أكاذيب الشعراء الجدد

*حسونة المصباحي

بعد أن خاض مغامرة شعريّة عنيفة، تكاد تكون شبيهة بـ”معركة حامية يخوضها رجال أشدّاء”، شعر رامبو أن الشعر لم يعد قادرا على تلبية رغباته، وتحقيق ما كان يطمح إليه ويأمل فيه. وقبل أن ينسحب نهائيّا ويمضي إلى إثيوبيا واليمن، مبدّلا الشعر بتجارة السلاح وأشياء أخرى، كتب يقول “أخيرا، أعتذر لأنني تغذّيت من الأكاذيب. ولنواصل الطريق”.

كذب الشعراء

الأكاذيب؟ الكلمة تبدو جارحة وقاسية، خصوصا لمن يؤمنون أن رامبو أحدث في مجال الشعر”ثورة” شبيهة بتلك التي أحدثها أينشتاين في مجال الفيزياء. أما بالنسبة إلى صاحب “فصل في الجحيم”، فإن الكلمة المذكورة تعبّر عن اعتراف صادق ونزيه بالإخفاق، وعن انتفاء الحاجة إلى الشعر. نعم… لقد بلغ الشاعر الشاب الحدود القصوى لمغامرته الشعريّة، ولم تعد أمامه غير بيداء جرداء، كتلك التي هلك فيها المتنبي الذي ظل يزعم حتى اللحظة التي طوقه فيها اللصوص، أنه لا أحد بإمكانه أن يهزمه لا بالقلم ولا بالسلاح. لذا لم يكن من الضروري بالنسبة إلى رامبو أن يواصل المغامرة التي بدأها وهو في الرابعة عشرة من عمره… وهكذا انسلّ هاربا إلى الأصقاع البعيدة التي سحرته، وهو طفل يقلّب صفحات كتب عن الأسفار والمغامرين.

معلّقا على كلمة “أكاذيب”، يتساءل الشاعر روماني الأصل، فرنسيّ الجنسيّة، لوران غاسبار قائلا “لكن هل باستطاعتنا أن نمتلك الوسائل التي تخوّل لنا أن نعرف أننا نكذب؟”. وإذا ما نحن سحبنا هذا السؤال على واقع الشعر العربي الجديد، فإننا نقدر أن نطرح السؤال ذاته “هل الشعراء الجدد قادرون أن يكتشفوا بإمكانيّاتهم الخاصة، وبوعيهم الذاتي، وليس بتدخل من النقاد، أنهم يكذبون لا على القراء، وإنما على أنفسهم أيضا؟”.

طبعا علينا أن نستثني من هذا السؤال المحرج، عددا قليلا من الشعراء، وتحديدا أولئك الذين أثبتوا أنهم يخوضون المغامرة الشعرية بالكثير من الكفاءة، والقدرة. أمّا من تبقّى فهم معنيّون به سواء أكانوا من أهل المشرق، أم من أهل المغرب.

وأنا لا أتقصّد من هذا السؤال الاستفزاز الأحمق، ولا إثارة معارك دونكيشوتيّة بلهاء، وإنّما وضع الإصبع على جرح بات يؤلم نقّاد الشعر، وأحبّاءه، وقراءه. كما أبتغي من خلاله تشخيص واقع شعريّ يزداد انكماشا وجفافا فترة بعد أخرى. وأنا أعتقد أن الكثيرين يعتبرون سؤالي مشروعا. إلاّ أنهم يتجنبون طرحه خوفا من بطش “عصابات” الشعراء الجدد التي تنشط على كامل الخارطة العربيّة. وفي كلّ مرة تتعرض فيها مثل هذه “العصابات” للنقد، تخرج من “غيتواتها” غاضبة، هائجة لتلعن هذا أو ذاك من الذين سعوا إلى تصويب أخطائها، وتصحيح مفهومها للشعر، ناعتة إيّاه بأقبح الأوصاف فهو “متخلف”، و”رجعي”، و”خارج العصر”!

ومع أن العديد من الشعراء الجدد المعنيين بسؤالي، لا ينقطعون عن الزعم أنهم “ديمقراطيّون”، و”حداثيّون” رافضين لكلّ مظاهر وأشكال التعصب والتحجّر، فإنهم سرعان من ينقلبون على مبادئهم السّمحة هذه، حالما تخدش مسامعهم كلمة واحدة تشكك في موهبتهم الشعريّة، أو يصدر رأي يتعارض مع قناعاتهم. فإذا ما شعروا أنهم غير قادرين على الردّ على منتقديهم بالحجة والدليل، جنّدوا “نقادا” يدّعون أنهم متخصصون في أحوال الحداثة ليخرج هؤلاء على الناس بكلام عجيب يزيد في تعقيد حالة الشعر، وإفساد وضعه.

أسباب كثيرة

أعود إلى السؤال الذي طرحته آنفا، وأقول بأنه ليس هناك إلى حدّ الآن دليل واضح أو خفيّ، علنيّ أم سريّ، يمكن أن يقنعنا بأن الشعراء الجدد يمتلكون الأدوات والوسائل التي تخوّل لهم إدراك خواء تجربتهم، وبطلانها، وزيفها. بل نحن نعاين أنهم متشبثون بها تشبّثا أعمى، ماضون فيها بالكثير من الزهو والفخر والغرور والاعتداد بالنفس، رافضون تقييمها وإعادة النظر في جوانبها. ولوضعهم المريب هذا، أسباب كثيرة، إلّا أننا سنقتصر على ذكر أهمها:

أولا: إذا ما كان الشعراء الرواد (السياب، نازك الملائكة، البياتي، أدونيس…) والبعض من الذين جاؤوا بعدهم، مثل محمود درويش، وسعدي يوسف، قد تمكنوا من أن يحدثوا بالفعل “ثورة تجديدية” في الشعر العربي المعاصر، سواء على مستوى الشكل، أم على مستوى المضمون، فلأنهم كانوا على معرفة دقيقة بالتراث القديم، شعرا ونثرا، فلسفة وتاريخا. وقد ساعدهم إلمامهم العميق بهذا التراث على التحكم في أدواتهم وأساليبهم التقنية، وعلى ابتكار لغة جديدة مسكونة بنبضات الواقع، ومتوهّجة بألق العصر. بالإضافة إلى هذا، كان هؤلاء الشعراء يمتلكون اطلاعا واسعا على الثقافات الأخرى في جميع العصور والأزمان.

وكان فضولهم المعرفي يدفع بهم إلى الغوص في التجارب الشعرية الأخرى، الغربية منها تحديدا، لكي لا تأتي “الحداثة” التي يدعون إليها معطوبة ومشوّهة وفاسدة. والبعض منهم قاموا بترجمة أعمال مهمة لشعراء عالميين، وعرّفوا برموز الحداثة الشعرية. كل هذه الفضائل التي يتمتع بها الشعراء الرواد تكاد تكون منعدمة لدى الشعراء الجدد. فبالنسبة إلى التراث العربي، يمكن القول إن معرفتهم به سطحيّة. بل قد يرى البعض منهم في هذا التراث مجرد “مقبرة” موحشة، يعود منها زائرها حزينا وخاوي الوفاض.

أما في ما يتعلق بالثقافات الأخرى، وبالتيارات الشعرية والفكرية، قديمة كانت أم معاصرة، فإنّ جهلهم بها بيّن ومفضوح، ما إن تقرأ لهم قصيدا أو مقالا. وهم لا يعلمون أن رواد الحداثة الشعرية في الغرب من أمثال بودلير، ورامبو، ولوترايامون، ومالارميه، وإدغار ألن بو، ووالت ويتمن، وغيرهم، كانوا قد هضموا القديم قبل أن يأتوا بما هو جديد. وبسبب عدم إتقانهم للغات الأجنبية، نرى أنهم قرأوا أعمال كبار الشعراء في ترجمات سيّئة في غالبيّتها. لذا هم لم يتمكنوا من النفاذ إلى أعماقها، وإدراك معانيها. كما أنهم لا يعيرون اهتماما للفنون الأخرى مثل الرواية والمسرح والرسم والسينما والموسيقى. وعندما نعلم أن الشاعر لا يمكن أن يبدع عملا جيّدا إذا ما كان مكتفيا بـ”الغيتو” الذي اختار العيش فيه، فإننا نفهم سبب خواء الشعراء الجدد، وضحالة تجربتهم، وركاكة لغتهم، وفقر خيالهم، وضعف أدواتهم التقنيّة.

ثانيا: يبدو أن الشعراء الجدد يعتقدون أن التجديد الشعري عملية شكل فقط لا غير! من هنا يمكن أن نفهم انحيازهم الأعمى لقصيدة النثر، ودفاعهم عنها. لكأنهم يظنون أنه تكفي الشاعر كتابة هذا النوع من الشعر لكي يصبح “حديثا”، و”مجددا”. وفي حالة كهذه هم لا يفكرون في جوهر الشعر، ولا يعيشون الحالة الشعرية، بل هم تائهون وضائعون خارجها. لذلك تتهاطل علينا كل يوم كميات هائلة من النصوص المفككة، والكلمات المتقاطعة، والهذيانات المضحكة، أو الموجعة للرأس.

ثالثا: في مذكراته الشهيرة، كتب الفيلسوف السويسري أميال يقول “الافتعال يفقد العقل والموهبة”. ويبدو لي أن الافتعال هو العنصر الأكثر بروزا في تجربة الشعراء الجدد. فأغلب هؤلاء يعيشون حياة بائسة، خالية من المغامرة ومن الإثارة. مع ذلك هم يدعون إلى التمرد، والثورة على التقاليد القديمة، وعلى الأساليب الرثّة. إلّا أن سلوكهم في الحياة، يتعارض مع مثل هذه المزاعم والادّعاءات، وهم يستفيضون في الحديث عن “المغامرة”، غير أنهم يخشون أي حركة تخرجهم من رتابة الحياة التي يعيشونها.

إنهم كائنات خاوية، خاملة، تنام مبكرا مثل الدجاج، وتتنفس هواء الأماكن الدبقة والمغلقة، وتخشى السير في الغابات الداكنة الظلال، ولم يسبق لها أن “فاجأت أرنبا مفتوح العينين، يتلو صلاته لقوس قزح من خلال خيوط العنكبوت” (رامبو). ولأنهم ينظرون إلى العالم من حولهم من خلف أوهامهم وخيالاتهم المريضة، وقراءاتهم المتسرعة، فقد جاءت قصائدهم باردة، وجافة، وكاذبة، وخالية من التوهّج والإشراق. بناء على ما أسلفنا الذكر، يمكن أن نقول إن الشعراء الجدد يعيشون في عالم من الأباطيل والأكاذيب وهم في طمأنينة. لذلك انقطعت الصلة بينهم وبين أحباء الشعر، وأضحت دواوينهم الشعرية مركونة في الأركان المعتمة.
____
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *