إشكالية الوجود البشري سيلخصها فيلم “آخر سفينة فضائية” للمخرج سفين كنوبيل (إنتاج 2016) من خلال الناجين القلائل الذين لا يكاد يُعرَف منهم سوى نفر ضئيل، يتجمعون داخل سفينة فضائية تبحث لها عن مسار في وسط صراعات لا تكاد تنتهي وتتجه إلى أطراف كوكب هيسبيريا.
كوكب افتراضي تجري الصراعات من حوله ما بين الناجين وأقوام شتى من قبيل “النيميسيس” و”التاليبونز” وغيرهما، هنالك تختلط خطوط الصراع التي يحركها ثلاثة أطراف: البشر الناجون والبشر المستنسخون ومحاربون من الروبوت، وما بين هذا وذاك سوف تظهر كائنات وحشية عملاقة.
شخصيات متعددة
زج المخرج بكل هذا العدد من الشخصيات التي تخوض صراعا في ما بينها ولا تكاد تمر دقيقة من دون اشتعال الصراع مجددا، لكنه صراع يتشظى ويتشتت تتوزع من خلاله شخصيات مثل جوردان غامباي (الممثل جيم ووكر) وتياميوس (الممثل ميكائيل وونكر) والكابتن أولاف (الممثل ميثيس ميكنج) وغيرهم، وهم حقا ممثلون محترفون وأغلبهم من الألمان، لكن بوصلة المخرج سفين كنوبيل -وهو ألماني أيضا- اتسعت أكثر ، فحشد ممثلين روسا وإنكليزيين في كثافة ملفتة للنظر انسحبت على الأحداث وأثقلت الفيلم بتشعبات متعددة.
خطوط السرد الفيلمي تشعّبت كثيرا ولم يترك المخرج طرفا من الأطراف إلاّ وجعله يدخل إلى مجال الصراع.
تلفت النظر تلك الثلّة من الفتيات وهنّ يخضن صراعا مع كائنات فضائية، صراعا بالسيوف والرماح والمدافع الرشاشة، بدا فيه أداء الشخصيات النسائية مفتعلا وغير مقنع على الإطلاق، انسحب الأمر أيضا على مشاهد محشورة في وسط الأحداث لو أزيلت لما أحدثت تغييرا يذكر، لا سيما مشاهد تلك الكائنات المستنسخة التي تبدو في مسار الأحداث وقد اختلط عليها الحابل بالنابل.
ولم يترك المخرج شيئا من بقايا سكان الأرض إلاّ ومرّ عليه، ومنها المعابد والكهنوت، ومن ذلك الزج بما يعرف بقبة القديس كامامورا والكنيسة المنيعة التي يشحن موقعها الناس بطاقة عجيبة، فضلا عن شخصيات مثل الراهبة الحمراء والآلهة أميتابا، إذ نشاهد في مطلع الفيلم ثلة من الفتيات وهن يتعبدن متوسلات بأميتابا.
على صعيد البناء المكاني تميز الفيلم بغزارة مكانية ملفتة للنظر، وإن أتت بعض أحداثه على سطح سفينة فضاء تبدو من فرط ضيق المساحة وكأنها تدور على سطح سفينة بحرية، وحتى النداء الذي وجهه “الكابتن” بإعلان الإنذار يشبه أمثاله على ظهر السفن، إلاّ أن الفيلم احتشد بالبقايا الأرضية والأطلال، حيث تقع الكثير من الأحداث التي نوّعت مشاهده وصوره.
صراع بلا غاية
ما يحسب للمخرج سيطرته إلى حد ما على تلك التفاصيل والمسارات والآثار المكانية المتشابكة التي تصل في بعض الأحيان إلى حد الإفراط في بث كل تلك التفاصيل، انتقالا من الأماكن التي يوجد فيها ما يعرف
بالإخوة الجينيين إلى ما يعرف بالكنيسة المنيعة، إلى النيميسيس، فكل هؤلاء تميزوا بحضورهم وسط مساحات وخاصيّات مكانية ميزتهم عن الآخرين، لكنهم وهم في تلك الأماكن المتشظية المتشعبة لا ندري ما هي أهدافهم، إذا نحّينا جانبا هدف سكان الأرض وهو الحفاظ على ما تبقى من الناجين، أما الكائنات الأخرى فكأنها تقاتل من أجل القتال فحسب.
تنفرط في ظل ذلك الكثير من خطوط الصراع ولا تحقق الهدف المطلوب منها، فالقتل والإبادة لن يغيرا مسار القوى الفاعلة في الفيلم والأقوام المتصارعة، وبهذا لا تصل المشاهد ولا السرد الفيلمي إلى غاياتهما، بل إننا نشعر وكأننا ندور في حلقة مفرغة من الصراعات والانتقالات المفاجئة، وكل ينشد غايته الخاصة مع ضعف الغاية الجمعية التي تحرك الأحداث. لا تعني أفلام الخيال العلمي بالضرورة الغرائبية المطلقة التي من فرط تكرارها والإصرار عليها تشعر بأن بعض الأحداث مفتعلة، مع أنها خيالية لا واقعية، لكن السيطرة على مسارات المشاهد وبناءها جماليا ودراميا هما اللذان أنتجا تلك الثغرة غير المتوقعة.
وظف الفيلم موسيقى تصويرية ومؤثرات سمعية وصورية بشكل ملفت للنظر، وحاول من خلال التصوير عالي الاحتراف والزج بتلك الأعداد الغفيرة من الممثلين أن يقدم بانوراما ممتعة تعزف على وتر الخيال العلمي من جهة، دون أن تتخلى عن مهمة إدهاش المشاهد ودفعه قدما للاستغراق في الأحداث من جهة أخرى، إلاّ أن عائق الفيلم يكمن في عدم إمكان الإحاطة بكل هذه الصراعات والأحداث المتنوعة دفعة واحدة.
_______
*العرب