدني به من نعم ومواهب وقدرات وكفايات وملكات، وأحمده على ذلك بجزيل الامتنان والتبجيل والتعظيم.
وعليه، فقد بدأت تجربة الكتابة منذ 1996م. بل منذ أن كنت تلميذا في الإعدادي ؛ إذ نظمت مجموعة من القصائد الشعرية العمودية وفق الإيقاع الخليلي. وكتبت كتبا في فقه اللغة والنحو العربي .وبعد ذلك، انطلقت في التأليف في أثناء إعدادي للدراسات العليا ، وتحضير الماجستير والدكتوراه.
ولكن أحسن فترة انطلقت فيها بسرعة هي تلك الفترة التي تمتد من 2007 إلى يومنا هذا. ولقد استفدت كثيرا من أخطائي الكثيرة والعديدة في مجال الكتابة ؛ لأن الذي يكتب كثيرا يخطىء كثيرا. وقد بدأت حياتي الثقافية الحقيقية بمقال أعجب به الكثيرون ، وقد نشرته في مجلة عالم الفكر سنة 1997م بعنوان (سيميوطيقا العنوان). وأنذاك، كنت شابا في أربع وثلاثين سنة.
وتأسيسا على ما سبق، أكتب معظم أبحاثي وكتبي ودراساتي في الصباح الباكر. في حين، أخص المساء بالتثقيف والقراءة والراحة والجلوس في المقهى مع أصدقائي الأعزاء في مدينتي الناظور وتطوان ، أمثال: ميمون حرش، وجمال الدين الخضيري، وأحمد المخلوفي، ومحمد الفهري، ويوسف الفهري، وخالد البقالي القاسمي ، ومحمد بنعياد، وغيرهم من الأصدقاء الأعزاء الأوفياء الذين غمروني بحبهم، وفضلهم، ونبلهم، وكرمهم.
ولا أنسى الأخ العزيز على قلبي عبد الهادي بنيسف وحرمه اللذين أسديا إلي معروفا كبيرا لن أنساه طوال حياتي.
وعندما أبدأ في التأليف، أستعمل الحاسوب مباشرة في الكتابة ، وأخطط لكتابي، أو مقالي، وفق منهجية واضحة ، تبدأ بالمقدمة، وتنتهي بالخاتمة وثبت المصادر والمراجع والملاحق، مع المرور – طبعا- بمجموعة من الأبواب، والفصول، والمباحث، والمطالب، والفروع. وأتبع منهجية أكاديمية منطقية واضحة وواحدة سهلة وميسرة. وبالتالي، أكتب بلغة سليمة معروفة ومألوفة لدى الناس ، وبأسلوب بيداغوجي واضح وبسيط وسهل، كأنني أكتب لتلميذ في الابتدائي، أو الإعدادي، أو الثانوي، أو لطالب جامعي مبتدىء.
ولا أنزل جملة في كتابي، أو مقالي، حتى أتبين من وضوحها وبساطتها وسهولتها، ومدى قدرة القارىء على استيعابها. لذلك، يفهم القراء كتاباتي بكل يسر وسهولة حتى في دراساتي المتخصصة في اللسانيات، والسيميوطيقا، والمناهج النقدية. ويجد الطلاب كذلك راحتهم الكبيرة في أبحاثي ، فيستشهدون بها في بحوثهم وعروضهم ودراساتهم الجامعية ؛ لأنها ميسرة، ومركزة، ومقتضبة، ومختصرة، وشاملة ، تبدأ دائما بتعريف المفهوم لغة واصطلاحا.ثم، تشرع في التأريخ والتحقيب والتوثيق، وسرد الخصائص الموضوعية والفنية، واستعراض النظريات الغربية والعربية. وبعد ذلك، تنتقل إلى التطبيق والتجريب والاستنتاج .وهكذا دواليك.
وكثير من المتخصصين المتفيهقين يفهمون هذا الوضوح على أساس أنه سطحية وبساطة وسذاجة في التفكير. في حين، أتعمد تلك الكتابة البيداغوجية من أجل التبليغ والتوصيل وتنوير المتلقي بأيسر الطرائق والسبل، كما فعل ذلك علماؤنا وشيوخنا الأفذاذ كمحمد عابد الجابري، وعباس الجراري، ومصطفى رمضاني، وغيرهم كثير…
وقد قال المبدع الفرنسي ستندال: إن الكتاب العباقرة هم فقط الذين يكتبون بأسلوب بسيط. ويقول الأسلوبي الفرنسي بوفون الكاتب هو الأسلوب نفسه. والحمد لله لدي بصمتي في الكتابة. وبالتالي، فكتاباتي معروفة بطريقتها المنهجية الواضحة والبسيطة التي تبتعد عن التعقيد، والغموض، والإبهام، والتجريد…
س- أقصد ألا تكرر نفسك .. هل تضبط ، وأنت تكتب، المادة المُعالجة في مؤلفاتك؟ ما هي خطتك في الكتابة العجيبة هذه ؟
يلاحظ – فعلا- نوع من التكرار في الكتابة التي أميل إليها. ولكن أرتاح إليها بشكل جيد، مادامت تنطلق من توجهات بيداغوجية وتعليمية وديدكتيكية؛ لأني أوجه كتاباتي إلى تلاميذ وطلبة وباحثين مبتدئين. وتتوجه حتى إلى المتخصصين بهذه السهولة ” النزارية”، أو “المطرية”، أو ” الدنقلية”. والتكرار- كما يقول المثل- يفيد الآخرين، ويقوي ذاكرتهم الذهنية والمعرفية .
وعندما أكتب أصحح كتبي ودراساتي ومقالاتي وأبحاثي مرات عدة. وعلى الرغم من ذلك، أسقط في الأخطاء مرات ومرات عندما أنشر ما كتبته، وألوم نفسي على ذلك وأتحسر. ويعني هذا أن الإنسان ناقص وقاصر عن الإحاطة بكل شيء.كما تؤثر أشعة الحاسوب كثيرا في قدرات العينين؛ مما يجعلها تسهو أو تغض الطرف عن أخطاء صغيرة أو كبيرة. وهذا شيء طبيعي لمن يكتب كثيرا. فالذي لايخطىء في الكتابة هو الذي لايكتب إطلاقا.
بعد أن كتبت ماهو مألوف ومجتر من المواضيع عندما كنت مبتدئا في الكتابة، وكنت أعتمد على استشهادات الباحثين المغاربة والعرب، وبعد أن تتلمذت على كثير من الأساتذة والباحثين والدكاترة المتميزين ، انتقلت توا إلى خوض تجربة الحداثة وما بعد الحداثة، بالاعتماد على المراجع الأجنبية، ولاسيما الفرنسية والإنجليزية والإسبانية منها. وقلما أعود فيها إلى الباحثين العرب إلا في حالة الضرورة القصوى.
وتعتمد فلسفتي في الكتابة على الكم والكيف معا ، فبهما يتحقق التطور الجدلي، وتتحسن كتاباتي ، وتتقوى ذاكرتي، وتعجبني مغامرة التجريب والتأسيس والتأصيل.
س- هل يمكن الحديث عن طقوس معينة للدكتور جميل في التأليف ؟
في البداية، كنت أكتب في الليل والفجر. وبعد كبري في السن، خصصت الصباح للكتابة. أما المساء، فخصصته للاختلاء بأصدقائي كما قلت ذلك من قبل. أدخل إلى مكتبي العامر بالكتب والمؤلفات النفيسة في شتى الميادين والمجالات المعرفية . أسمع الموسيقا وأنا أكتب، أو آكل وأنا أكتب، أو أشرب الشاي أو العصير وأنا أكتب. وأصحح مقالاتي وأضبطها وفق الأغاني السوسية، أو الأغاني العربية الكلاسيكية، أو أغاني الراي والركادة والواي واي . وبعد ذلك، أنشر ما كتبته رقميا وورقيا.
س- ما هي الردود التي تثيرك حين تنشر كتبك إن إيجاباً أو سلباً..؟
هناك ردود إيجابية وسلبية. ما يثيرني كثيرا هو وقوعي في الأخطاء المشينة كرفع خبر كان، أو نصب خبر إن، أو نسيان حرف جر مرتبط بفعل معين، أو نسيان عبارة ، أو وضع علامة ترقيم في غير محلها. تثيرني – فعلا- هذه الأخطاء كثيرا . وتستفزني ألما وحرقة ونصبا، وخاصة أني أكتب مقالا في عشرين صفحة أو أكثر، وكتابا في خمسين صفحة إلى خمسمائة صفحة. كما أكتب بسرعة كبيرة، وأكتب كثيرا، ولم أعد – الآن- قويا كما كنت في شبابي. ومن ثم، فإني أحس بالعجز عن تطويق الأخطاء من جميع جوانبها حتى أتفاجأ بخطئي، أو يفاجئني القراء أو الأصدقاء بذلك.
أما الردود المتعلقة بكثرة الكم، والموسوعية، وعدم التخصص في موضوع معين، أو الانسياق وراء النشر الإلكتروني بشكل لافت للانتباه، أو السرقة في بعض الأحيان كما يتهمني بذلك البعض، فهذا لايثيرني في شيء ، بل أرد على أصحابها بأسلوب لبق شرحا وتوضيحا وتفسيرا.
لكن هناك من يهاجمني انتقاما عن سبق الإصرار والترصد ليفرغ علي حقده وحسده وبغضه. ولا يكون هذا الفعل المشين الشخصي إلا من الأقربين إلي في المكان والهوية. ولكني سامحتهم في الدنيا والآخرة.
س- لا أحد يشبهك في التأليف ، أنت لا نظير لك في تعاملك مع “الكتاب”..من أين تأتي بهذه القدرة العجيبة ، وبهذه الفصاحة كلها في الوقت الذي يتوه التعبير على فم الكثيرين؟
هذا من فضل الله سبحانه وتعالى . وأشكر الله الذي وهبني هذه النعمة بعد أن دعوت الله كثيرا فاستجاب لي.
بعد أن قال لي أستاذي الدكتور محمد الشامي ذات يوم ، وأنا بصدد تحضير بحث في الإجازة في الشعر الأمازيغي، ” أنت لاتعرف اللغة العربية كما يبدو لي من خلال بحثك”.
وقد أحسست ذلك اليوم بشعور غريب وموحش، ينم عن ذلتي ومهانتي ونقصي وحقارتي. وقد كنت، في ذلك الوقت، أستاذا للغة العربية في السلك الإعدادي. وقد بذلت نوعا من الجهد في ذلك، لكني لم أستفد إلا من مؤطر كفء هو أستاذي العظيم الدكتور مصطفى رمضاني الذي علمني آليات الكتابة من جهة، وعرفني بضوابط اللغة العربية من جهة أخرى. ومن ثم، سرت أحتاط كثيرا في كتابتي، وأتخوف من ذلك كثيرا، لا أكتب جملة حتى أفكر فيها مرات عدة ، وأعود إلى مقالاتي مرات ومرات حتى أصححها وأجودها وأنقحها كما فعل زهير بن أبي سلمى من قبل. ولايعني هذا أنني، الآن، لا أخطىء، بل مازلت أخطىء إلى يومنا هذا، ولكن ليس بالشكل الفادح كما كان في السابق.
س- هل هناك كاتب مثلك في الوطن العربي، في مثل امتلاك هذه ” العصا” السحرية في التأليف ، وفي ميدان مختلفة، وبهذه الغزارة اللافتة؟
نعم هناك الكثير من الباحثين من يمتلك هذه الأداة. فهناك المفكر الكبير عباس الجراري، والعلامة محمد عابد الجابري، وعبد الفتاح كليطو، ومصطفى رمضاني، وجابر عصفور، وطه حسين، ومحمد مندور، وعزالدين إسماعيل، وإحسان عباس، وغيرهم كثير…
ويعد المصريون من أكثر كتاب العرب موسوعية ، وأكثرهم خوضا في مجالات متعددة كما وكيفا، كأنيس منصور، وطه حسين، والعقاد، وغيرهم…
س- التأليف في ميادين كثيرة ، ومتنوعة ، وتخصصات متفرعة ،كما هو الشأن معك،هذا الأمر هل يعينك على الغوص في امتلاك ناصية الجديد أم عامل على السقوط في الضحالة؟
ساعدتني الموسوعية كثيرا على التميز من جهة أولى، والخوض في المواضيع التي كنت أجهلها من جهة ثانية، والتسلح بآليات جديدة لتطوير النقد الأدبي من جهة ثالثة. فقد ساعدتني العلوم الإنسانية والفلسفية والعلوم التجريبية في مناقشة مسائل معقدة ومتميزة ، كالخوض في العوالم الممكنة، وتوظيف المنطق في الأدب، ودراسة الأنساق المتعددة، والتعمق في البيداغوجيا وفق مقاربات متعددة التخصصات. ومن ثم، لايمكن للباحث أن يمارس النقد الأدبي في غياب الفلسفة والمنطق واللسانيات والعلوم الإنسانية والتجريبية.
س- أنت صديق طفولتي ، وأشهد أن أول كتاب ألفته ، وأنت لا تزال تلميذاً، كان عام 1985، وفي فقه اللغة؟ ..أريد : كنتَ مرشحاً لما أنت عليه من الشهرة في التأليف؟ حدث قراءَك عن أول كتاب ألفته؟
أول كتاب ألفته كان ذلك في السنة الأولى من الثانوي مع صديقي القاضي عبد الله سنة 1980م بعنوان (تاريخ الأدب العربي)، كنا نقلد فيه حنا الفاخوري. وإن كنت قد نظمت قصائد شعرية قبل ذلك في السنة الثالثة إعدادي وفق العروض الخليلي، فقد أبدعت قصيدة شعرية وفق البحر المتقارب . وبعد ذلك، نظمت قصائد متعددة، ففازت قصيدة منها بجائزة الإبداع بمدينة الناظور، بالتباري مع مجموعة من المدرسين المصريين .
وبعد ذلك، ألفت كتابين في الجامعة: كتابا في فقه اللغة، وكتابا في النحو الذي أثار إعجاب أستاذ المادة وأساتذة اللسانيات بكلية الآداب بوجدة في 1985م؛ لأني طبقت منهج القرائن لتمام حسان، أو ما يسمى أيضا بالبنيوية الوصفية، على درس الفاعل في اللغة العربية. وبعد ذلك، حولت تفاصيل الكتاب إلى بحث تربوي نشر سنة 1987م بالمجلة التربوية في الكويت بعنوان (تدريس النحو العربي في ضوء منهج القرائن).
وفي الجامعة بوجدة وتطوان، قدمت مجموعة من العروض في الرواية، والنحو، والنفس الإنسانية، والمناهج النقدية، والرواية اللغوية، والشعر الجاهلي…
س- التأليف مثل لذة الشراء كما يقول أحمد أمين ، نحزن إذا اشترينا، ونحزن إذا لم نشترِ..هل يحصل معك هذا؟ هل أنت راض عما تكتبه؟
لست راضيا على كتاباتي السابقة، وإن كانت كتابات تأسيسية وتمهيدية وتجريبية علمتني الكثير من الأشياء. ولا أريد عرضها في المواقع الإلكترونية؛ لأني أخجل من نشرها لكثرة أخطائها. لكني أرضى على بعض الكتابات، ولا أرضى على الأخرى. ويعني هذا أن ثمة مستويات مختلفة من حيث الجودة والجدة والتميز. بتعبير آخر، أكون مقلدا في بعض دراساتي، وأكون مجددا في دراسات أخرى.
س- ألم يحدث مثلا أن استيقظت يوماً، ونظرت في المرآة، ومدتْ لك صورتُك لسانَها قائلة : ” ألم يئن لهذا الفارس أن يترجل؟ ويكف عن هذا الهراء/ أقصد التأليف ؟
فعلا، قررت مرات متعددة أن أتوقف عن الكتابة ، فقد اعتبرتها مضعية للوقت والطاقة والجهد؛ لأنها دفعتني إلى الانشغال بأمور الناس والوطن والأمة على حساب أسرتي الصغيرة والكبيرة.
وأكثر من هذا أنني لم أستفد شيئا من هذه الكتابة ماديا ومعنويا. ولكن عندما أتذكر فضل الله ونعمه علي، أبعد عني كل الوساوس الشيطانية، ثم أتجلد لأنطلق مجددا كبروميثيوس، أو يوبا الثاني، لأخوض تجربة الكتابة والنشر والتأليف إلى أن تنشب المنية أظافرها في روحي.
وقد سعدت، الآن، بأجواء عالم الكتابة ، وأحس بالسعادة المطلقة، وأستشعر النشوة الممتعة. ولا أستطيع التخلي عنها حتى أموت في رحمة الله وحبه وملكوته.
س- إذا كان الروائي السوري الكبير حنا مينة يعتبر الكتابة ” مهنة حزينة“، فالدكتور جميل حمداوي، بسبب غزارة إنتاجه، يعتبر الكتابة مهنة تَسُر الكاتب والقارئ معاً… هل أنا مصيب في هذا ؟
الكتابة هي التي تعطي الحياة للمبدع، أو المثقف، أو الباحث. ويعني هذا أن الكتابة هي إكسير الحياة، وسر الوجود والأنس والحرية والاستقرار والسعادة والفضيلة والكمال. فهل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون. ولم يقل الله جل شأنه: هل يستوي الذين يملكون والذين لايملكون.
ويعني هذا أن الإنسان يتميز عن البهيمة الحيوانية بالمعرفة والعلم والثقافة، بشرط أن يعطي منها للآخرين، ويسعدهم بذلك أيما سعادة. وفي المقابل، لاينبغي أن يكون الباحث، أو المبدع ، بخيلا أو شحيحا ينشر من أجل حفنة من الدراهم والدنانير، بل لابد من التضحية والإيثار والغيرة على الوطن والأمة والإنسانية جمعاء. فلابد أن يتسلح المبدع، أو الباحث، أو المثقف، بفلسفة الجود والعطاء والكرم، ويتمثل رؤية كونية متسامحة ومتعايشة وخيرية .
س- ما هو معيار الكاتب الناجح برأيك ؟ وهل هناك معيار أصلا؟
الكاتب الناجح هو الذي يأتي بالجديد، ويكتب بأسلوب بسيط وواضح وسهل كما وكيفا، وينفع الآخرين بعلمه حسب طاقته وإمكانياته . ويبحث عن أسلوب يخصصه ويفرده ويميزه عن الآخرين، أو يبحث عن صوته التعبيري الخاص به حتى يعرفه الناس بذلك الأسلوب. وعليه أن يجمع بين الأصيل والمعاصر في بوتقة فنية وجمالية واحدة.
س- كان حنا مينة يرفع شعاراً أحببته كثيراً منه وهو ” اقتلوا العادية” في التأليف، والحياة بشكل عام ..هل تقتل أنت ” العادية” فيما تكتب دكتور جميل ؟
بعد أن كنت كاتبا عاديا أجتر السائد والكائن، انتقلت ، بعد ذلك، إلى التجريب والإبداع والبحث عن الجديد في كل شيء. فقد قدمت تصورات جديدة تتعلق بالمسرح والنقد والقصة القصيرة جدا. ثم قدمت نظريات في مجال التربية والتعليم والكتابة الشذرية .ومازلت أقدم الجديد في النقد الأدبي بصفة خاصة، باستلهام آليات العلوم الإنسانية والتجريبية لإغناء الكتابة النقدية والأدبية والبحثية.
س- مرات عديدة ألومك لأنك لا تملك سيارة، وطبعاً لا تعدم وسيلة في امتلاك أحسن الموديلات، لكنك في جوابك تدهشني و تقول : حسبي ولدي و صديقي وكتابي؟ أإلى هذا الحد تعشق الكتب ؟ وهل تحتفظ بهذا الرأي رغم انحسار الكتاب ، وعزوف الناس عن القراءة؟
ما يهمني هو الاحتكاك بالناس قاطبة، والطمع في صداقتهم، والرغبة في التواصل معهم حتى أستفيد منهم، وأنغمس في مشاكلهم حتى تتعمق رؤيتي وتتضح أكثر فأكثر. فتجدني دائما أتتبع أخبار المجتمعات، وأهتم كثيرا بالسياسة والحروب والاقتصاد.
ومن باب العلم يعجبني الاقتصاد كثيرا نظرا لعلاقته الوطيدة بالسياسة، ضمن ما يسمى بالاقتصاد السياسي. لذا، أعطي الأولوية للكتاب والآخرين ، ولاتهمني حياتي الشخصية إلا إذا كانت ستفيد الآخرين .
– تحية إجلال وإكبار دكتور جميل، كلمة أخيرة رجاء ..
ج- أشكر المبدع القدير ميمون حرش الذي مازال يرافقني في حياتي العادية والثقافية، ويعرف سري وعلني، ويقف بجانبي في السراء والضراء. فميمون حرش نعم الرجل الإنساني، ونعم المثقف المتمكن، ونعم المبدع المتميز .