لم يزل مفهوم الصداقة بين رجل وامرأة في بلاد الشرق ضبابياً ملتبساً مشوبا بالريبة والتوجس بل وحتى الإنكار المشفوع بالإدانة، محكوماً بسوء الظن والفهم والقراءة. وفي الحقيقة المشاعر الإنسانية للأفراد تحكمها وتحكم عليها انطباعات التعاقدات الإجتماعية الصارمة المنبثقة غالباً من مضامين قيمية يعتنقها المجموع، علماً بأنها لا تعبر غالباً عن قيمة حقيقية بقدر ما تشي بمقدار ومستوى الإدراك الجمعي الكامن لدى الأفراد. بمعنى أن المحتوى القيمي عند الإنسان ليس إلا مؤشراً على مدى تراكم الخبرة الأخلاقية لديه. فالسلوك البدائي للإنسان الأول كان محكوما بقوى الطبيعة دون غيرها، فكانت الحاجة العضوية الطبيعية هي محور مداركه القيمية ومحرك ميوله ورغباته وبالتالي انفعالاته وسلوكه، ليقف ناتجه القيمي عند مستويات الحاجات العضوية والنوازع الغرائزية وحسب. بيد أن أن حصيلته الأخلاقية سترغمه على الارتقاء بوعيه ومشاعره وتصرفاته لتسمو به عن غرائزيته، فتنتقل به بالتالي من الطور البدائي إلى أطوار أرقى من التحضر.
على ضوء هذا نخلص إلى أن مظاهر التزمت الراهنة ضمن الذهنية الإسلامية المعاصرة، وما يصاحبها من ترويج للفضيلة عبر الانغلاق والعزل الجنسي وتحريم الاختلاط المدني شديد التلقائية، وحصر الفضيلة في قوقعة الجنس، ليس إلا ردة إلى الطور البدائي الأول المتخم غرائزياً ضارباً عرض الحائط بقرون من تراكم الخبرات الأخلاقية وأبعادها الحضارية، تحت عناوين من الدين والأعراف والتقاليد وما إليها من شرف ومروءة وخلافه. على الرغم من كثرة شواهد الماضي على ما حملته هذه المضامين من وحدات وأبعاد مغايرة، كانت قد واكبت الارتقاء الأخلاقي بالأنساق الدينية في زمن الحداثة الإسلامية تحديداً.
إذا ما قرأنا داليّة اليزيد بن معاوية وكطلعها (نالت على يدها ما لم تنله يدي ..) نجد في البدء أن الشاعر قد بلغ مبلغاً فريداً من الجزالة والبلاغة وجمال التصوير في أكثر من موضع منها، على الرغم من أن القراءة اللغوية ليست هنا مقصداً في حد ذاته في هذا السياق، فالقصيدة شهيرة جداً وقل من لا يعرفها، وقد قيل فيها الكثير في السابق، ولكن نراه جديدا هو طرح هذا النص لصورة العلاقة بين رجل وامرأة، جمع بينهما شكل من أشكال الحب، حيث روت القصيدة حكاية مغرم بدأ في التقرب من إحداهن غزلياً، مسهباً في وصف فتنتها وحسن شمائلها، من قبيل:
إنسيّةٌ لو رأتها الشمسُ ما طلعت من بعدِ رؤيتها يوماً على أحدِ
ثم يمضي الشاعر على هذا النسق في تصعيد الموقف تباعاً، إلى أن يصل مبلغاً يرتجي معه الوصال من المرأة، التي قابلته بالتمنع عليه تمنعاً عفيفاً غير ذي شبهة من أرب أو دلال، وردته رداً جميلاً لم يفسد قضية المودة بينهما ..
سألتها الوصلَ، قالت لا تُغرَّ بنا من رامَ منا وصالاً مات بالكمدِ
كم قتيلٍ لنا بالحب ماتَ جوىً من الغرامِ ولم يبدئ ولم يُعدِ
إذا بالبطل المغروم بستدرك نفسه خجلاً نادماً ومعتذراً ..
فقلتُ أستغفرُ الرحمن من زللٍ إن المحبَّ قليلُ الصبرِ والجلَدِ
وكان أن حل بالفتى المغروم بعد ذلك ما يحل عادة بضحايا قصص الحب المشوبة بالصد والتمنع، فقد طوّح السقام بصاحبنا ليلزم فراشه مريضاً ناعياً حاله وسوء مآله شاكياً باكياً ..
قد خلّفتني طريحاً وهي قائلةٌ تأملوا كيف فعلُ الظبي بالأسدِ
تأخذ الحكاية في التصاعد إلى أن تصل محطة مفصلية تفتقد فيها المرأة حضور الفتى، لتبعث من يسأل عنه فيبلغها بأنه سقيم عليل جراء ما كان منها من امتناع صد ..
قالت لطيف خيالٍ زارني ومضى باللهِ صِفهُ ولا تُنقص ولا تَزدِ
واسترجعَت سألت عني فقيلَ لها ما فيهِ من رمَقٍ، دقّت يداً بيَدِ
عند هذا وتبلغ الحكايةُ ذروتَها في ثلاثةِ أبيات أوجزت بيت القصيدِ كله ..
فأمطرت لؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ ورداً وعضّت على العنابِ بالبرَدِ
وأنشدت بلسانِ الحالِ قائلةً من غيرِ كرهٍ ولا مطلٍ ولا مدَدِ
واللهِ ما حزنت أختٌ لفقدِ أخٍ حزني عليهِ، ولا أمٌّ على ولدِ
إلى هنا ويسدل الستار على الحكاية، وتذهب سكرة الشعر لتأتي صحوة الفكر. فالشاعر هو الخليفة الأموي الثاني المثير للجدل والخلاف، فهو قائد سياسي ورئيس دولة لم يحظ بأدنى قدر من إجماع المؤرخين، أضف إلى كونه شخصية إشكالية تدور حولها شبهات الفساد والانحلال، بيد أنه بهذه الحكاية الشعرية أرسى (من حيث لا يدري ولا يقصد ربما) معالم لما يمكن وما ينبغي أن تكون عليه علاقة المحبة بين رجل وامرأة خارج نطاق العشق والغرام وبعيداً عن النوازع الغرائزية ومحركات الفسيولوجيا.
ولننظر قليلاً في قوله عندما استدرك سوء العبارة نافياً شبهة الغرض “فقلتُ أستغفر الرحمن من زللٍ ..” مؤكداً ما ذهبنا إليه آنفاً من أن التراكم الأخلاقي المكتسب كفيل بكبح الجموح الغرائزي الطبيعي إذا ما أتيح له أن يتمكن، حتى وإن انجرف حيناً وراء محركاته الحسية في لحظة ما نتيجة خلل ما في نظام المناعة الأخلاقية لديه.
لا يمكن إنكار أن امرأة القصيدة أعلاه قد أحبت الفتى كما أحبها بدوره، ولكن حبها كان شيئاً مختلفاً عن المفهوم الحسيّ للحب الذي لا يقترب من عوالم غرف النوم وأجواء الفراش. حب لا يشبه حب الأخ ولا الإبن ولا الزوج مع أنه حب صادق حقيقي حي. وهذا هو حب الصداقة. ألا يفترض أن يحب الأصدقاء بعضهم أيضاً ؟
غني عن الذكر أن الخوض في مثل هذا التابو الاجتماعي أشبه بالنبش في حقل ألغام، وحتى لا يساء الفهم والمقصد فإن هذه ليست دعوة إلى شيء بقدر ما هي محاولة لتلمس وتشخيص موطن من مواطن الخلل الكبرى التي تعاني منها منظومتنا القيمية، وما انفكت تنحدر بنا إلى هذا الدرك الحضيضي الذي سلبنا في النهاية الأمن والأمان، وألهى بصائرنا وأقعدنا حتى عن لعق جراحنا.
وغير يعيد عن ذلك، فهل كانت دعوة الشاعرة “سعاد الصباح” في قصيدتها (كن صديقي) معيبة عندما صدعت بكل ثقة واقتدار بحاجتها كإنسانة إلى صديق لا يستدرجها إلى قصص العشق وأحاديث الغرام؟ فاستحقت هذه الدعوة جدارة الإكبار والاحترام، حيث لا ذكورة في الصداقة أو أنوثة إلا بغرض مبيت ونية مسبقة.
لم تمنع كل احترازات الانغلاق والتزمت والغلو في تكلف الاحتشام من وقوع المحظورات كل يوم تحت أستار الكتمان والسريّة وفي الخفاء الشديد، فوجود الشرطي لم يردع اللص يوماً ما لم يرتدع من نفسه. واسألوا وقائع الطلاق وملفات الجريمة وجرائم الشرف.
على الرغم من أن النسق القيمي لهذا التجمع الإنساني والمهجوس بمفاهيم بدائية عن العرض والشرف تعتبر مجرد فكرة التواصل الافتراضي كالتخاطب الإلكتروني والوسائط الرقمية بين الجنسين، خلوة آثمة وفاحشة مبينة تستوجب إقامة حدود الله، صوناً للشرف الرفيع ودرءاً لشبهات اللعار، إلا أن السقوط يومي والعار مقيم.