حين يقْبل الإنسان من تلقاء ذاته بكل ما أوتي من كرامة وأُنفة واعتزاز بالنفس أن يصير عبدا خاضعا أسيرا تحكمه طاقة عُليا تفوقه قوة ومجدا وسلطة، يكون هذا الإنسان إما عاشقا مُتيما، أو ضعيفا بلا حول ولا قوة، أوتابعا لا يدري أين يقوده جهله..
_ مممم، كأنك تحاول شدي لموضوع ما، أكمِل،
قد تبدو عبارة “أن تحب جلادك، ما أجمله من حب” (أو حتى الجُمل الأولى من هذا النص) عبارة شاذة وفيها من التحقير ما فيها من الاشمئزاز والخجل من سنوات الاستعباد التي يحاول الإنسان جاهدا نسيانها وتجاوزها بنُصرة حقوق الإنسان والتعلق بالمواثيق والقوانين. لكن ورغم ذلك هناك مِن الإنسان مَن يستحلي العبودية ويقدسها ولا يعيش إلا عبدا، كعبيد السلطة وعبيد المال وعبيد الشهوات وما إلى ذلك، وإني وإن كنت إنسانا عزيز النفس ذو أنفة وكرامة وتعلق بحقوق الإنسان فإني ممن يعترفون بكونهم لا يقدرون على العيش إلا عبيدا !! فالعبودية اخترتها طوعا وعشقا، حبا وتعلقا، وإن كنت زاهدا درويشا ذو أسمال وأطمار أَجُرُّ خَلَقَ كِسوتي وأمشي في الأسواق مطأطئ الرأس مرتخي الأكتاف فإني مشدود إلى الدنيا بل ومشدود إلى…
_ عذرا على المقاطعة، ولكن كيف تكون درويشا زاهدا ثم، مشدودا إلى الدنيا؟ عِلمي أن الدراويش لا تَحُول بينهم وبين الخالق أمور الدنيا، فما زعمك؟
لا بأس في المقاطعة، قلتُ إنني مشدود إلى الدنيا، بل ومشدود إلى الأصل منها وفيها، مشدود إلى الجمال، إلى الحب، إلى الطبيعة، إلى الموسيقى، إلى الفن، مشدودة روحي إلى روحها
_ وهل للروح روح؟
ربما، أو هي نفسها خارج الجسد، وهي نفسها أسيرة الجسد، تمعّن وتخيل: وأنت في غمرة الصمت، انسابت إلى مسمعك مقطوعة موسيقية أطربت روحك، وجعلتك تتخلص من كل الأدران التي علقت بك منذ زمن، وصرت تحس نفسك خفيف الروح بعدما كنت ثقيلها، ألا تحس أن روحك كأنها ارتشفت كوب ماء بارد بعدما كانت حارة ظامئة، ألا تحس أنك امتلكت روحا أخرى بدل تلك التي أتعبتها وأتعبتك، بالنسبة لي، تلك المقطوعة هي بمثابة روح أخرى (أو روحي نفسها) في هيأة مقطوعة موسيقية، وما روحي إلا المقطوعة الموسيقية إياها داخل جسدي، كل ما في الأمر أنهما واحد في قالب مختلف، أو على الأقل إن لم يكونا كذلك فهما شبيهين جدا حد التطابق
_ أظنك إما تهذي، أو تتفلسف بلا معنى، تقول للروح روح، وتقول روح في قالَبين، وتقول أرواح متشابهة؟ ما فلسفة الأرواح الشاذة هذه؟
طيب، أنصت للزهرة، شمّ لون الأجنحة، تلمس رائحة الحب… طيب، انسلخ عن روحك. كلها أرواح-يا عزيزي، إما نفسها، أو هي متشابهة حد أنها قد تُنزع من كائن وتَسكن آخرا دون أن يحدث خلل في الكون
_ أتقصد أن روحي يمكن أن تكون عطرا من الشام
أو أغنية من داغستان
_ لا، سأختار قصيدة يونانية
ها قد مِت وعدت لتحيا من جديد قبل أن ترمش عينك دون أن تحس بشيء، ودون أن يحدث خلل في الكون !!
_ هل تقصد أن روحي قد صارت الآن قصيدة يونانية؟
ما رأيك؟
_ ممممم، هل يمكنني أن أختار أي قصيدة أريد، طيب، أي شاعر، ممكن؟
أنت وروحك، طيب، دعك من هذا وتعال نتحدث عن العبودية اللذيذة !!
_ هيا يا روح هوميروس التي بداخلي ننصت لهذا العبد الدرويش الزاهد
ذكرتَ هوميروس وأنا سأذكر لك أرسطو، يقول المعلم الأول في كتابه “في السياسة”: والآن مِن الواضح أن الجميع يعترفون بأن من حازوا في جسمهم من الجمال مِقدار ما حازت تماثيل الآلهة يَحِقُّ لهم أن يَستعبِدوا مَن دونَهُم روعة …(1)، هنا سويداء الموضوع، إن الذي حاز جمال الآلهة، أو حَبَتْه الآلهة ببعض من جمالها الأصيل فإنها بذلك تُعلي قدره وتعزز شأنه وتجعله خليفة لها على الآرض، إن الجمال هو ما بثّته الآلهة في الأرض ليدل على حقيقة وجودها، ودسته في فِطرة الإنسان حتى يهتدي به إلى تلك الحقيقة، وجعلت مَلَكة الجمال والتذوق وساطة بينها وبين عبيدها المخلصين، يا عزيزي- إن الجمال هو الدين والديدن، والحب هو خِلُّهُ ونديمه، فمن ذاق الجمال أحبه، ومن أحب ذاق الجمال كله، ومن تملكهما كان عبدا ربانيا حاز كل الحيوات، إن العبد مرتبة تقود إلى الألوهية، وما الوسيلة إلا الجمال والحب معا خِلَّيْن صُنُوَّيْن رفيقين..
_ إنتظر لحظة، فأنا أيضا قرأت “في السياسة” ولا زلت أتذكر هذا المقطع والذي يليه مباشرة إذ يقول:”لقد ظهر إذن بجلاء أن البعض أحرار بالطبع وأن البعض أرقاء بالطبع”(2)، وهذا لعمري ما لا يتفق والفطرة الإنسانية، إلا إذا كنت تعود بي إلى زمن العبودية، ولا تنس أيضا أن أرسطو وبقية اليونان القدامى كانوا يستبيحون الرق والعبودية، فأرسطوك هذا وكل جهابذة المعنى واللفظ ممن يخجل المرء من ذكرهم في مثل هكذا مواضيع، فما زعمك يا روح فيلٍ من تنزانيا؟
تذكر أنني قلت لك “تعال نتحدث عن العبودية اللذيذة”، صحيح ما قلته بكل تفاصيله، لكن ما اقتبستُه أنا عن أرسطو يفيد أن الجمال هو الوحيد الأوحد الذي يمد الإنسان بأحقية أن يَعبُد أو يُعبَد، وما اقتبستَه أنت هو المعنى الشامل للعبودية التي كانت حينها في اليونان واستمرت حتى عقود متأخرة من التاريخ البشري بل وإنها لا تزال في زماننا هذا وما مناجاتنا هذه إلا شكل من أشكل محاربتها، قلتُ إن اقتباسك كان عن معنى العبودية ككل، أي أن أرسطو كان يبرر للعبودية بأن جعلها فِطرية في الإنسان، تلك العبودية التي تُغَلّب إنسانا على إنسان بالقوة والعنف والسلطة والتسلط، وهذا لعمري أرذل الفعائل وأخس الشمائل، وأما اقتباسنا فكان مخصصا لمن حازوا جمال الآلهة، فإنهم لا يُعبَدون كرها وقوة وتسلطا، وإنما يعبدون ذوقا وحبا وفطرة جمالية وعشقا إلهيا لذيذا، يكون فيه العاشق عبدا للجمال الذي ما هو إلى تجلٍ من تجليات الخالق ما نظر إليه درويش إلا زاد تولعا، وما أبصره جاحد إلا بَلَحَ وجَنحَ وغَصّ بريقُه
_ يا لبحبوحة الكلمات هذه! لنقل أننا اقتنعنا، لماذا إذن ينكر الجاحد ويغصّ بريقه إن كان الجمال فيه فطريا؟
ستجعلني هنا أضيف على قول أرسطو بأن الجمال الذي هو شيء حسن ليس منبعه الفطرة فقط، بل له مراتِعُ أخرى، ومنه قول التوحيدي في إمتاعه” ومناشئ الحَسن والقبيح كثيرة: منها طبيعي، ومنها بالعادة، ومنها بالشرع، ومنها بالعقل، ومنها بالشهوة”(3) فالجمال يأتي من السليقة كما يأتي من التعود والذي هو ممارسةٌ قد تَغْلُب السليقة وإن قالت العرب أن “الطبع يغلب التطبع”، فالعرب قد تخطئ كما قد تخطئ العجم. وقد يأتي بالشرع وهو ما سنّه العقل وقبِله وإن خالَفَنَا خِلّانُنا من المشتغلين بعلم الشريعة. وقد يأتي بالعقل شريطة أن يصح العقل، فلا حسنٌ يأتي من عقل خفيف طائش، وكل رذيلة مصدرها عقل، وإلا وكان عقلا نغلا غثا كلولا، وكل حسونة إلا ومصدرها لوذعية وألمعية وحُسن تبصّر. وقد تأتي أيضا بالشهوة، فما كل شهوة قبيحة، والصوفي من غلبت شهواته الحسنة شهواته القبيحة، وما الإنسان إلا شهوتين واحدة تُعليه وأخرى تُسقطه. هاك -يا عزيزي- إذن لب الكلام حتى تهدأ قريحتك: قد يعصي العبد ربه وهو مدرك ذلك، بل ومُلحٌّ في عصيانه، لأن منطلق فعله القبيح نابع من إحدى المناشئ القبيحة التي هي نفسها مناشئ حسنة للعبد المحب، إن مناشئ الفعل واحدة، لكن المختلف فيها هو تهذيب العبد لها، وصقلها حتى يرتقي بها إلى أن يجعلها ترتقي به إلى الألوهية التي تمثل أعلى مبلغ الدراويش
_ تقصد أن العقل الذي قد يرفض الجمال/الله، هو نفسه الذي قد يحبه فقط لو هذّب فعله؟
أخاف أن أقول لك أن العكس صحيح أيضا فيذهب عقلك أو تنصرف عني
_ لا تخف، لن أشغل نفسي في التفكير بهذا لأنني بالكاد فهمت ما قلته قبل جملتك الأخيرة هذه
إن الجمال قاس وغريب وعنيف، كما أنه بسيط وسهل وعفيف، جلاد لأنه لا يرحم، أصرخ في وجهه كما تشاء ولن يزداد إلا جمالا، حتى تكاد تخرج منك الروح ولا يرحمك، هو الجمال فاتعظ، هو الجمال فقم لتحب، هو الجمال خير معشوق، وما المعشوق إلا جلاد لذيذ
_ كل شيء عندك لذيذ ! طيب يا روح الزهور، لنعتبر أننا صدقناك وآمنا بالجمال، كيف نعرفه إذن، وندرك أنه هو الجمال الحق، ماذا لو “تشابه علينا البقر”؟
جميل أنك ذكرت الزهور حتى أخبرك عما جادت به قريحة حبيب الله ذات قصيدة عندما قالت:
“ما الزهرة
إلّم أنظر إليها؟
ومن أنا
إلمّ أنظر إلى الزهرة؟”(4)
الجمال –يا عزيزي- هو أنت العميق في أصلك الأول متخذا شكلا آخر، أو لونا أو صورة أو رائحة أو إشارة أخرى، الجمال هو روح قُدّت من روحك، روح هي روحك، الجمال هو أن ينظر أنت في المرآة ليراه كما يشتهي كلاكما.
على فكرة، لقد أخبرتك بهذا في أول الكلام لكنك نسيت ربما
_ أو ربما أنسيتني بثرثرتك هذه
أخاف أن أزعم أنك بدأت تقتنع فيفيض غيظك وتهجرني.
_ أَوْدِّي، مجالستك وإن لم نكن بمنتفعين منها فلنأخذ كلامك على محمل المزح والمستملح
بعض الصدق ما استتر خلق سِنّ مبتسم
_ أظنني مفارقك يا روح مدينة عتيقة
في حفظ الجمال يا روحي في جسدك، ولا تنس أنه “من بين الحقائق الجميلة في الكون تناسق الجمال”(5) كما قال الدامون ذات سرير أسرار، فالجمال حق ذو تناسق، فكل ما تناسق كان جميلا، وكل ما كان جميلا فهو ذو نسق وتناسق، وبه لن يخذلك التعرف على الجمال، فإن تشابه عليك أو اختلط، اتّبع النسق، واتبع سؤالك كالقلق، فإن مت سائلا فلا تخف، فالجمال يعشق الأسئلة.
……
وافترق الخليلين كل في قلبه محبة للآخر، أو على طريقة الأول”كل في قلبه محبة لروحه في جسد الآخر” حتى إذا التقيا من جديد كان وقع كلام الأول قد سقط في صميم قلب الثاني، وكانت أسئلة الثاني وإن أجاب عنها الأول لا تزال تحرق قلب الأول، فالأول عاشق تحرقه الأسئلة، والثاني باحث عن العشق كله أسئلة.
*********
(1) في السياسة، أرسطو، تر:الأب أوغسطين برباره البولسي، المنظمة العربية للترجمة،ط1 بيروت 2012، ص115
(2) نفسه، ص116.
(3) الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي، تحقيق م.ح.م.ح اسماعيل، دار الكتب العلمية، لبنان 2007، ص133.
(4) حبيب الله سُكينة، قصيدة إغماضة/انتباهة من ديوان لا لزوم لك، منشورات بيت الشعر في المغرب،ط1،2014، ص 42.
(5) سرير الأسرار، البشير الدامون، دار الآداب ط1 بيروت 2008، ص ص 136 137.