أيام الشاعر علي بدر الدين النجفيّة

* جواد غلوم

في يوم صباحي حسبته رائقا وديعا بلا منغصات أو مواجع ؛ نهضت من فراشي مبكرا نشطا على غير المعتاد ؛ خطرت لي فكرة أن استعيد عادتي التي لازمتني ردحا طويلا قبل أن تتوطن الأسقام والمواجع جسدي المتهالك وأظن أن الكثيرين يشاركونني تلك العادة  التي ألفتها منذ سنين طويلة وما زالت تلازمني كلما صحوت باكرا متعافيا ” الإنصات بقدسيّة إلى صوت فيروز

ولكي لا أوقظ سيدتي ورفيقة عمري نؤوم الضحى  فإني أختلي بغرفتي وحدي وأدندن مع صوتها السماوي الساحر حتى حفظت معظم أغانيها وبالذات القصائد والموشحات ، فجاءني صوتها رخيما في أوّل أغنياتها :

” أنا ياعصفورة الشجنِ — مثل عينيك بلا وطنِ “

 قلت في سرّي ؛ هذه قصيدة أعرفها تماما لشاعر صديق إلى حدّ الحميمية أسمعني إياها فور أن كتبها في النجف ونحن في ميعة الصبا ، توا بدأنا نرتقي سلالم الشعر وما زلنا في عتبته الأولى ، هذا الشاعر اسمه ” علي بدر الدين ” ، شاب معمّم بعمّةٍ سوداء ، تعرّفت عليه مذ كان في العشرين من عمره حينما حطّ ركابه في مدينتي لأجل الدراسة ، واسع الأفق ، يهوى العلم والأدب ؛ جاء إلى النجف من جنوب لبنان ، هو ابن قرويّ من إحدى ضيعات النبطيّة ليدرس الفقه الإسلامي في الحوزة العلمية ، هذه القصيدة التي سمعتها من فمّ فيروز قد قرأها لي أواسط السبعينات من القرن الماضي حيث كنّا معا  فتيانا نهوى الشعر ونقرأ لبعضنا ما تجود به قريحتانا من براعم شعرية تنبت في نفوسنا

 لا يخفى على القرّاء ان أغنية ” عصفورة الشجن ” من عيون الأغاني التي أدّتها مطربتنا الكبيرة فيروز في لبوس لحنها ،ورقّة لفظها  وللتذكير أنقل بعض أبياتها هنا :

” أنا ياعصفورة الشجنِ —- مثل عينيك بلا وطنِ

بي كما بالطفل تسرقه —– أوّل الـلـيل يـد الوسن

واغتراب بي وبي فرحٌ —- كارتحال البحر بالسفن

راجعٌ من صوب أغنيةٍ — يا زمانا ضاع في الزمن

مما أثار دهشتي باطّراد أن السيدة فيروز أعقبت القصيدة الأولى بقصيدة أخرى مغناة من  نفس قريحة الشاعر عليّ بدر الدين في إداء غنائي ممتع أخر ما زال رجع صداه يرنّ في أذني ( وهي من الوزن البسيط ) مطلعها :

لملمت ذكرى لقاء الأمسِ بالهدبِ —– ورحت احضرها في الخافق التعبِ

أيـدٍ تـلوّح مـن غـيبٍ وتـأمـرنـي —– بالـدفء بالضوء بالأقمار والشهـبِ

حيرى أنا يا أنا والعـين شـاردة —- أبـكي وأضحك في سـري بلا سـبـبِ

قفزت كالملسوع فور أن سمعت الأغنية التالية ، وكأن سوطا يحفّزني ويدفعني لكتابة هذه الحقيقة الخفيّة ، لا ، لم أكن أنا أحلم ؛ فهذه القصيدة الأخرى كأختها كنت سمعتها منه وكأنّ رجع صدى السنين الماضية تتناغى وتتخاطر معي الان وتذكرت ذلك الفتى الملتهب شعرا ذا العمامة السوداء الذي أجلب له الخبز يوميا من المخبز المجاور لبيتنا بعد أن يعطيني الكارت الخاص به وهي حصته اليومية من الأرغفة التي كانت الحوزة الدينية تخصصها له فنجلس لنأكل معا بعد أن يفرش ورق الجرائد ويعملها كسُفرة طعام ونتبادل سوية ما قرأنا وكتبنا وكنّا غالبا ما نلتقي في عطلة نهاية الأسبوع والعطلات الدراسية عندما آتي من بغداد حيث كنت أدرس في كلية الآداب وأعود لأهلي في النجف وأراه في الرابطة الأدبية التي يرأسها الشاعر الكبير مصطفى جمال الدين لكون صاحبي عضوا فاعلا ونشيطا فيها.

إلى حدّ هذه اللحظة قد أكون نازعتني نفسي وتوهّمت وأخذني الشرود الذهني بعيدا ؛ ولكي أؤكد يقيني مما سمعت ؛ رحت ابحث في ذاكرتي عمن بقي من أصدقائنا القدامى ممن لا زال على قيد  الحياة عسى أن اظفر بالخبر اليقين إذ لم تسعفني جهينة الانترنيت بما يشفي غليلي وكل الصفحات التي أراني إياها غوغل تقول لي إنها من شعر الأخوين رحباني فاتصلت بصديق مشترك بيننا يهوى الأدب ويعرف هذا الشاعر كمعرفتي به يقيم في هولندا ممن كان يزاملنا وقتذاك وأكد لي صحة ظنوني، وأضاف أيضا أن الشاعر علي بدر الدين عاد إلى لبنان في العام/ 1980 بعد أن أنهى دراسته الفقهية في الحوزة لكنه تعرّض إلى الفاقة والعوز أيام الحرب الاهلية هناك واضطر أن يعرض ما كتب من قصائد للبيع إلى الغير ومنها هاتان القصيدتان اللتان باعهما إلى الملحن عاصي الرحباني بثمن لا يتعدى الثلاثين ليرة ولا أدري إن كان بخسا أو مناسبا وقتذاك ولكن الذي أدريه حتما أن بضاعة الأدب والشعر عندنا جدّ رخيصة في كل الأوقات حالها حال كاتب الأدب والشاعر والفنان.

حمدت الله على ما بقي من خصب في ذاكرتي ، فكم كان حدسي وهاجسي مصيبا ، لم تكذب أذني ما سمعت قبلا وآناً

هذه المقايضة تبدو مشروعة في أعرافنا التجارية طالما كانت برضا الطرفين ، وقد حصلت قبيل حادثة اختطاف الشاعر الفقير للمال في السنة ذاتها حيث وجدت جثته مرمية في أحد شوارع النبطية بعد ثلاثة أيام من خطفه أيام كانت الحرب الأهلية تحصد الأرواح بالجملة والمفرق

إنا لله وإنا إليه راجعون ولكن هل ترجع القصيدتان إلى من أولدهما لتنتسبا إليه ؟؟

أشكّ في ذلك فالبضاعة المباعة لا تسترجع ولو كانت في سوق الأدب الكاسد

________
*شاعر وكاتب عراقي
المصدر: إيلاف

jawadghalom@yahoo.com

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *