الحلقات المفقودة في محترفات الكتابة الإبداعية

*محمد العباس

في مقال تمتزج فيه نبرة الغضب بالعتب تكلمت الروائية نجوى بركات عن مآخذها الأخلاقية على الروائيين الذين أشرفت عليهم في محترفها الكتابي (محترف نجوى بركات لكتابة الرواية)، وتحت عنوان (وهم الكتابة) تحدثت عمن كتبوا بدون الإتيان على ذكر اسم المحترف، فمثّلت بالذي «تملص وتحايل ناسباً إلى نفسه الجهد كاملاً»، وأشارت إلى كاتب «تضخمت أناه حتى العمى، فما عاد يريد التعرف على المحترف أو ذكره»، لتؤكد على أنها تتفهم «طيش الشباب ونزقه»، متمنية للجميع «التوفيق والاستمرار»، مع اعتراف صريح بأن ما كتبته بالغ الصرامة وأنها أرادته هكذا «فالصرامة ضرورية أحياناً، كي لا تتكرر خيانة كل ما جهدتُ وجهدوا لأجله، أي ولوج عالم الأدب كفرسان، لا كلصوص، الإيمان بذواتهم والمضيّ قدماً، والاعتراف بأن أعمالهم المنجزة في إطار المحترف، لا تكفي لتقييمهم كُتّاباً، وإن كانت ضرورية لانطلاقتهم».

المقال يطرح مجموعة من القضايا التي تستحق، بل تحتّم التحاور حولها، إذ لا بد من مساءلة محترفات وورش التدريب على الكتابة الإبداعية، كما يستدعي المقال اختبار كفاءة المدربين، وضرورة الاستماع إلى آراء المتدربين أيضاً حول ما تلقوه من تدريب على الكتابة، بمعنى أن الصرامة التي أبدتها نجوى بركات تستلزم حضور الرأي الآخر بالجرأة ذاتها والقدرة على المكاشفة، أي رأي الذين مروا بالدورات التدريبية، فإذا كان يحق للمدرب أن يكيل التهم والتوجيهات والملاحظات إلى المتدرب إلى درجة وصمه بالخائن لميثاق الأستاذ والمريد، فإن من حق المتدرب أن يكاشف المشهد الثقافي بحقيقة ما تعلّمه، وبيان أثر المعلّم – إن وجد – على قدراته الأدبية، والحديث هنا ليس عن الورش والدورات التدريبية قصيرة الأمد، التي تستمر لأيام أو حتى لساعات، بل عن تلك المحترفات التي تستمر لعام أو لشهور مع توفر كافة الإمكانيات المادية والدعم المؤسساتي.

لم أقرأ أي تحقيق صحافي يسائل المتدربين في تلك المحترفات عما تعلموه فيها، ولا توجد قراءات علمية تقيس أثر الموجهين على الكُتّاب، إلا أنني ومن خلال التواصل المباشر مع بعض من مروا بتلك الدورات عرفت أنهم غير مقتنعين تماماً بحرفية المادة التدريبية، وأن مدربيهم لم يتّبعوا معهم أي منهج من مناهج الكتابة الإبداعية، وأن ما توقعوه في الورش والدورات والمحترفات لم يتحقق بما يكفي، بل إن بعضهم تحدث بخفة وبشكل غير لائق عن الدورة التي التحق بها، وهذا كلام لا يُعتد به، لأنه حوار بيني قد يتغير إلى الأسوأ أو الأفضل لو أتيحت للمتدرب فرصة الحديث العلني عبر أي وسيلة إعلامية، وهو أمر أراه ضرورياً لعرض ما يحدث في المحترفات على كل المستويات الفنية والموضوعية، واستكمال صورة التدريب على الكتابة الإبداعية، الآخذة في التكاثر بمقتضى مجموعة من الظروف والشروط الثقافية واللاثقافية التي تدفع بهذا الاتجاه.

عندما اطلعت على بعض المنتجات الروائية لمحترفات الكتابة من منطلق الاهتمام والفضول، لاحظت جملة من العيوب والنواقص والعثرات الفادحة في بعض الروايات، حيث يبدو من الواضح أن تلك الارتباكات لا تعود كلها إلى ضعف المتدرب وعدم كفاءته الأدبية، فاللغة في أحسن حالاتها، والصياغة معقولة نسبياً، والقصة في أطورها الأولى تبدو مقنعة، إلا أن لمسة المدرب بدت بالنسبة لي غائبة، إذ لا عناية تذكر بعناصر السرد، ويبدو من الواضح أن المدرب لم يتدخل لا في بناء الحبكة، ولا في تطوير الحدث، ولا في تشكيل الفضاءات، ولا في التكوين الفني للشخصيات، وهذه الملاحظة تطابقت إلى حد كبير مع ما قاله بعض المتدربين عن انتفاء الدرس المنهجي في المحترفات، وأن التدريب يقوم على قاعدة: أكتب ثم أكتب ونحن نصحح ما كتبت،
محترفات الكتابة الإبداعية ظاهرة جديدة في الحياة الثقافية العربية لم تتجاوز العقد من الزمن، وتلقى اهتماماً كبيراً على المستوى الجماهيري والمؤسساتي، وبالتالي هي تحتاج إلى مراجعة صريحة في بواكيرها، ليس من جانب المدربين وحسب، بل من جانب المتدربين، ومن جانب المؤسسة التي تنفق بسخاء على البرنامج، وهو الأمر الذي يحتّم وجود منهج عند المدرب يعبر عن خبرته ووجهة نظره في أفضل الطرق لتدريب الراغبين والمؤهلين لكتابة الرواية، كما يتطلب الأمر تكثيف الحوار مع المدربين ليتحدثوا عن المعضلات التي تواجههم في ثقافة التدريب، ومع مستوى جدية وموهبة المتدربين، وما يحيط ذلك من رعاية مؤسساتية، وفي المقابل يتحتم قياس نجاح التجربة من خلال الإصغاء إلى المتدربين الذين أنجزوا رواياتهم في ظل تلك المحترفات، بحيث يمكن التعرف على ملاحظاتهم حول البرنامج والمدرب والمنهج وما يتأملونه في مجمل عملية التدريب.

المآخذ الأخلاقية التي شدّدت عليها نجوى بركات مهمة وضرورية، ولكنها ليست أكثر إلحاحاً من الملاحظات الفنية، الأمر الذي يؤكد مرة أخرى على فكرة دفع الجدل إلى الأفق الأدبي الفني، خصوصاً أن موجة التدريب على كتابة الرواية لا تحظى بسمعة جيدة في المشهد الثقافي، حيث يُنظر إليها كحيلة لاستحلاب أموال كُتّاب غير موهوبين، كما تُصنف في خانة الخديعة المؤسساتية العاجزة عن خلق مناخ إبداعي، وغيرها من التهم التي قد تأخذ مكانها في الوعي الجمعي ما دامت التجربة خارج إطار الحوار والفحص المعلن، وأعتقد أن بعض من تلقوا تدريباً على كتابة الرواية لهم رأيهم الإيجابي في التجربة، كما أن من أدّوا فروض التدريب لهم وجهة نظرهم المتفائلة، وهذا هو ما يفترض تداوله لتطوير التجربة وإنضاجها، وإن كان هذا لا يعني أن أي روائي يصلح لأن يكون مدرباً على الكتابة الروائية، لأن أشهر المدربين وأكفأهم في الغرب لم يكتبوا سطراً واحداً في رواية.

لا تكتسب أي تجربة وهجها ومشروعيتها بكثرة الحديث حولها، بل من خلال مخرجاتها، وحصاد أي محترف كتابي هو ذلك الطابور من الروائيين الذين يتلمسون خطواتهم في مشهد أدبي مزدحم بكُتّاب الرواية، وهذا يحتم عدم الاكتفاء بما يصرح به المشرف على المحترف من آراء وملاحظات، بل توسيع دائرة الجدل لتشمل المتدربين، وفي وقت لاحق القراء والنقاد، لأن الروايات المنجزة ليست للعرض فقط، بل للقراءة والفحص والجدل، وهذا الحوار الصريح المتواصل هو الذي سيجعل المؤسسة تحكم على فاعلية المحترف، وبموجب ذلك التفاعل المتكامل ستقرر الكيفية التي يمكنها بها تطوير أدائها، لأن التدريب على الكتابة الإبداعية لم تعد مجرد موضة مستجلبة من دوائر الآخر الذي قطع شوطاً بعيداً في هذا الحقل، بل أصبحت قضية ثقافية ملحة بمقتضى جملة من الشروط والتحديات التي تواجه الإنسان العربي، وإذا كان التدريب على الكتابة الإبداعية قد صار أمراً واقعاً فلتكن له منهجيته وأصوله وأخلاقياته.

______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *