تاريخياً، عُرّفت الفلسفة بأنها حكمة الحياة، ثم اعتبرت مجرد دهشة أو تساؤل، ورأى آخرون أنها نقد للفكر. أما الفيلسوف فهو، كما يقول أرسطو، ليس ذاك الذي يعرف، لكنه على العكس، هو الذي يطرح أسئلة حول معرفته، وهو الذي يعرف كيف يواجه بالشك، العقل الدوغمائي الذي يعتبر أنه يمتلك الحقيقة.
في المقابل، يعرّف الإرهاب بكونه قائماً على أفعال عنفية ضد المدنيين (داعش والنصرة)، بهدف خلق الشعور بالذعر بينهم، وقد يستهدف جماعة إثنية، أو قومية، أو دينية، لأجل بلوغ أهداف سياسية أو دينية. ومجمل أثر الإرهاب وفحواه، العمل على قولبة الناس في عقيدة واحدة ورأي واحد،في محاولته للقضاء على كل ما من شأنه اعتماد الاختلاف والتغاير. ويستند الإرهابيون إلى منظومة فكرية وثقافية تسوّغ أعمال العنف، وتحاول تبريره، وإعطاءه شرعية، وتستعين بشعارات ومقولات تخاطب الغرائز وتدغدغ العواطف البدائية. ووفق علم النفس الاجتماعي الإرهابي شخص عصابي، أي أنه مريض فقد المرونة وإمكانية التفاهم والحوار، ولجأ إلى استعمال أساليب ووسائل عنفية قاسية كالقتل، والاغتيال، وإلقاء المتفجرات، والسيارات المفخخة، وأعمال التخريب.
والإرهاب نوعان: معنوي بداية، والإرهاب الجسدي استمراراً ونهاية، وهو ما انصب على رؤوس المفكرين والفلاسفة عبر التاريخ. حاولت السلطات الحاكمة أخذ المدنيين عموماً بالشدة والخوف، فضلاً عن النخبة المفكرة، ولاسيما الفلاسفة. والتاريخ العربي حافل بضحايا الإرهاب الفكري ممن اتهمتهم السلطة الحاكمة بالتخريب، والدعوات إلى تعكير السلام الاجتماعي، ومحاولات قلب النظام. وكذلك ممن اتهمتهم السلطات بالكفر والزندقة والإلحاد، فتراوحت عقوباتهم مابين السجن والتعذيب والملاحقة والأعتقال، ومصادرة المتلكات، والإعدام بالحرق أو الشنق وأمثلة ذلك من الفلاسفة كثر.
في كتابه «الفلسفة والإرهاب» يحاول المفكر العراقي علي محمود المحمداوي استجلاء صورة الصراع بين الفلسفة والإرهاب، كما تمرأت في التراث الفلسفي العربي، محاولاً إبراز صورة الفلاسفة المعنّفين، ويبيّن مكابداتهم في الوقوف في وجه السلطات القائمة.
يعتبر الكندي فيلسوف العرب والإسلام (805- 873) أوّل من وقع الإرهاب عليه، بعدما أغدق الخليفة المأمون عليه الأعطيات، فعاش في راحة بال ونعمة حال. وبعدما حظي بمكانة مرموقة في عهد الخليفة المعتصم، إذا بالمتوكّل يأمر بضربه، ويسمح بالاستيلاء على مكتبته، ومصادرة ممتلكاته. أما الشخصية الأخرى التي نالت ما نالت بسبب فلسفتها وعلمها فهي أبو بكر الرازي (854 -925) الذي لم يفلت من لحظات التكفير بسسب فلسفته بإمكان تحويل المعادن إلى ذهب، إذ اعتُبر قوله بمثابة نوع من السحر، وأدّى عدم تمكنه من عملية التحويل إلى ضرب رأسه بالكتاب الذي ألّفه، وانتهت حياته خنقاً بأمر أحد وزراء الدولة.
لم يكن الفارابي (874 -950 ) ليقلق السلطة في أيامه بمشاكل النقد، فانبرى إلى المثالية والبحث في ما ينبغي وجوده، وإن تعرّض بوصفه الأوّل في ذلك لقضايا نظرية الفيض التي تنكر موضوع الخلق من عدم، وكان ذلك مسوّغاً جعل وصمة الزندقة تنصّب عليه. أمر المستنجد بالله بحرق كتب ابن سينا (980 – 1037)، مع تأييد مجموعة من المتكلمين تهمة تكفيره وزندقته. وفي وسط هذا الزحام، ظهرت مجموعة أطلقت على نفسها اسم «أخوان الصفا»، وهي أقرب إلى التنظيم السري، عملت على التوفيق بين الفلسفة والدين، (أو العلم والدين)، إلا أنّ أعضاءها لم يحظوا بقبول المتكلمين ورضاهم، فحاولوا جاهدين النيل منهم وتكفيرهم وإحراق كتبهم.
لكنّ قصمة ظهر الفلسفة كانت مع الغزالي (1058- 1111) الذي انبرى يكفّر الفلسفة بما أنجزه الفارابي وابن سينا على الخصوص، معتبراً أن الفلاسفة يمثّلون الكفر والإلحاد من خلال قولهم بقدم العالم وبأن البارئ لا يعلم بالجزئيات، وأن الأجساد لا تبعث. وقضت حملة الغزالي هذه على الفلسفة في المشرق، وامتدّت إلى المغرب العربي حيث ابن باجة، وهو فيلسوف أندلسي عمل وزيراً لمدة عشرين عاماً عند المرابطين في غرناطة، ثم انتقل إلى فاس حيث بدأت تنهال عليه الاتهامات لكونه انتفع بحكمة المشرقيين كالفارابي وابن سينا ونقلها إلى المغرب. ولعلّ قوله إن المعرفة الحقة تتشكّل بالعقل الفعّال الذي هو فيض من البارئ ما جعل تهم الالحاد والزندقة تنهال عليه فقمع وأرهب وقتل بعدما سُمّم له.
أما ابن رشد (1126/1095) فيلسوف قرطبة وقاضيها وطبيب حكامها، فدخل بلاط الموحدين أبي يعقوب، مع ابنه يوسف، وحظي بمكانة عالية لكنها لم تدم طويلاً لأن الفقهاء والعامة رموه بالزندقة والإلحاد، وألقوا على رأسه الأقذار في الشوارع. واختلفت الروايات في طريقة تكفيره، إلا أنها ترجع في مجملها إلى اشتهاره بالتبحر في علوم الفلاسفة. فاجتمع فقهاء قرطبا وقضاتها واستجوبوه، ثم قدموا محضراً بكفره وزندقته، واتهموا تعاليمه بأنها كفر محض، ودعوا باللعنة عليه فاضطر حاكم قرطبة المنصور إلى كسب رضى الفقهاء والعامة، وأمر بحرق كتب ابن رشد فأحرقت علناً، ونُفي صاحبها إلى بلدة اليسانة.
بعد ترهيب ابن رشد وتعذيبه يبدو السهروردي شريكاً آخر في العذاب الذي فرضته السلطات السياسية والعقائدية عليه. ولد السهروردي في إيران، درس الفلسفة والمنطق وتعمّق فيهما. وبعدما تمكّن من فلسفة الأوائل، انتقل إلى حلب فأخذ يجادل كبار علمائها وفقهائها. ولما عجزوا عن التغلّب عليه أو مجاراته بعدما راح يدحضهم بحججه وبراهينه، ازداد الحسد عليه والغيرة منه. وحين وصل أمره إلى الملك الظاهر غازي صلاح الدين الأيوبي، عقد مجلساً للمحاججة بين السهروردي وكبار الفقهاء والحكماء فظهر في المجلس، وعجز الآخرون أمامه، فقرّبه الملك منه مما أثار لديهم الحقد، وبدأوا بالتشنيع عليه واتهم بالإساءة إلى الإسلام وادعاء النبوة فأفتوا بحل دمه، وقد اختلف الرواة في طريقة قتله فقيل: بالخنق، وبعضهم قال إنه صلب، وآخرون أنه منع عن الطعام حتى تلف ومات.
_______