كارلوس ليسكانو.. قرار الكتابة


*عبدالله بن عمر



كارلوس ليسكانو، أديبٌ من الأوروغواي، ولد عام ١٩٤٩م في مونتيفيديو، وانضم في شبابه إلى حركة “التومبارو” اليسارية المسلحة، وذاق مرارة السجن لثلاثة عشر عاماً، اكتشف أثناءها ذاته ككاتب، أو صنع من نفسه كاتباً، سيان! أفرج عنه، وهاجر إلى السويد، ثم عدل عن هجرته وعاد إلى مونتفيديو، وشغل منصباً وزارياً، ثم عمل مديراً لمكتبة الأوروغواي الوطنية، وصدرت له عدة أعمال روائية ومسرحية وشعرية، ولا يزال في قيد الحياة حتى لحظتنا هذه.
يقول ليسكانو: الشعور بكونك كاتباً قبل أن تكون قد كتبت أي شيء هو غرور لا يستند إلى الواقع أو التاريخ الشخصي، لكني أرى اليوم أنه دون هذا الاعتقاد الذي لا دليل عليه لا يصبح المرء كاتباً.. إنه قرار، وإيمان، وفعل جذري إلى درجة أن بوسعنا القول مثل المتدينين: إن مجرد امتلاك الإيمان هو شكل من أشكال الخلاص.
في ظلام السجن، وتحت وطأة الانفراد والشعور بفقدان الحرية، عاش ليسكانو ثلاثة عشر عاماً أعاد فيها تشكيل نفسه، وبقدرة الإنسان غير المتناهية على التكيف والتأقلم مع الظروف العسيرة، كان ليسكانو يعيش في زنزانته، مع فائض من الوقت، وضيق في المكان، يواجه نفسه، دون أن يقوى على عمل شيء آخر، كانت تلك لحظات غير عادية، وجد فيها ليسكانو نفسه مرغماً على مكاشفة نفسه، ومحاورتها، والاكتفاء بها عن العالم الخارجي!، وهناك قرر ليسكانو أن يكون كاتباً، وبقراره ذاك.. لم يولد ليسكانو من جديد وحسب، بل ولد معه ليسكانو الكاتب.. الكاتب القادر على الوصول إلى أعماق الذات الإنسانية، والقادر على الانشطار إلى اثنين يتفحص أحدهما الآخر، ثم يكتب تقريره عنه بوضوح وصراحة وقلم رشيق.. مساحة قوته وتألقه هي ال”أنا” لا الآخرون، فقد جعل من نفسه “أنا” و”آخر” في نفس الوقت، يعبر عن هذه القدرة النادرة المحدودة معاً بقوله: “تعلمنا الكتابة الحديث مع النفس، ولست متأكداً من أنها تعلمنا الحديث مع الآخرين”.
والحقيقة أن الكتابة تعلمنا الحديث مع كل آخر، أياً يكن هذا الآخر: إنساناً، شجرة، قمراً سارياً، موجة، هباءة سابحة على غير هدى في نهر من شعاع، ولكن ليسكانو عاش أسير تجربته الفردية القاسية، ولم يعد يجد في ذاته قدرة على بذل جهد جديد لإعادة التقولب وفق شروط العالم الذي تفتحت عليه عيناه مجددا بعدما أطلق سراحه.
عشت مع كتابه العجاب “الكاتب والآخر” أياماً لا توصف، كنت أرتشفه على مهل، وأتلوه على مكث، عشت مع ليسكانو واقعيته وسوداويته، وإشراقاته، ولفت انتباهي في كتابه أمور لا تحصى، وعلى من استبد به الفضول أن يقرأ الكتاب ويعيش التجربة بذاته.
أما الذي أود أن أنعم النظر فيه فيما تبقى من مساحة هذه المقالة؛ فهو: قرار الكتابة! قرار أن تكون كاتباً، اللحظة التي تسير فيها بملء إرادتك، وبغض النظر عن كل اعتبار آخر، إلى عالم الكتابة.. وتطرق بابه، وتنغمس في بحيرته الباردة حينا، الفوارة حينا آخر، أن تقرر مكابدة القلم والورق، في انتظار لحظة فتح من فوق، ودفقة إلهام من هناك، من الأعماق، أن تقرر -بكامل قوى عقلك- بناء شخصيات من العدم، وتكوين عالم في صفحات رواية، أن تقرر تكثيف الشعور حتى يصير حبرا على ورق!
صارت الكتابة بالنسبة لـ ليسكانو عالماً، بل صارت العالم الذي لا يعرف غيره، ولا يعيش لشيء عداه.. يقول كارلوس عن مسودة رواية ما: “إنني لا أعيش يومي إلا من أجل الوصول إلى هذه الأوراق والتقدم فيها قليلاً، قليلاً جداً، فهذا ينقذني، وينقذ ليلتي، الليلة الجديدة”.
إنه قرارٌ إذن.. قرار أن تكون كاتباً.. وهو يعني أن تمنح الكتابةَ نفسَك، وتهبها حياتك، كما وهبها ليسكانو كل شيء حتى عدّها كل شيء، بمعنى أن حياته بدون الكتابة تساوي صفراً.
“إن أنا حذفت الساعات التي أمضيها في الكتابة، وفي التفكير فيما علي أن أكتبه، وفي تدوين ملاحظات من أجل الكتابة – إن طرحت هذه الساعات فإنه، وبدون مبالغة، لن يبقى أي شيء في حياتي؛ أي شيء على الإطلاق”. (الكاتب والآخر، ٢٢)
وهكذا.. لن تعطيك الكتابة الحقة بعضها حتى تعطيها كُلّك!
_______
*جريدة الرياض

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *