لكل مجتمع موروث من العادات و المعتقدات و الطقوس الباطنية الخفية و الظاهرة يمارسها أفراد المجتمع في مناسبات و أوقات خاصة، تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في السلوك و تدبير شؤون الحياة و مستوى التفكير في العلاقة مع الطبيعة و في التعامل مع الآخرين،فكتاب الماشاء جملة من الصور و الرموز التي تستمد روحها من بواكير التفسير الإنساني لوجوده في هذا الكون،كتاب يزعزع القناعات و يدعو إلى إعادة النظر في الكثير من الثوابت و المعتقدات.
كثيرة هي الروايات العربية التي عبرت بصوت المهمشين على أنهم شخصيات معتلة الذات تلفظها الحياة دوما و كثيرا ما تتعمق هذه الروايات في وصف واقعهم المزري الذي عادة ما ينتهي إلى أفق مسدود ، فالكاتب الجزائري سمير قسيمي يفاجئنا بشكل متميز و مختلف عن التجارب السابقة في روايته ” كتاب الماشاء ” الصادرة عن دار المدى 2016 فكتاب الماشاء ، عبارة عن مخطوط بعنوان غريب ، كتاب يسأل و لا يجيب في رحلة و مغامرة عبر تاريخ بعض الشخصيات المهمشة،البحث في صدى التاريخ و ليس الحدث التاريخي بعينه فكتاب الماشاء محاكاة لقصة الأديان لا نهاية و لا بداية له،كتاب يحكي ” قصة غارقة في القدم ،قصة الإنسان الذي انقرض في عقولنا ،تحكي عن الحقد المتعدد و الواحد في آن ، عن حقيقة لم يعد يشغلنا منها إلا خيلاتها ص 84.
تريد مديرية الأرشيف اكس بروفانس بمرسيليا رقمنة الأرشيف المتعلق بتاريخ و تراث الجزائر و البلدان المجاورة لها ابتداء من منتصف القرن التاسع حتى بداية القرن العشرين ،فطبعت المادة في عشر مجلدات ليظهر من خلال المجلد الحادي عشر و الخاص بالفهرسة أن مقالات المترجم الحربي و المستشرق الفرنسي سيباستيان دي لاكروا قد حذفت و لم تنشر الأمر الذي أثار انتباه المؤرخة ميشال دوبري و دفعها إلى البحث عن الأسباب و الدوافع،و من هنا تنطلق رحلة البحث و التحقيق دون توقف، لتكون النهاية مفاجأة بشكل خاص و تكشف عن كتاب المشاء و قصة هلابيل الذي ولد بين المنزلتين..
هي رواية تتسم بالبساطة ظاهريا و بالأخص في بداياتها لوضع القارئ في الإطار المرجعي للحوادث التاريخية حتى يتهيأ للانخراط في البحث عن الإنسان في عمق الإنسان في بداية النشوء و الخلق ، و ما تبقى فيه من ضمير حي ، هو كتاب يستدرج القارئ للاستمتاع بفتنة السرد و الخلق و الإبداع في رحلات البحث عن خيوط الحقيقة بين الشك و اليقين عبر مسارات متخفية و مختلفة،تتشابك فيها الفلسفة مع التاريخ في بناء محكم و متناغم، و يتمازج فيها المتحقق بجغرافية المتخيل في علاقة إيحائية على نحو مدهش في رحلة تتخطى حدود الوعي إلى اللاوعي عبر رؤية ذاتية و بتقنية متجددة تبحث في وجود الذات و الوعي بالآخرين.
ليس خافيا على أحد أسلوب الكتابة عند سمير قسيمي بتعدد الخطابات و التقنيات و كذا قدرته على اختيار العناوين المثيرة للجدل ،كاتب يفرض على القارئ عمق ثقافته و تنوع رؤاه ،فكتاب الماشاء هي صرخة الكاتب ضد الإقصاء و التهميش و هي دعوة إلى انتفاضة جديدة للوعي بتدبير التعايش في ظل الاختلاف، كما هي دعوة للتأصيل المعرفي و الثقافي.
الكاتب بقدرته الإبداعية و ذكائه الخلاق يستدرجك للولوج إلى عوالم الرواية و الاحتراق بمتعة البحث عن الإجابة الممكنة و المحتملة من خلال تطور الأحداث حتى تغرق في طقوس الغرابة و الحيرة والتعقيد، فالكاتب يلمح و لا يصرح و يفتح المجال أمام القارئ لملء الفراغات و الثقوب، فالأجوبة لا تعيش داخل النص بل خارجه.، كاتب يدفع بالقارئ إلى السعي لفهم الأحداث و فك الرموز و الشفرات حتى تكتمل الصورة و يتحقق الوعي بتجاوز الصعوبات و المتاهات .
لا يمكن أن تكون هذه الرواية سيرة أو سرد مذكرات بل هي رواية تستهدف الوعي بالهم الإنساني و تستفز العقل بتخيل سردي بروح أسطورية،لذلك فالكاتب يقدم لنا أبطالا يسكنون خارج دائرة الضوء،أبطالا يسكنهم القلق و أسئلة البحث عن حقيقة الوجود من أجل إعادة التأويل برؤى فلسفية عميقة.هي فئة من المهمشين و المحرومين من أدنى حقوق الحياة و العيش الكريم،و يأخذ الكاتب على عاتقه النوايا الخبيثة للنفس البشرية و التي عادة ما تكون سببا واقعيا لكل الخطايا و الجرائم،فهل يمكن أن يكون للمهمشين دور فاعل في الحياة؟
هي حزمة من الأسئلة التي تبعث النور في دهاليز التاريخ و الأحداث المهمشة التي لم يهتم و لم ينزعج بشأنها أحد ، رواية بأسلوب السرد الحميم الذي يكسر حدود الرتابة و النمطية السردية في إثارة التساؤلات حول الوعي بالوجود. و ذلك بتوظيف لغة مازجت بين البساطة و الشعرية و السمو أحيانا إلى مقام اللغة الصوفية التي تشد القارئ و تدفعه إلى مداومة القراءة. فالكاتب يستمد من اللغة وظيفتها الشعرية أحيانا و يستمد منها وظيفتها الإخبارية في سرد الأحداث و الوقائع.
الوافد بن عباد رجل من الهامش و سيباستيان أيضا و السايح و قدور و نوي كلهم منبوذون و مهمشون، يبدو أن الشخصيات التي اختارها الكاتب لا تبحث أبدا عن أيّام رائعة للموت ربما كانت مهمشة في فلك الحياة و المصير و الأقدار .. !
كتاب الماشاء ،بركان خامد عميق و كتاب أعمى يبحث عن قارئ مبصر.. !