خاص- ثقافات
*جواد غلوم
قرأنا كثيرا عن المتخيّل من عوالم الخير والطهر والنقاء الإنساني وأحلامنا نحو مدن فاضلة نعيش بها هذا الأمد القصير من الحياة بلا منغّصات وبلا دعاوى التضليل ومساوئ الخلق وسيادة النبل والسمو الإنساني في مدن نعتناها بالفاضلة وحلمنا بها في الشعر والفن عموما ، نشدنا وسعينا إلى التطهير والنقاء كفكرة جاذبة وحلم مؤنس فبدأنا بمدينة افلاطون الفاضلة مع أن هذا الفيلسوف الاغريقي طرد الشعراء والشعر من مدينته اليوتوبيا لا لشيء سوى أنه نوع آخر ولسان يختلف عن ألسنة الأدب والفن الاخرى ؛ غير أن ارسطو رحبّ بالشعراء في كتابه البويطيقيا ( فن صياغة لغة الشعر ) واعتبر الشعر أعلى منزلة وأكثر أهمية لأنه يعبر الجزئيات ويرقى إلى الكليات وهي الصفة الخالدة فيه .
هو ذا الشعر الذي يستحيل ترويضه وتراه يخترق الآفاق محلّقا مرةً وغائرا أخرى وتائها في مسالك ودروب لا حصر لها عصيّا عن التجزئة والتمزّق.
وإذا كان التاريخ يذعن لنظرية التعاقب ( succession ) والكاتب المؤرِّخ مرغم على أن لا يتجاوز المراحل فإن الشاعر يجنح بعيدا محلّقا مرة إلى فضاءات لا تحدّها حدود وأخرى يغور عميقا في بواطن الأرض ويتحسس جذور الإنسان ويرى أسس بناء أولى الحضارات وينبش في عقول الأقدمين والمحدثين والأكثر حداثويةً ويترك وراءه فكرة التتابع لينشغل بها المؤرخ والعالِم وحدهما.
فالشاعر الحقيقي لا يقف طويلا على أرض الواقع المعاش الحالي ولا يرضى أن يكون مهيض الجناح منكسر القوى عائشا في قشرة محيطه ولايبرحها ؛ إنه يحمل ولع الاختراق الزماني والمكاني ؛ يعشق الانزياح والالتفاف والإحاطة ويمد عنقه فضولا أينما وصلت عيونه الحاذقة ويوسع بصره مخترقا الحجب والأسوار فهو إذاً عكس المؤرخ المنزوي في مرحلة تاريخية ولا يغادرها إلاّ بعد أن يشبع فضوله لينتقل إلى مرحلة تاريخية أخرى ويستكنّ فيها أمدا قد يطول ردحا من الزمن.
تلك إذا هي نظرية التتابع التي ميّزها ارسطو وعرف تماما مهمة الشاعر مثلما عرف أيضا مهمة المؤرخ وشتان شتان بين الاثنين.
هنا لا أخفي حيرتي حينما يتعثر الشعر الآن في هذا العصر المليء بالشرور والآثام بحقّ الإنسان والبيئة والمخلوقات الأخرى التي تتشارك في العيش معا وأرى متحسّرا تثاقل خطاه وخفوت أضوائه امام ميديا الحداثة والعصرنة
ترى هل الشعر كان مأنوسا مرحّبا به ماضيا ؛ ومنبوذا ونأنف من الاقتراب منه حاضرا ؟؟
كيف يتكيّف الشعر ويعيش عصر الكوننة الحالي غريبا لا ناصر له وقد كان القدح المعلّى في السابق وأضحى مهملاً قليل الفائدة في اللاحق ، هل ثمة بلاهة ولا مبالاة بهذا الغرّيد الجميل الصادح بعد أن تصحّرت نفوسنا ولم نعد نصغي إلى ألحانه في عصر الانهماك نحو الربح والثراء وتطويع كل شيء إلى سلعة مربحة بما في ذلك كل أشكال الأدب والفن باستثناء الشعر الذي يتمرد ولا يخضع لعنجهية القانون الاقتصادي الرأسمالي الحرّ ( اسما لا صفةً ) ومن المحال إعادة تدويره ليحقق ربحا أو تسويته كسلعة قابلة لأن تكون ذات فائدة مالية كسبا للجيوب وإضافة لرصيد المال المخزون ؟؟
وهل غدا الشعر خردة عتيقة من مخلفات العهود الغابرة ؟؟ ، قد يكون الأمر صحيحا طالما أن الشعر يأبى أن يرضخ ويكون بضاعة مدرّة للأرباح في هذا العالم المادي الذي يلهث وراء الربح ، فما الذي يقدمه الشعر من ثروة مالية في عالم المال والأعمال وشهوة الاستحواذ على كل شيء لجعله سلعة مربحة ؟؟
إذا كان البعض قد تجرّأ وغامر لترتيب وإعداد برنامج شعري تنافسي متعدد الحلقات مثل ” شاعر المليون ” للتكسب بواسطة التصويت التلفوني والرسائل عبر شبكات الاتصال المتعددة على حساب الشعر تماما على غرار برامج ( The Voice ( فإن هذا البرنامج التلفزيوني بحلقاته المتعددة رغم صبغة التشويق التي أضيفت له لكنه لم ينجح النجاح المرجوّ بل صار أحيانا مثار تندّر الكثير وسخريتهم ممن يهتمّ بالشعر ذي اللغة السامية مثلما وصفها ارسطو … وربما يكون مثل هذا البرنامج مستساغا مأنوسا في الكتابة الشعرية الزجلية او النبطيّة المسفّة ؛ فمثل هذه الأشعار القريبة إلى الفولكلور منها إلى الشعر كما نعرف يمكن تشبيهه بالقاطرة الأكثر صخبا وعربدة فارغة ولا تمتّ إلى الشعر الحقيقي الاّ بالايقاع والوزن وحده دون أن تباريه في الرؤية الشعرية الحاذقة البعيدة المدى ، فـ ( الشعرُ صعبٌ وطويلٌ سُلّمُهْ — اذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهْ — زلّتْ به إلى الحضيضِ قَـدَمُهْ )
وإذا كانت الموسيقى واللوحة الفنية والسينما وحتى الرواية المنتقاة يمكن تطويعها وزجّها تجاريا لتحقيق الأرباح في سوق الفنّ فإن الشعر مهما توقّدت فنيته ورسخت إبداعاته يتمرّد أن يكون سلعة مدرّة للمال.
هو ذا خطل الرأسمال وأهله ممن يلهثون وراء المادة والثراء والغنى والاكتناز تاركين ما للنفس من هوى وميل إلى الشعر الذي لم يعد يجدي نفعا للجيوب المتعطشة لرقرقة العملة الخضراء والأصفر الرنان ؛ فالمسألة الآن لا تعني شيئا حتى لو ظهر شكسبير آخر او برز نجم شعري يتخطى شارل بودلير او آرثر رامبو او أينعت أوراق عشب أخرى أكثر اخضرارا ونداوة من أوراق عشب وولت وايتمان سوى أن يطعموها للماشية كي تسمن وتبدو بدينة ويثقل وزنها لتباع في مسالخ الماشية وتحقق أرباحا أعلى.
ذلك هو الاقتصاد الحرّ والرأسمال الأحمق الذي لا يستضيف الشعر في عقله ويغلق أبوابه أمام الخلق الخيالي ما دام لا يشبع رصيدا ماليا طامحا بالمزيد ولايمكن ترويضه ليكون أضحوكة بهلوانية على ستيج مسرح أو منصة خطابة وما دامت بطاقات شرائه وترويجه اقتصاديا قد أصبحت في خانة المستحيلات.
أما هذه المهرجانات الشعرية التي تقام هنا وهناك بين الفينة والأخرى فهي لا تعدو كونها خناقا آخر لصوت الشعر الساحر وحنجرته الشجية بما في ذلك اللقاءات التي تجري في عواصم العالم فهذه ماهي إلاّ ديكور ثقافي كي يقال إن تلك المنظمة وهذه الهيأة الثقافية لا زالت متمسكة بأرقى ما أنتجه العقل الإنساني في جانبه الأدبي.
إن التكسّب بالشعر الذي حصل آنفا في الحقب التاريخية القديمة كان الكارثة الكبرى التي أطاحت بإبداعاته فهذا الطفل المدلل للأدب لا يستسيغ الانصياع للمال أو الجاه او الثروة أو أية حظوة كانت مهما بلغت مغرياتها فكيف به اليوم يحني هامته للرأسمال ويستجدي ربحا أو ريعا من أنشطة اقتصادية ؛ فهذه البراءة النبيلة المرتسمة في ملامحه ليس في مستطاعها قبول هذا النمط السامي من الكلام لأن يتلوث كسلعة يتلاعب بها العرض والطلب.
فالشعر خاسر على الدوام هنا وبهذا المرتع الذي لايلائمه ويأبى أن يغازل سمات الاقتصاد العديم القلب والرأفة ، فلو أردت الشعر حقا ستجده حتما في خرق المتصوفة وفي أردية الشعراء المنبوذين والمتشردين وفي خيام الغجر ومجمعات المسحوقين وفي الشخوص المعزولة النائية عن المطامع وفي عقول الحيرى من الشعراء التي تتلاطم الرؤى في مخيلتهم وفي معذّبي الارض والعشّاق الذين لم ينالوا مرادهم وفي الحالمين بمقبل طوباوي يسمونه فاضلا لم يأتِ بعد وربما لا يأتي أبدا ، إنما يجيء زائرا في الخيال الشعري.
هذا هو لغز الشعر القائم على الشكوك والحيرة سواء اجتمع أو اختار عزلته بنفسه وهذا هو منبع إبداعه والخوف كلّ الخوف من تجفيف منابعه واعتباره في خانة الفوبيا المخيفة ، فماكنة الاقتصاد الكولونيالي تسحق كل شيء أمامها إن لم تروّضه لخدمتها وتستلبه مادّيا ولا تستطيع هصره أملا في عصارة ربح
تلك هي محاولات تجفيف منابع الشعر وصولا إلى يباس نفوسنا وأفئدتنا المتعطشة لجمال ورواء الشعر
_________
*شاعر وكاتب عراقي
jawadghalom@yahoo.com