القاهرة- «أريد أن أكون إنساناً شريفاً وكاتباً مجيداً»، بهذه المقولة دشن جيمس بولدوين خطواته الأولى في عالم الكتابة، ليلخص فيما يشبه بياناً مباشراً، المهمة الفنية التي وضعها نصب عينيه، فتصبح الكتابة قرينة الحياة، وتغدو الحدود بينهما معابر مفتوحة، تراوح الذات خلالها، رغبة في الوصول إلى معرفة النفس والحقيقة، واستحقاق الصدق الفني والإنساني في آنٍ، فتبتدئ الحياة في نظر بولدوين تجربة من الألم والسعادة، والأمل في التجدد عبر الميلاد المتواصل، وتصير الكتابة هي القابلة التي تجلب للحياة ميلاداً جديداً من رحم التجربة.
دأب بولدوين على تأكيد هذه المهمة، حتى بعد أن غدا كاتباً مرموقاً، فعندما كان أحدهم يصفه بأنه المتحدث الرسمي باسم الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية كان يرفض أن تلصق به هذه اللافتة، معلناً أنه ليس متحدثاً بل «أنا شاهد على المكان الذي جئت منه، وعلى أين أنا الآن، شاهد على ما رأيته، وعلى إمكانات المستقبل التي أظن أن بمقدوري رؤيتها».
كانت الحياة في تجلياتها المختلفة بالنسبة له صراعاً أبدياً بين الخير والشر، يدور داخل النفس الإنسانية بقدر ما يدور خارجها، لذا كان بولدوين دائم التأكيد على ضرورة الرحلة الداخلية، رحلة استقصاء الذاكرة والروح، ومعاودة النظر فيما كان، من أجل الوصول إلى الكشف، والرؤيا، «حيث ترى بل وتغتبط أنك ترى، ما كنت تراه دائماً» وتجسد رواية بولدوين الأولى «أعلنوا مولده فوق الجبل» التي صدرت ترجمتها عن دار رؤية للنشر والتوزيع، بترجمة
د. هاني حلمي، تلك العلاقة المتواشجة بين الحياة والكتابة، بين بولدوين الإنسان وبولدوين الفنان، وهي نتاج سيرة تجربته الحياتية إبان يفاعته في حي هارلم بمدينة نيويورك، وكما ارتبط اسم ديكنز بلندن وديستويفسكي بسان بطرسبرج، ارتبط اسم بولدوين بهارلم، المعزل الذي آوى الإفريقيين- الأمريكيين، والذي كان يطلق عليه عاصمة أمريكا السوداء، في أيام تألقه وازدهاره في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، فيما عرف بنهضة هارلم، ومع أن بولدوين رحل عن هارلم نهائياً في سن الثامنة عشرة، ولم يعد إليه إلا لزيارات قصيرة إلا أنه ظل يشكل عالمه الأدبي في جل كتبه، بل إن قصة بولدوين مع هارلم وخروجه منه هي في أحد جوانبها قصة صراعه ومكافحته من أجل إتمام روايته الأولى، فكان ميلاد الرواية بمثابة ولادة جديدة لبولدوين جديد، منعته من ميراث هارلم المثقل بالعنصرية والحقد وكراهية الذات.
ولد بولدوين في 2 أغسطس/آب 1924 بحي هارلم، وكانت أمه ربة منزل، والأب مجهول النسب، وعاش الجميع في ظروف قاسية وفقر شديد، وفي وسط هذا كله كانت القراءة ملاذاً من قسوة الأب، ومشاعر الكراهية والذنب والإحساس بالقبح، وفقدان الثقة بالذات، وكانت القراءة مهرباً من العزلة التي فرضها الأب على بولدوين وأبنائه الآخرين بدافع الخوف من شوارع هارلم المهددة، ورجال الشرطة ورفاق السوء.
وجد بولدوين عالماً بديلاً في الكتب، خاصة الأدب والروايات، فكما وصف نفسه في تلك الفترة «كنت أقرأ الكتب كأنها نوع عجيب من الطعام، علمته قراءة الروايات أنه ليس وحيداً في هذا العالم، وأن مشكلاته الشخصية ليست فريدة في نوعها، أدرك أنه- وهو عين الضفدع كما كان أبوه يصفه- ليس بأقبح من أحدب نوتردام، وأن هارلم لم تكن أسوأ حالاً من الحي الشرقي في لندن كما صوره ديكنز، فكم رأى صورته في مرآة «أوليفر تويست».
كانت تشغله فكرة الكتابة عن عائلته وعن هارلم، إذ كانت الكتابة بالنسبة له بمثابة الاستشفاء، وتعبير عن رغبته في أن يطهر نفسه من مشاعره السلبية تجاه أبيه وكراهيته المريرة له، وخيالاته في الانتقام منه، وهو ما عذبه ومزقه بمشاعر الذنب، فشرع في كتابة قصة، تبدو وكأنها بذرة روايته الأولى.
وفي سن الرابعة عشرة تضاعف إحساسه بالذنب، فوقع في براثن أزمة دينية حادة قال عنها: «صرت لأول مرة في حياتي خائفاً من الشر الذي بداخلي ومن الشر الموجود بالخارج»، وقادته هذه الأزمة إلى الاعتراف في إحدى الكنائس، وعقب تلك التجربة قرر أن يمارس الوعظ في إحدى كنائس هارلم، وهي التجربة التي نجد لها أصداء في روايته «أعلنوا مولده فوق الجبل»، لكنه قرر أن يغادر المنبر بلا رجعة، وتكون الكتابة هي مصيره المنتظر.
غادر بولدوين هارلم بعد تخرجه في المدرسة الثانوية عام 1942، واضطر للعمل في وظائف مختلفة في أوساط البيض في نيويورك ونيوجيرسي، لتكشف له العنصرية عن وجهها القبيح، وليتهدده ذلك الإحساس بالكراهية والمرارة، فيصيبه الداء القاتل وهو»ثورة الدم وحمى الكراهية التي أدرك أن عليه أن يتعايش معها أو يستسلم لها لتدمره»، لا سيما بعد أن رفض أحد المطاعم في نيوجيرسي استقباله، لأنهم لا يسمحون بدخول السود، فحطم إحدى المرايا وكاد يقتل عاملة بالمطعم.
وشرع في كتابة روايته الأولى التي تتناول حياة أسرته في هارلم، وعلاقته بأبيه ووضع لها عنواناً أولياً هو «صرخة التقديس» ثم لاحقاً «في بيت أبي» لكنه كان يمزق من الصفحات أكثر مما يكتب، ثم يكتب فيما بعد مقالاً بعنوان «رواية احتجاج للجميع» انتقد فيه النماذج المنحطة للسود كما صورتها الليبرالية البيضاء ممثلة في رواية «كوخ العم توم».
وكان أن غادر أمريكا إلى باريس عام 1947 وهناك رأى زنوج فرنسا مجسدين في اللاجئين الجزائريين الذين قابلهم هناك وعاش بينهم، مطلقاً عليهم: «البؤساء» إلا أنه شعر بشكل عام بأن مواقف الناس أكثر تحرراً فيما يتعلق باللون، وفي عام 1952 عاد إلى أمريكا وهو يحمل مخطوطة روايته»أعلنوا مولده فوق الجبل» لتصدر في العام التالي، وتدور حول صورة الفنان في شبابه أو صباه حيث يستيقظ داخل الكاتب ذلك الشعور المؤرق والملح في تحديد هويته المشتبكة بواقع مناوئ يطمح للتخلص من قيوده وعوائقه ولا يملك في نفس الآن التحقق الكامل بقطع الحبل السري بهذا الواقع.
____
*الخليج الثقافي