قضايا خائنة

خاص- ثقافات

*محمود الباتع

كلما سقط حجر في بحيرة الدنيا يتساءل الكثيرون ويلحون في التساؤل حول موقف المثقف مما تدور به ساقية المجتمع من تفاعلات وما تجري به رياحه من أمواج، تبرز التساؤلات مراوحة بين الإستفهام والاستنكار حول الدور الذي يضطلع به العنصر الثقافي في خلق وقيادة ردات الأفعال تجاه قضية أو قضايا تشغل الجمهور، وتلقى منه العناية والاهتمام.

الحقيقة أن افتقاد دور المثقف عند كثير من المحكّات الحياتية، ليس بهدف الاستنارة أو الاسترشاد دائماً، بقدر ما هو التماس لشهادة حسن سلوك للمزاج الشعبي العام ترمي إلى تأصيله فكرياً وتضفي رصانة أخلاقية لرأي انطباعي سائد وراسخ بالفعل عند العموم، خصوصاً وأن شيوع الفكرة لا يعني بالضرورة صختها، غير أن من شأن شهادة كهذه أن تبرهن على صحة توجه الرأي العام وتبرئه مما قد يلحقه من شبهات التشتت والعشوائية، بإلباسه أردية من الصدقية هو غالباً في حاجة ماسة إليها.

كثيراً ما تكون الخيبة خاتمة الرجاء في هذا السياق، لكون السائد (الموروث غالباً) بثوابته وأركانه غريماً أزلياً بل خصماً طبيعياً لكل جهد فكري مهموم بالتجديد وتقويض الثابت والنمطي لإعادة بنائه بشكل ومضمون جديدين يماشيان التطور الطبيعي للحياة.

جسّد انقسام المجتمع الفرنسي إزاء قضية النقيب اليهودي “ألفريد دريفوس” سنة 1894م هذا المفهوم واقعياً يوم تمسك الرأي العام وقتئذ بالأحكام الخاطئة للقضاء والتي خلصت إلى تجريم “دريفوس” بالتجسس لصالح امبراطورية ألمانيا، وذلك  على الرغم من اكتشاف أمر الجاسوس الحقيقي في القضية، فكان أن انساق كل من الشعب والجيش والمنظومة القضائية وراء مشاعر الكراهية المخزونة لديهم تجاه ألمانيا التي استولت على أراض اعتبرت فرنسية آنذاك، مقرونة بنزعة جارفة من العداء للسامية وكراهية اليهود لأسباب عنصرية غير موضوعية، لتميل الأغلبية في النهاية إلى إدانة “دريفوس” بأي ثمن حتى مع ثبوت براءته.

تضامنت في المقابل طائفة من نخب الفكر والأدب مع مظلومية “دريفوس”، فصدر عنها ما عرف بأنه (بيان المثقفين Manifeste des Intellectuels) عام 1898م تبنته شخصيات ذات ثقل في دنيا الفكر والأدب بفرنسا من وزن “مارسيل بروست” و”أناتول فرانس” ” و”إميل زولا” وغيرهم، تولّى إيضاح الحقائق أمام الرأي العام، إلى جانب المقال الذي حرره “زولا” (إني أتهم ..) دافع فيه عن “دريفوس” ودفع ببراءته، بعد أن كان قد أدين بالفعل وتم تجريده من رتبته ونفيه إلى “جزيرة الشيطان”.

أما “زولا” فقد حنقت عليه العامة والسلطات العليا، وحكم عليه هو الآخر بالنفي لمدة سنة إلى “لندن”، كعقاب له على تطاوله على مقام القضاء  والمؤسسة العسكرية، على الرغم من تأكد الجميع من صحة موقفه. وقد أعقب هذا انشطار اجتماعي هائل حرّك موجة من الصدامات وأعمال الشغب التي سقط فيها ضحايا، بما هدد وحدة وأمن البلاد، ما اضطر السلطات إلى طيّ ملف القضية نهائياً بعفو رئاسي صدر عام 1906م بعد أن كان “إميل زولا” قد توفي بالفعل عام 1902م في ظروف غامضة مختنقاً إثر انسداد مدخنة المنزل. ونجدر الإشارة إلى أت أحد السكان أقر لاحقاً وهو يحتضر بأنه أقدم على إغلاق فوهتها عمداً، لأسباب قال إنها سياسية (!).

فهل دفع “إميل زولا” حياته ثمناً لموقف مبدئي اعتنقه حتى النهاية، في حين كان بإمكانه وببساطة ألا يفعل؟

استحدثت هذه الواقعة مصطلح (المثقف) ورسمت له دوره في المجتمع، وسلطت الضوء على ما قد يتكبده من خسائر قد تصل إلى فقدان حياته نتيجة الجهر بموقفه. ناهيك عما أحدثه (البيان الثقافي) من شق المجتمع إلى فريقين، صفوة من أهل الوعي التي اعتلت منصات الفكر والأدب مسلطة مصابيحها نحو الأرض حيث تخطو القاعدة الاجتماعية العريضة، كي تتلمس هذه الأخيرة خطاها في الاتجاه الذي يرشدها إليه الدليل النخبوي، الذي على ضوئه ترتسم ملامح الرأي العام.

ولكن .. ما هو الرأي العام ؟

إنه خلاصة المزيج البشري الفريد المركّب من جموع البسطاء وحسني النية وأصحاب المصالح والنفوذ، ومن حولهم من جموع الغوغاء والدهماء والمنافقين الانتهازيين السابحين مع التيار، الناشدين لقيمتهم في استرضاء الجموع، يقدسها كل منهم إما بوعي أو بغير وعي.

أوجد هذا التشطير الأفقي للمجتمع ظاهرة حوار الطرشان بين المثقف والعامة، وفسر دوافع لجوء المثقف إلى الإحجام عن الخوض العلني في الشأن العام، إيثاراً للسلامة أو نأياً بالنفس سحالات لا طائل منها، أو للسببين معاً، خصوصاً وأن استقواء الكثرة بشرعية الأغلبية تخلق منها غولاً صعب المراس خلف حصن القناعات الانطباعية، تروج لها مسوغات ماكرة وفضفاضة ذات طينة قيمية من قبيل الإجماع والعرف والتقاليد والثوابت وما إلى ذلك، ليجد المثقف نفسه في في خضم معركة لم يخترها مع التيار الجارف، وقد أسقط في يده تماماً. ليساق رغم أنفه إما إلى مذبح النفاق وإما إلى العزل القسري. وهكذا يفسح المجال تلقائياً لجملة الأدعياء والأشباه والانتهازيين من منتحلي الفكر والثقافة وطلاب الشهرة لملء الفراغ وشحن الرأي العام بفكر رديء وثقافة عدمية ركيكة الظاهر والمحتوى ترضي جمهور العامة.

وللمزيد من سريالية المشهد فقد ذهب لاحقاً “أنطونيو غرامشي” إلى تقطيع عمودي فئوي للمجتمع، حين لفت الأنظار إلى أن المجتمع منقسم بطبيعته إلى شرائح وفئات مهنية متفاوتة، لكل منها نخبتها الثقافية الخاصة، تدير اتجاهاتها وتشكل وعيها بما يخدم ويحفظ مصالح وتطلعات كل منها على حدة، بتشكيل فسيفسائي صارخ يصح أن نطلق عليه (عشائرية ثقافية) تفسر ما يندلع كثيراً من معارك بين مذاهب أو مدارس فكرية مختلفة، ظاهرها ثقافي وجوهرها نفعي ومصلحي فئوي لا أكثر.

إلى ذلك .. حدث ولا حرج عن خيبة المثقف ذاته وقد آمن بقضايا بعينها لامست ضميره، فبذل لها ومن أجلها وفي سبيلها عصارة عقله وعلمه، فما كان منها إلا أن خانته مع أول جاهل أو مغرض أو منافق لمجرد أنه أعلى صوتاً أو أمضى نفوذاً أو أكثر جذباً .. ولا عزاء لشفافية الفكر ولا لموضوعية النقاش ولا لصدق المعرفة. وليذهب كل ذي رأي رصين إلى بازار الأنتيكات، لا يكاد يراه أو يسمعه أويلتفت إليه إلا قلة من المعنيين الجادين و لفيف المرفهين المترفين وغايتهم الاستعراض والعرض .. ليس غير !

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *