خاص- ثقافات
*عزالدين بوركة
“أريد أن أكتب
عن الحب والحزن
وعن الموتى والحياة” (ص 45)
القصيدة هي ذلك الأثر الفني الذي لا يعرفه إلا “من دُفِع إلى مَضايِق الشعر ” (البحتري)، وإنها ذاكرة للنسيان، وهي “القصيدة وإن طالت لا تمنح رفاقها بيوتا” (فدوى الزياني)، بل إنها عمل فني يقفو “أثر فكرة معينة” (ميكل أنجلو). إنها بذلك تتبع حدسا حسيا بوصفه الفاعل الركيز في العملية الفنية، على حد ذهاب هيغل. والقصيدة عربة الأفكار، “ذلك لأنها -الأفكار- لا تمشي على أرجلها عادة” (نيتشه). لكن ما الفكرة التي تقفو أثرها وتطاردها فدوى الزياني؟
إنها فكرة الموت.. أو الحقيقة الغائبة الحاضرة، إنه سبيل الشاعر ليقول الحقيقة، لأنه ذلك الشيء الحتمي الأكيد والوحيد، إنه المنتصر دائما، إنه صانع كل شيء.. ومحرك كل شيء/ صانع الأسطورة.. ومحرك التاريخ. إنه الموت الذي يهدد ذات الشاعر ومعانته، الشاعر الطامح للخلود، فلماذا يا ترى كتب هوميروس الإلياذة؟
إلا أنه ما الموت؟ إنه الدليل الوحيد على أن كل شيء ماضٍ إلى هلاكه.. إلا أنه مَسِيرٌ نحو البدءٍ جديدٍ. كأننا نشهد تناسخا لكل الأرواح.. كتلة أفلاطونية واحدة وجديدة ننبعث منها من جديد.
“سنموت يوما..
ليس الأمر مرعبا إلى هذا الحد !!
بنفس الأرواح على أجساد أخرى سنعود..
بسلاسة مملوءة بالوجع” (ص 44).
أو كما يخبرنا محمود درويش ” لم يمتْ أحد تماماً، تلكَّ أرواح تغيّرُ شكْلها ومقامها”. إنه خادم الغيب. وإن خطاب الموت، هو نشيد الذات. “أسبق النهر بخطوة” محاولة لأنسنة هذا المسمى “موت”، الذي “يقرع الباب كأب منهك” (ص 57)، فدوى الزياني هنا تقترح على الموت صداقتها “أيها الموت.. كن صديقي”، إنه مَلاذ أخير للشاعر، لقول حقيقته، إلا إنه المقامر الذي “يرتببنا على طاولته في صف طويل” (ص 58). ف”وحده الموت يلم شمل العائلة، ويربك الحداثة” يخبرنا الشاعر فتحي عبد السميع. يظل الموت إذن ذلك “المقامر الذي يربك كل المفاهيم”، يخلخلنا ويجددنا، إنه عنوان لكل شيء.
هو الموت الفاعل الركيز في ديوان “أسبق النهر بخطوة” لفدوى الزياني، إنه دالها الشعري الذي يركب على صهوة “الإستعارة والتشبيه” ليمضي أبعد مع “النهر” الذي تسبقه الشاعرة بخطوة.. إنها إذن تسبق الموت بخطوة. كأنها تعلن انتصارها عليه.. وهل ننتصر على الموت؟
“أعرف تماما أنني سأموت غداً
حزينة كقطرة ندى من كفّ السماء تنزلق
أو وردة حياتها في يد عاشق
ككل شيء ستكون لي نهاية بسيطة” (ص 46).
إنه الموت، الألمب الذي ينزل إلينا مع مجرى “النهر”. وبموازاة ذلك “الحتمي” فالشاعرة “تعتمر الحزن” إنه “حزن ساخر” (ص 84)، حزن يصير كائنا أليفا.. يؤنس وحدتها وتلوذ إليه، وإنه “الحزن عصفور مبلّل يرتجف خلف النافذة” ( ص 76)، يرقب قلب الشاعرة أن يحتضنه، لتجعل منه صوتا تخاطب به الحياة، وتلك “الحياة قصص بيضاء، /رغوة تثير الضوضاء في قلب غيمة /ولا تمطر” (ص47). فالقصائد تنبع من فيض نهر الحياة، عامرة بالاستعارات والتشبيهات.
“كلما حاولتُ أن أكتب قصيدة
تأتي النوارس خاشعة لتحملها على الأجنحة توابيت بيضاء” (ص 47)
إن صراع الشاعرة مع الموت يوازيه صراعها مع القصيدة التي “لا تمنح بيوتا لرفاقها”، الذين “لا يموتون” (ص 61)، إنها تخون الشاعر مهما أخلص لها، إنها دائما غير مكتملة، “ناقصة” تستعصي على القبض والضبط، إلا أنه من يكتب القصيدة يخلق “أنبياء”، إذ يخبرنا درويش.
“عندما تكتمل أنوثتي
سأكتب عن الحب” (ص 40).
إن فدوى الزياني كما يخبرنا محمد برادة، “تعيد الاعتبار لتذويت الشعر، فيما هي تُشرع نوافذه على “الراحلين الذين راهنَ الموت على نسيانهم” (ص 8). من ثمّ، فإن قراءة قصائدها تنقلنا إلى منطقة الممكن الذي تُخايله لغةُ الوجدان”. (ص 5)، والممكن لا شيء إلا الحب “ومن الحب.. أتخيلني بعيون واسعة أشبهُ في الصحراء ظبياً تاهَ عن حضن أمه” (ص 41). إنه الحب هو ذلك الوسيط الروحي “الممكن” الذي يشبه “الحقيقة” كلما اقتربنا منه نحترق، إنه حُجب الغربة. “إن المعشوق هو الكل.. أما العاشق فحجاب/ المعشوق هو الحي أما العاشق فميت” (جلال الدين الرومي)، تقول الشاعرة:
“لم تنفع أحكام الحب
ولا أبيات الحب
وسأموت في نهاية القصيدة وحيدة” ( ص 56)
الموت رديف العشق/الحب، العاشق دائما ميت.. إنه الباحث عن الحقيقة الذي يحترق كلما اقترب من نور مصدرها، إنه الفراشة التي تهوى “نور الحقيقة”، “كنت فراشة عملاقة تنقل الدفء إلى خمائل العنب.” (ص 71) إلا أنا للشعراء حالة خاصة إذ تخبرنا الشاعرة، ف”هم الشعراء يا صديقي إن ماتوا/ خلفوا شعوبا من الياسمين” (ص63).
قصائد الديوان تنسج خيوطها ضمن “قصيدة التأمل” بهذا المعنى، أو “المجاز الممتد”. حيث تدور الفكرة المركزية “الموت” متقلبة في ذهنية الشاعرة.. لتنقل لنا أفكارها الخاصة والخالصة عن هذا “الحتمي”، عبر لغة منمقة (أنظر كتاب مقدمة لقصيدة النثر ص 67). ف”أسبق النهر بخطوة/ أنا ابنك الضّال أيتها الريح ! “.
___
*ناقد وكاتب صحفي