كتاب الماشاء..كتاب أعمى يبحث عن قارئ مبصر.. !

خاص- ثقافات

*أحمــد بوريــدان / الجزائر

لكل مجتمع موروث من العادات و المعتقدات و الطقوس الباطنية الخفية و الظاهرة يمارسها  أفراد المجتمع في مناسبات و أوقات خاصة، تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في السلوك و تدبير شؤون الحياة و مستوى التفكير في العلاقة مع الطبيعة و في التعامل مع الآخرين،فكتاب الماشاء  جملة من الصور و الرموز التي تستمد روحها من  بواكير التفسير الإنساني لوجوده في هذا الكون،كتاب يزعزع القناعات  و يدعو إلى إعادة النظر في الكثير من الثوابت و المعتقدات.

   كثيرة هي الروايات العربية التي عبرت بصوت المهمشين على أنهم شخصيات معتلة الذات تلفظها الحياة دوما و كثيرا ما تتعمق هذه الروايات في وصف واقعهم المزري الذي عادة ما ينتهي إلى أفق مسدود ، فالكاتب الجزائري سمير قسيمي يفاجئنا بشكل متميز   و مختلف عن التجارب السابقة في روايته ” كتاب الماشاء ” الصادرة عن دار المدى 2016 فكتاب الماشاء ، عبارة عن مخطوط بعنوان غريب ، كتاب يسأل و لا يجيب في رحلة و مغامرة عبر تاريخ بعض الشخصيات المهمشة،البحث في صدى التاريخ و ليس الحدث التاريخي بعينه فكتاب الماشاء محاكاة لقصة الأديان لا نهاية و لا بداية له،كتاب يحكي ” قصة غارقة في القدم ،قصة الإنسان الذي انقرض في عقولنا ،تحكي عن الحقد المتعدد  و الواحد في آن ، عن حقيقة لم يعد يشغلنا منها إلا خيلاتها  ص 84.

   تريد مديرية الأرشيف اكس بروفانس  بمرسيليا رقمنة الأرشيف المتعلق بتاريخ و تراث الجزائر و البلدان المجاورة لها ابتداء من منتصف القرن التاسع حتى بداية القرن العشرين ،فطبعت المادة في  عشر مجلدات ليظهر من خلال المجلد الحادي عشر و الخاص بالفهرسة أن مقالات المترجم الحربي و المستشرق الفرنسي سيباستيان دي لاكروا  قد حذفت  و لم تنشر الأمر الذي أثار انتباه المؤرخة  ميشال دوبري  و دفعها إلى البحث عن الأسباب و الدوافع،و من هنا تنطلق رحلة البحث و  التحقيق دون توقف،  لتكون النهاية مفاجأة بشكل خاص و تكشف عن  كتاب المشاء و قصة هلابيل الذي ولد بين المنزلتين..

   هي رواية تتسم بالبساطة ظاهريا و بالأخص في بداياتها لوضع القارئ في الإطار المرجعي للحوادث التاريخية حتى يتهيأ للانخراط في  البحث عن الإنسان في عمق الإنسان في بداية النشوء و الخلق ، و ما تبقى فيه من ضمير حي ، هو كتاب يستدرج القارئ للاستمتاع  بفتنة السرد و الخلق و الإبداع في رحلات البحث عن خيوط الحقيقة  بين الشك و اليقين  عبر مسارات متخفية و مختلفة،تتشابك فيها الفلسفة مع التاريخ في بناء محكم و متناغم، و يتمازج فيها المتحقق بجغرافية المتخيل في علاقة إيحائية على نحو مدهش في رحلة تتخطى حدود الوعي إلى اللاوعي عبر رؤية ذاتية و بتقنية متجددة تبحث في وجود الذات و الوعي بالآخرين.

  ليس خافيا على أحد أسلوب الكتابة عند سمير قسيمي بتعدد الخطابات و التقنيات و  كذا قدرته على اختيار العناوين المثيرة للجدل ،كاتب يفرض على القارئ عمق ثقافته و تنوع رؤاه ،فكتاب الماشاء هي صرخة الكاتب ضد الإقصاء  و التهميش و هي دعوة إلى انتفاضة جديدة للوعي بتدبير التعايش في ظل الاختلاف، كما هي دعوة للتأصيل المعرفي و الثقافي.

  الكاتب بقدرته الإبداعية و ذكائه الخلاق يستدرجك للولوج إلى عوالم الرواية و الاحتراق بمتعة البحث عن الإجابة الممكنة  و المحتملة من خلال تطور الأحداث حتى تغرق في طقوس الغرابة و  الحيرة والتعقيد، فالكاتب يلمح و لا يصرح و يفتح المجال أمام القارئ لملء الفراغات و الثقوب، فالأجوبة لا تعيش داخل النص بل خارجه.، كاتب يدفع بالقارئ إلى السعي لفهم الأحداث و فك الرموز و الشفرات  حتى تكتمل الصورة و يتحقق الوعي  بتجاوز الصعوبات و المتاهات .

   لا يمكن أن تكون هذه الرواية سيرة أو سرد مذكرات بل هي رواية تستهدف الوعي بالهم الإنساني و تستفز العقل بتخيل سردي بروح أسطورية،لذلك فالكاتب يقدم لنا أبطالا يسكنون خارج دائرة الضوء،أبطالا يسكنهم القلق و أسئلة البحث عن حقيقة الوجود من أجل إعادة التأويل برؤى فلسفية عميقة.هي فئة من المهمشين و المحرومين من أدنى حقوق الحياة     و العيش الكريم،و يأخذ الكاتب على عاتقه النوايا الخبيثة للنفس البشرية و التي عادة ما تكون سببا واقعيا لكل الخطايا و الجرائم،فهل يمكن أن يكون للمهمشين دور فاعل في الحياة؟

   هي حزمة من الأسئلة التي تبعث النور في دهاليز التاريخ و الأحداث المهمشة التي لم يهتم و لم ينزعج بشأنها أحد ، رواية بأسلوب السرد الحميم الذي يكسر حدود الرتابة  و النمطية السردية في إثارة التساؤلات حول الوعي بالوجود. و ذلك بتوظيف لغة مازجت بين البساطة و الشعرية و السمو أحيانا إلى مقام اللغة الصوفية التي تشد القارئ و تدفعه إلى مداومة القراءة. فالكاتب يستمد من اللغة وظيفتها الشعرية أحيانا و يستمد منها وظيفتها الإخبارية في سرد الأحداث  و الوقائع.

  الوافد بن عباد رجل من الهامش و سيباستيان أيضا و السايح و قدور و نوي كلهم منبوذون و مهمشون، يبدو أن الشخصيات التي اختارها الكاتب لا تبحث أبدا عن أيّام رائعة للموت ربما كانت مهمشة في فلك الحياة و المصير و الأقدار .. !

كتاب الماشاء ،بركان خامد عميق و كتاب أعمى يبحث عن قارئ مبصر.. !

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *