الأسطورة والشعر.. النيء والمطبوخ

*خزعل الماجدي

في الأساطير نما جنين الشعر وكبر في حقولها مثل نباتٍ وحشيّ، حيث كان الشعر في الحضارات القديمة جزءاً من الدين، يرقد جسدُه في أحشاء الأسطورة حياً مع الآلهة، وحين ولد في فضاء الحياة الدنيا كان يحبو ليكون كائناً مستقلاً، لكن الأسطورة كانت تعيد ابتلاعه لكي تلده من جديد. هكذا بقي الشعر إلى يومنا هذا لصيقاً بحقل الأسطورة الواسع، ورغم أن مطبخه الدنيويّ توسع وامتلأ، لكنه يخضع لهذا القدر الدائريّ.. بين شكله النيء في الأسطورة وشكله المطبوخ في الأدب.. فهل هذا كلّ شيء؟ أم الأمر يحمل تركيبةً خاصةً ذات طبقات!

كان السحرُ أول أشكال العلاقة بين الإنسان والمقدّس، ولذلك فهو أول قناةٍ للاتصال بين المقدّس والإنسان.. وتتضمن هذه القناة شحنات إيجابية من الإنسان إلى المقدّس (وهو ما نسميه بالسحر) وشحنات سلبية من المقدّس إلى الإنسان (وهو ما نسميه بالعرافة) وكلاهما كان، من وجهة نظرنا، أول شكل من أشكال الشعر، الشعر بصورته العملية ممارسةً والشعر بما ينضحُ عن هذه الممارسة من كلماتٍ وجُملٍ ثم جاءت مراحل أخرى بعد السحر وهي الأرواحية وظهور الآلهة ومرحلة التوحيد، وهكذا انقسم تاريخ العالم، روحياً، أو تاريخ الروح إلى أربع مراحل اختلفت في كلٍّ منها طرق النظر إلى المقدّس والمدنَّس ونتج عن ذلك اختلاف في نوعي الشعر الرئيسين الديني والدنيوي.

لعلّ أكبر مشكلة في فهم المعنى الدقيق للأسطورة والمعنى الدقيق للميثولوجيا يكمن في فرز الأسطورة، أولاً، عن الأنماط التي تشبهها وتتداخل معها كالملحمة والخرافة والحكاية الشعبية.

فالأسطورة هي (حكاية مقدسة) أو هي (تاريخ مقدس) يكون على شكلٍ سردي شعري ويكون محورها إله أو كائن إلهي وتتحدث، في الغالب، عن موضوعات كبرى كالخلق وأصول الأشياء والموت والعالم الآخر، وهي ذات قدسيّة وسلطة عظيمة في عصرها وعلى من يؤمن بها. وهي بلا مؤلف لأنها نتاج خيال جماعي لا فردي يمتاز بالثراء الروحي.

ولأن الأسطورة كلمة تعني (حكاية مقدسة) فهي (حكاية إله) تكتب بطريقة شعرية وهي غالباً ما تشير إلى نشوء أو أصل الأشياء والعالم والبشر. والأسطورة إحدى مكونات كل دين قديم فهو يتكون من المعتقد والأسطورة والطقس.

الأسطورة إذن قصة تقليدية ثابتة نسبياً ومقدسة ومربوطة بنظام ديني معين ومتناقلة بين الأجيال ولا تشير إلى زمن محدد بل إلى حقيقة أزلية من خلال حدث جرى، وهي ذات موضوعات شمولية كبرى محورها الآلهة ولا مؤلف لها بل هي نتاج خيال جمعي. ويرى مرسيا إلياد أنها تشير إلى (تاريخ مقدس) أي إلى (تاريخ روحي) يحمل القليل من التاريخ الواقعي.

أصل كلمة (أسطورة) العربية

ونرى أن مصطلح (أسطورة) العربية انحدر من اسم الإلهة عشتار الأكدية البابلية فقد تحور اسمها في اللغات السامية القديمة إلى إستار وإسطار وصار في العربية أسطورة، والمقصود بذلك الحكايات التي دارت حول إلهة الحب والجمال عشتار، ومن هذا الاسم ظهرت كلمات (star) أي النجمة في اللغات اللاتينية والمقصود بها نجمة الزُهرة، وكلمة (story) أي القصة وهي حكاية عشتار أو أسطورتها وكلمة أسترونومي (Astronomy) وهو علم الفلك، وكلمة أسترولوجي، علم التنجيم، (Astrology) وغيرها من الكلمات وقد ثبتنا هذا الرأي في أكثر من كتابٍ ومناسبة.

أصل كلمة أسطورة (مِث) الأجنبية

أما كلمة (myth) اللاتينية (أي أسطورة) فيرى الباحثون أنها مشتقة من الجذر اليوناني (muthas) بمعنى قصة أو حكاية أو من (mouth) بمعنى الفم وهو ما يخرج من الفم من حكايات أو كلام.

وإذا كانت الأسطورة، كظاهرة أساسية من ظواهر الدين، قد نشأت منذ تلك الأزمان السحيقة فإن مصطلح (مِث Myth) الذي يدلُّ على الأسطورة هو مصطلح حديث نسبياً «إذ ظهر في اللغة الفرنسية العام 1811 (روبرت Robert)، وفي اللغة الألمانية في العام 1815 (غريم Grimm)، وفي اللغة الانجليزية العام 1830 (قاموس أكسفورد للغة الانجليزية OED)، في حين أن كلمة (Pavula) ما تزال تستخدم في اللغة الإيطالية منذ أيام فيكو Vico وحتى (ليوباردي Leopardi).

الأسطورة والمقدّس

الأسطورة هي الجزء الحكائي الشعريّ من الدين أي قصص هذا الدين التي تدور حول الإله أو الآلهة أو الكائنات الإلهية وليس حول الناس وتاريخهم، فالدين يتكون من أربعة مكوّنات رئيسية الأول هو العقيدة وهو الجزء الفكري والثاني هو الأسطورة وهو الجزء القصصي عن الإله والثالث هو الطقوس وهو الجزء العملي. والرابع هو الإسكاتولوجي وهو كل ما يتعلق بالموت ونهاية العالم.

تعمل الأسطورة على تبسيط الدين والمعتقدات الدينية، بل والطقوس في صيغة قصصية يفهمها الجميع، ولعل هذا أحد أسباب ظهور الأساطير في تلك المجتمعات القليلة التعليم والقليلة الثقافة. إن القصّ هو أبسط الوسائل لتقريب أعقد التصورات والمعتقدات الدينية كذلك فهي المقنعة لفهم معنى الطقوس التي يمارسها الإنسان المؤمن.

كذلك تعمل الأسطورة على ربط الإنسان بآلهته وعدم نسيانهم بل ومشاركتهم القداسة. ورغم أن الأساطير نماذج عليا بالنسبة للإنسان لكنها تتيح له مشاركة الآلهة باستعادة قصّها أو الاستماع إليها بل والمشاركة معها في طقوسٍ وشعائر، واستعادة تلك الأساطير عبر الطقوس في تلاوتها أو تمثيلها هو التحام مع آلهته، وكانت تلعب الأعياد السنوية دوراً مهماً في تجسيد مثل هذه الطقوس.

والأسطورة هي (حكاية مقدسة) أي حكاية تتحدث عن إله، وهي قد تدون تاريخاً مقدساً، حيث كانت الآلهة، أو زمنا مقدساً ظهرت فيه حكايات الآلهة باعتبارها منشئة الأصول. والأسطورة، كما رأينا، تنتمي إلى المنظومة الدينية لا إلى المنظومة الدنيوية.

الشعر ينتمي إلى المنظومة الدنيوية رغم أن تقنياته قد تستعمل في الأسطورة لكنه، بصورة عامة، منزوع القدسية ومن هنا اختلف الشعر عن الأسطورة، فكانت الأسطورة هي الحقل وكان الشعر هو المطبخ.

كانت الأسطورة وما زالت في منظومة الدين، لكن التطور التاريخي للأديان أجبرنا على استنتاج جديد يمكن أن يكون مفتاحاً للعلاقة بين الأسطورة والشعر في الوظيفة الدينية. وهذا الاستنتاج هو أن الأسطورة جزء حي من منظومة الدين الذي تظهر فيه، لكنها عندما يختفي ذلك الدين نهائياً تتحول إلى نص أدبي بالنسبة للأديان اللاحقة الأخرى ولا تعود مؤثرة على المستوى الديني، إنها تتحول إلى فولكولور شعبي يكون لصيقاً بالشعب الذي أنتجها ذات يوم.. وهي من ناحية أخرى نص أدبي وتحديداً نص شعري. وهذا يعني أن الأسطورة عندما تفقد مقامها المقدس تتحول إلى شعر لكن هذا الشعر مكتوب بتقنيات سردية ودرامية وليس بتقنيات شعرية بالضرورة. إن الأسطورة جزء من الدين طالماً كان ذلك الدين موجوداً وفاعلاً، ولكنها جزء من الأدب عندما يختفي ذلك الدين أو عندما يبدو بعيداً عن التماس بنا. وهذا يثبت من جديد أن الجوهر المقدس للدين هو الذي يضع الأسطورة في مقامها الرفيع بينما هي في حقيتها (حكاية شعرية) من ناحية الأدب.

الأسطورة تؤسس أيديولوجياً للعقيدة الدينية وتؤسس عملياً للطقس الديني فهي المولد الرئيس لهذين الحقلين المشاركين لها في منظومة الدين. أما الشعر فلا يؤسس أيديولوجياً لعقيدةٍ ما ولا يؤسس لطقوس شعرية، وأعني بذلك الشعر الحديث أكثر من الشعر القديم، الأسطورة إذن أسست الدين القديم وحافظت عليه عن طريق القصّ أو السرد. أما الشعر، اليوم، فلا يؤسس الدين بالمعنى القديم، بل ربما، يؤسس لديانةٍ جديدة عمادها الأرض لا السماء، الإنسان لا الآلهة. وبذلك يستعيد الشعر أسبقيته على الأسطورة، وتصبح هي جزءاً منه بمجرد أن ركزنا على وجهته الدنيوية ونزعنا منه الفتيل الأيديولوجي.

«مِث» و«ماوث»

كلمة ( myth) اللاتينية (أي أسطورة) يرى الباحثون أنها مشتقة من الجذر اليوناني (muthas) بمعنى قصة أو حكاية أو من (mouth) بمعنى الفم وهو ما يخرج من الفم من حكايات أو كلام.

منزوع القداسة

الأسطورة تنتمي إلى المنظومة الدينية أما الشعر فينتمي إلى المنظومة الدنيوية رغم أن تقنياته قد تستعمل في الأسطورة لكنه، بصورة عامة، منزوع القدسية ومن هنا اختلف الشعر عن الأسطورة، فكانت الأسطورة هي الحقل وكان الشعر هو المطبخ.

عشتار.. أصل الأسطورة

مصطلح (أسطورة) العربية انحدر من اسم الإلهة عشتار الأكدية البابلية التي تحور اسمها في اللغات السامية القديمة إلى إستار وإسطار وصار في العربية أسطورة، والمقصود بذلك الحكايات التي دارت حول إلهة الحب والجمال عشتار.
____
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *