من البداهة القول إنّ أطفالنا هم، بالنسبة إلينا، أحد مُبرِّرات تمسُّكنا بالحياة مهما ضاقت بنا السُّبُل فيها، وهم مبعث تفاؤلنا الدائم بالغد الذي نتمنّاه لنا ولهم مشرقًا آمنًا غنيًّا. لذا فإنّ أولى وأهمّ الغايات التي يسعى الآباء والأمهات، والمربّون المتنوّرون، إلى تحقيقها هي إعداد هؤلاء الصغار إعدادًا يُمكِّنهم من بناء مستقبلهم، ويجعلهم قادرين على التكيُّف مع قادم أيّامهم أخذًا وعطاءً. ولهذا أيضًا يبذل الآباء والأمهات ما في وسعهم لتأمين متطلّباتهم وتلبية احتياجاتهم ورغباتهم المختلفة بكلّ الطرائق والإمكانات المتاحة لديهم.
لكنَّ شرائح واسعة من الآباء والأُمّهات في مجتمعنا -مع الأسف- تهمِلُ أو تنسى أو تتناسى، بعلمٍ أو دون علم، بعض الجوانب التربوية الهامّة أثناء تعاملهم مع صغارهم في حياتهم اليومية. ومن الطبيعي أن نُؤمِن بأنَّ عملية تربيتهم لا تقتصر، بعد قدومهم إلى الحياة، على تلبية احتياجاتهم المادّية من ملبس ومأكل ورعاية صحّية وتعليم، فعملية تربيتهم تقتضي ملاحظة ومتابعة الكثير من دقائقَ وتفصيلاتٍ تتعلَّق بنشاطاتهم وأنماط سلوكهم واهتماماتهم ورغباتهم وميولهم المختلفة، وبالتالي العمل على إقصاء ما لا ينسجم منها مع المنطق الاجتماعي السليم والرؤية التربوية الأصيلة بما تتضمّنه من أخلاقيات غير قابلة للجدل، وتعزيز ما يتفق مع تلك الرؤية، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة مواكبة العصر الرقمي الذي نعيشه من حيث مستجدّاته ومتغيّراته المذهلة، تلك المتغيّرات التي ترفضها بعض العقول في بيئات أغلقت على نفسها جميع الأبواب والنوافذ التي قد تتسرّب منها نكهة التجديد والتطوير.
إنَّ موضوع “هوايات الأطفال” موضوع مهمّ وحسّاس للغاية، ولا يوليه الكثير من الآباء والأمهات الاهتمام الكافي، ولا يُكلِّف بعض هؤلاء أنفسهم عناء مجرّد الالتفات إليه. فثَمَّة شرائح كثيرة من مجتمعاتنا تَعُدّ الأنشطة التي يُمارسها أطفالهم خلال أوقاتِ فراغِهم وخارج مناهجهم التعليمية فائضةً عن الحاجة، وترى ممارستهم لبعض الهِواياتِ مضيعةً للوقت وهدرًا لِطاقاتِهم التي يجب تكريسها لِدروسِهم.
وكثيرًا ما تُسمَع على ألسنة أولياء أمور هؤلاء الصغار عباراتٌ ٍمن قبيل “افتحْ كتابًا من كتبك المدرسية، واقرأْ درسًا أو درسين بدلاً من إضاعة وقتك باللعب والكلام الفارغ” و”انشغالك بهواياتك السخيفة لن يُفيدك، ولن يُساعدَك على النجاح في آخر العام” و”ألا ترى ابنَ فلان وابنةَ فلانة كيف لا يبتعدان عن الكتاب خلال العام الدراسي؟” و..و.. فهؤلاء لا يرون في رسوم أطفالهم التي يختلسون الوقت لرسمها إلا “شخبرةً أو خَربشةً” لا معنى لها، ويُسَخِّفونَ رغبةَ الطفل في تعلُّمِ العزف على آلةٍ موسيقية، ويعتبرونها نزوعًا غير سويٍّ إلى الانفلات من بروتوكولات الرزانة والرصانة، ومحايدة الأخلاق ربما، ويجدونَ في شغف الصغار بتفكيك الألعاب والدمى الآلية ومحاولتهم تركيبها من جديد أو في استمتاعهم بِقَصقَصة الأوراق والأقمشة المستَهلَكة وسعيهم إلى ابتكار أشياء جديدة من وحي خيالهم ضربًا من العبث والتخريب يستدعي اللوم والتأنيب، وربما الضرب أحيانًا. وأيُّ نوعٍ من أنواع الرياضة أو القراءة أو الكتابة -التي لا علاقة لها بالدرس- في نظرهم تسليةٌ تصرفُ الطفلَ عَمّا هو أهمّ وأجدى، وهم غير مدركين للآثار النفسية والفكرية الإيجابية تلك الهوايات ومدى إسهامها في بناء شخصيته.
وحين تُناقِشُ أبًا من هؤلاء مثلاً، وتُحاوِل إقناعه بأهميّة الهِواية بالنسبة إلى الطفل، ينبري لك مدافعًا عن وجهة نظره في الأمر، ويسوق لك مبرِّراتٍ عديدةً مختلفة، وأهمُّها في رأيه أنّه لا يريد لابنه أيًّا من الانشغالات التي من شأنها التأثير في مستقبله العلميّ أو الحياتي ضاربًا بكلِّ آرائك عُرضَ الحائط، ومُديرًا ظهره لِكلِّ ما قيلَ وكُتِبَ -هذا إذا سمع أو قرأ شيئًا مما يتعلق بهذا الأمر- عن أثر الهوايات في تكوين شخصية الطفل. وقد تكون هناك مُبَرِّراتٌ أخرى خاصّة بذاك الأب -أو تلك الأمّ- لا علاقة لها مطلقًا بما أبداه من حرصٍ على مستقبلِ صغيره، مُبَرِّرات فكرية أو مزاجية أو عقائدية… غير أنَّنا سنوافقه على تَوَجُّهاته في تربية طفله حين تأخذ الهواية منحىً ذا تأثيراتٍ سلبية مختلفة، من شأنها أن تُحدِث في بناء شخصية ذاك الطفل خللاً ما يجعله غيرَ سويّ.
إنَّ موقف هؤلاء الذين يرفضون استيعاب أهمية أن يُمارس الأطفال هواياتهم، أو الذين يجهلون، في الأساس، تلك الأهمّية، يؤَدّي إلى تربيةٍ تُؤَسِّسُ لِبناء شخصية مستقبلية للطفل أُحادية الجانب. فأهداف العملية التربوية بكلّ أنشطتها وفعّاليّاتها تصبُّ جميعها في هدفٍ عامّ هو السعي إلى بناء شخصية الطفل بناءً متكاملاً متوازنًا يشمل جميع الجوانب العقلية والجسدية والنفسية والرّوحية والاجتماعية، وبالتالي فإنّ إهمال أيٍّ من تلك الجوانب، خلال تعامُلنا مع الطفل منذ بدء تكوُّن وعيه، سيؤَثِّر سلبًا في تكوينه الشخصي. لذا علينا أن نأخذَ بالحسبان ضرورة توفير المناخ التربوي الملائم لِنمو جميع تلك الجوانب نُموًّا سليمًا مُعافى.
لو اطَّلع هؤلاء المتَذَرِّعونَ بِحرصِهم على مستقبلِ أطفالِهم العلميّ والحياتي على ِدورِ الهِواية الفاعل في حياتهم وأثرِه في نموِّ تكوينهم العقليّ وتشكُّل وجداناتهم ونسيجهم النفسيّ والروحيّ، ولو فكّروا بأهميّته في تحفيزهم على ممارسة حياتهم العملية، مستقبلاً، بشهية مفتوحة ورغبة في العطاء دون مللٍ أو نفور، لو فعلوا ذلك لَوضعوا هوايات أطفالهم على سلم أولويات الاهتمام التربوي، ولَسَعوا إلى توفير المناخ -المادّي والمعنوي- لهم، ولَشجعوهم على ممارستها، ولَساهموا في تنميتها بشتى الوسائل والطَّرائق. فالحياة ليست سعيًا من أجل تأمين المستلزمات المادّية-المعيشية فقط لنا ولأولادنا، وكذلك ليست هي تلبيةً لِحاجاتنا وحاجاتهم الجسدية فحسب دون الالتفات إلى عالَمنا وعالَمهم الداخلي الغنيّ بالينابيع المهَيَّأة للانبثاق والطاقات الكامنة التي تنتظر مَن يُفجِّرها بالطرائق الصحيحة.
ففي رأينا أنَّ أنامل طبيبٍ جرّاح، هوايتُهُ كتابة الشِّعر أو العزف على أيّة آلة موسيقيّة، هي أمهر وأبرع من أنامل طبيبٍ آخر لا علاقة له بأيّة هواية. والنظرة والتذوُّق الجماليّ واتّساع أُفق الخيال لدى مهندس معماريّ، هوايتُه ممارسة أحد الفنون التشكيليّة، هي أكثر دقّة ورهافة وفاعليّة إبداعيّة، في مجال عمله، مما لدى مهندس آخر يُمضي أوقات فراغه قبالة شاشة التلفاز أو.. أو… ومعلِّمٌ هوايتُهُ الخطّ العربيّ أو الرسم أو المطالعة هو أكثر نجاحًا في طريقة تعليمه من معلِّم آخر لا يهتمُّ بمثل هذه الهوايات.
إنَّ العلاقة، من تأثُّرٍ وتأثير متبادَلٍ وفاعل بين مختلف الأنشطة الإنسانيّة في شتّى ميادين الحياة العمليّة هي علاقةٌ وثيقةٌ، ولا بدَّ منها، في عصرنا الرّاهن كي تتحقًّق لأيِّ نشاط عمليّ سويّةٌ عاليةٌ من الإبداع والإتقان، وكي تكون للمُنتَج على اختلاف أشكاله، المادّية والمعنويّة، جودةٌ وقيمةٌ يرفعان من شأنها.