جاريبالدي .. الحرية مقابل حفنة قمح!

خاص- ثقافات

*د. يسري عبد الغني عبد الله

[ فما الذي طلبه جاريبالدي من الملك مقابل المملكة التي فتحها له، حفنة من حبوب القمح، ليبذرها في قطعة الأرض الصغيرة التي يملكها في كابريرا !!!.]

قد لا يعرف الكثيرون منا أن إيطاليا لم تصبح دولة متحدة أو موحدة إلا منذ عام 1870م، فبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، ظلت إيطاليا قرونًا مقسمة إلى العديد من الدويلات المستقلة، يحكم كلاً منها حاكم مطلق، من سلالة إيطالية أحيانًا، وفي أحيان أخرى من أصل أجنبي، أو يتصل بالمصاهرة بالأسرة الحاكمة الأجنبية.

        وفي نهاية القرن الثامن عشر، وحد نابليون العديد من الدويلات في مجموعات أكبر، وضع على رؤوسها أقاربه ومعارفه، أو بعضًا من قادته، وبعد سقوط نابليون، مزقت إيطاليا ثانية في مؤتمر فينا النمساوية عام 1815 م، وعاد الأمراء الأقدمون، ومحوا جميع الإصلاحات الديمقراطية التي أدخلها الفرنسيون، وهكذا أدرك الإيطاليون أن عليهم أن يحرروا أنفسهم، وأن يتحدوا معتمدين على جهودهم الخاصة.

        كانت مقاطعة أو دويلة بيدمونت، وعلى رأسها ملك ليبرالي من أسرة سافوي، في الطليعة، تشجع شعوب المناطق الأخرى، وأخذ الاتحاد الإيطالي سبيله تدريجًا، ففي عام 1860 م، انضمت لومباردي إلى بيدمونت، نتيجة لحرب التحرير الثانية، وبعدها ببضعة شهور، اندلعت الثورات في وسط إيطاليا، و بالرغم من معارضة النمساويين، نجح الوطنيون في ضم توسكانيا، وإيميليا، ورومانيا، إلى بيدمونت.

        ولم يبق آنذاك تحت سيادة الحكام القدماء سوى البندقية، والدولة البابوية، وجنوب إيطاليا، وفي صقلية، كان أكثر الوطنيين نشاطًا، يتخذون أهبتهم لثورة جديدة، تحررهم من نير وعسف وظلم أسرة بوربون، واندلعت ثورة مسلحة في باليرمو، لكن الشرطة أخمدتها بالقوة، وأدرك الوطنيون أنهم لم يبلغوا من القوة ما يكفي كي يحصلوا على حريتهم، معتمدين على أنفسهم، لذلك أرسلوا من يدعى / فرانشسكو كريسبي مبعوثًا لبيدمونت.

د. يسري عبد الغني عبد الله

جاريبالدي بطل العالمين :

        اتصل كيسبي بجاريبالدي في تورين، ودعاه باسم شعب صقلية إلى قيادة ثورة مسلحة فيها، ولكن لماذا جاريبالدي وليس حكومة بيدمونت ؟، كان الموقف عسيرًا، فبالرغم من أن نابليون الثالث، كان حليفًا للإيطاليين في حرب الاستقلال ضد النمسا، إلا أنه اشترك مع النمسا في حماية أسرة البوربون في نابولي، ولم يسمح كلاهما لبيدمونت باتخاذ موقف رسمي.

        ولكن جاريبالدي لم تكن له علاقة بالحكومة، وأي موقف يتخذه يكون من عمل مواطن فرد يحب بلاده، ويسعى إلى خيرها، وكان هو الإنسان الملائم لقيادة حركة شعبية تحررية، إذ أن صيته كان ذائعًا، فقد قاتل في سبيل الحرية، حيثما استطاع للقتال سبيلا، وعندما كان شابًا في أواخر العشرينات من القرن التاسع عشر، عمل ملاحًا في الأسطول التجاري، واضطر للهرب من موطنه جنوا، لأنه شارك في حركة ماتيزيني أو إيطاليا الفتاة، وبلغ أخيرًا أمريكا الجنوبية، وعرض خدماته على إقليم ريوجراند، الذي كان ثائرًا هو الآخر على إمبراطور البرازيل، وهناك قابل أنيتا المرأة التي قدر لها أن تغدو زوجة له، والتي رافقته دائمًا في حملاته الخطيرة.

        وفي عام 1842 م، حارب جاريبالدى لصالح مونتيفيديو، التي كان القتال دائرًا بينها وبين روساس حاكم بوينس أرس الطاغية، وظهرت فائدة خبرته البحرية، فاكتسب مجدًا جديدًا، يضاف إلى أعماله الباهرة، حيث أطلق عليه ” بطل العالمين “.

        وعاد جاريبالدي عام 1848 م، إلى إيطاليا، حيث كون جماعة من المتطوعين، أشعلوا حرب العصابات في جبال الألب الأوربية، وكانت هذه الجماعة جيشًا شخصيًا من جميع              الأوجه.

         وفي عام 1849 م، شارك الثوار في روما، بعد فرار البابا بيوس التاسع، الذي كان قد سحب امتيازات الحرية، التي أقرت بعد انتخابه بزمن وجيز وتدخل الفرنسيون في صف البابا، بعد دفاع بطولي رائع، أجبر جاريبالدي على الفرار، وانسحب على طول ساحل البحر الأدرياتيكي، تتبعته القوات النمسوية، وخلال هذا الفرار، توفيت أنيتا بعد سنين من الولاء والزمالة المخلصة.

        وغادر جاريبالدي البلاد قاصدًا نيويورك، وأخيرًا أصبح مرة أخرى قبطانًا في البحرية التجارية، وفي عام 1854 م، عاد إلى إيطاليا، ومارس الزراعة في جزيرة كابريرا، لكنه قاد في عام 1859 م، جماعة غير نظامية ” عابري الألب “، خلال الحملة التي تمت في تلك السنة.

حملة صقلية والألف متطوع :  

        وفي عام 1860، توجه الصقليون إلى جاريبالدي نفسه لحملة صقلية، و انضم إليه ألف متطوع، وفي مساء الخامس من مايو 1860 م، ألقت جماعة من فرقة بقيادة بيكسيو مراسي سفينتين في ميناء جنوا، مع تغاضي شركة السفن البخارية، ورجال الشرطة المنوبين، والذين كانوا يعملون بلا شك بناء على تعليمات سرية من كافور رئيس الوزراء، وفي اليوم التالي، اعتقد الجميع أن السفينتين وقعتا في أيدي القراصنة، أما الواقع فهو أن شركة ريوباتينو وضعت السفينتين تحت إمرة جاريبالدي، لكن مناورات بيكسيو كان لها الفضل في منع النمسا من الثأر من شركة ريوباتينو، بحرمان سفنها من دخول الموانئ النمساوية، وهكذا أقلعت الباخرتان من ميناء جنوا، والتقطا متطوعي جاريبالدي ذوي القمصان الحمر من البقعة المتفق عليها على الساحل، بالقرب من كوارتو.

هيا نرسو في مارسالا :

        وفي فجر الحادي عشر من مايو، بلغت السفينتان مرأى العين من صقلية، واستطلع جاريبالدي الساحل من سطح مؤخرة سفينته، فشاهد، وكان من حُسن الحظ على مسافة بعيدة، ثلاثًا من بوارج البوريون الحربية الكبيرة، واستمرت الرحلة، لكن قلوب الجميع كادت أن تبارح أجساهم، ولما اقترب جاريبالدي من مرسالا، شاهد خلال منظاره المقرب سفينتين في الميناء.

        واتخذ ذوو القمصان الحمر أهبتهم للعمل، وعمرت المدافع، ولما ازدادوا قربًا، أضاءت الابتسامة وجه جاريبالدي، فالسفينتان الراسيتان في الميناء كانتا إنجليزيتين، وليستا من سفن البوريون !!، وخطرت له كالبرق خطة جسور لخداع بوارج البوريون، فأصدر أوامره لسفينتيه بدخول الميناء على الفور، على أن ترسو إلى جانب السفينتين الإنجليزيتين، لأن أسطول البوريون لن يجرؤ على إطلاق النيران، خوفًا من إصابة السفينتين المحايدتين.

        وهكذا كان الفضل لحماية السفينتين الإنجليزيتين غير المقصودة، وتم إنزال الألف متطوع إلى البر دون أدنى صعوبات، لكن أحد عمال البرق (التلغراف)، شاهد ما كان يحدث، فأخطر قيادة جيش البوريون في تراباني.

رجال يواجهون الموت :

        وفي الخامس عشر من مايو، اقترب جاريبالدي من كالاتافيمي، وهي مقاطعة صغيرة على الطريق من مرسالا  إلى باليرمو، وفي الصباح الباكر ظهر فجأة عدد كبير من الجنود البوربون أمامهم في تشكيلات المعركة، وكان رجال جاريبالدي أقل عددًا، لكنهم ظلوا رابطي الجأش، وساد السكون الجيش فترة، ثم نفخ في النفير، فتقدمت مقدمة جيش البوربون تجاه الألف متطوع، ولكن الألف بقوا ساكنين، واستمر البوربون في التقدم تجاههم، وهم يجرون مدعين كبيرين خلفهم، ويطلقون النيران من بنادقهم، وظل رجال جاريبالدي ومدافعهم على أهبة الاستعداد، لا يردون على نيرانهم، إلا عندما اقتربت المسافة غلى بضعة عشرات من الأمتار، في هذه الأثناء فتح القناصة في جيش جاريبالدي النيران، وقد أدى تصويبهم السديد، إلى إيقاع خسائر فادحة في صفوف البوربون، ثم أصدر جاريبالدي بإعلان الهجوم، فانطلق رجاله إلى الأمام مهاجمين العدو، الذي غشيت الفوضى صفوفه.

        وبعد قتال وجيز، استولى رجال جاريبالدي على المدفعين الكبيرين، فأمر جاريبالدي بإيقاف النيران، مكتفيًا بالغنيمة، ولكن الجنود تظاهروا بعدم سماعهم المر، واستمروا في التقدم تجاه قلب جيش البوربون، الذي حاول بلا جدوى صدهم بنيران البنادق، وظلت المعركة حامية الوطيس، مشتعلة طوال اليوم، وحتى جاريبالدي، والسيف في يمينه، شارك في الالتحام المثير، ومع غروب الشمس كان النصر لذوي القمصان الحمر، الذين استولوا على المدينة، بينما جيش البوربون المنحل مبعثرًا في الحقول.

العبور إلى الحذاء الإيطالي :

        عبر جاريبالدي إلى مقدمة الحذاء الإيطالي من صقلية، وعندما تم تحرير مقاطعة نابولي، وفاق نجاح الحملة كل شك، نحى كافور ما تبقى من ظنونه جانبًا، وأرسل الجيش النظامي، بقيادة الملك نفسه، للقاء جاريبالدي.

        ولدى اقتراب الجيشين من تيانو، بالقرب من نهر فولتيورنو، وكان كل الإيطاليين يتساءلون ” هل سيسلم جاريبالدي فتوحاته للملك؟! “، و ” هل سيعود البطل ليصبح مواطنًا عاديًا، بعد أن هزم مملكة ؟ ! “، وقد وضع اللقاء في الصباح المبكر من السادس والعشرين من أكتوبر عام 1860 م، حدًا لكل حدس، فلقد عسكر ذوو القمصان الحمر بالقرب من فولتيورنو، وفجأة سمعوا صوت المقاطع الموسيقية الأولى من ” لحن المسيرة الملكي ” يأتي من بعيد.

والثمن حفنة قمح..إنه النبل الحقيقي !! :

        وهتفت القوات ” الملك قادم ! “، واقترب الصوت، ودنى الملك / فيكتور عمانويل الثاني على صهوة حصان أبيض، وامتطى جاريبالدي جواده خارجًا لملاقاته، ولما غدا البطل على بعد خطوات قليلة من الملك، رفع قبعته وصاح ” التحيات لملك إيطاليا ! “، فجابه الملك : ” شكرًا لك، التحيات لصديقي الحميم ! “، ومد الملك يده لجاريبالدي، الذي صافحه بحرارة، ثم تقدما راكبين جنبًا إلى جنب، وقدم جاريبالدي الملك لقواته وللشعب قائلاً : ” ها هو ذا فيكتور عمانويل، مليكنا، عاهل إيطاليا “.

        فما الذي طلبه جاريبالدي من الملك مقابل المملكة التي فتحها له، حفنة من حبوب القمح، ليبذرها في قطعة الأرض الصغيرة التي يملكها في كابريرا  !!!.

        وودع البطل رجاله، حاملاً تلك الحفنة، وحيا الشعب الذي احتشد حتى المرسى، ثم غادرهم إلى موطنه راضيًا قرير العين.
_________
*باحث وخبير في التراث الثقافي

Yusri_52@yahoo.com

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *