الشعر يحلق على جناح الأسطورة


*عثمان حسين

ليس من باب المبالغة القول، إن الأسطورة قد أفادت الشعر العربي، بما تحمله من ميزات على تحفيز مخيال الشاعر، وقدرة على الاستفادة من تراث الإنسانية الزاخر، فهي التي جعلت لغة هذا الشاعر أكثر أناقة، وجعلت صور ذلك الآخر أكثر ابتكاراً، ودفعت آخرين نحو البحث عما تتضمنه من ميزات ورؤى ورموز، كأن الشاعر في رحلة استكشافية لعوالم اللغة، يسخرها لتغدو أكثر ثراء، ومشحونة بالإيحاء والدلالة، وقابلة للسفر والإبحار بين عالمي الواقع والخيال.

الأسطورة بحسب التفسير المعجمي أو اللغوي، هي الحادثة أو الحكاية، أو الرواية التي تنقل تفاصيل تاريخية وقعت في زمن قديم جداً، وهي لا تكون أسطورة، إلّا بمقدار ما تنطوي عليه من خيال، ورمز ومجاز، وغالباً ما تكون الأسطورة ناقلة لحوادث خارقة سواء تعلق ذلك ببشر أو كائنات غريبة من عالم الطير أو الحيوان، وهي تقوم من حيث مادتها الأدبية على فكرة الجمع ما بين الفكر والخيال والوجدان، والحادثة في الأسطورة تعتمد السرد، تماماً كما هي حال الرواية الحديثة، وهي في أحيان كثيرة ذات بعد ملحمي، وتتكئ على الفلسفة والأديان القديمة، والطبيعة وغيرها.
الدكتور وهب رومية، وهو يستعرض توظيف الأسطورة في نماذج من الشعر الجاهلي يفرق بين الأسطورة والخرافة، لاسيما أن التمييز بينهما هو أمر شاق وعسير، فيقول: هما بنيتان رمزيتان، والرمز ذاته قد يكون خرافة أو أسطورة، وقد يكون غيرهما أيضاً، والأسطورة بنية مفتوحة مجهولة المؤلف، وكذلك الخرافة أيضاً، فكلتاهما من إبداع الجماعة، وكلتاهما عُرضة للإضافة والتحوير أو للانزياح».
والأسطورة، حقل من حقول المعرفة يلفها الغموض والضباب والفتنة، ومن أنواعها الشائعة في استخدامات الشعر، أسطورة جلجامش من بلاد الرافدين، وهناك قاموس الأساطير اليونانية، ناهيك عما كان عند الفراعنة من تفسيرات عديدة لنهر النيل، وشروق الشمس والأرض والقمر والنجوم والمطر، وهي التي كانت تُعنى في المجمل بتفسير الحياة والكون، في رداء من الرمز والطقوسية، تبعاً لنوع الأسطورة سواء كانت رمزية أو طقوسية أو تعليلية أو غير ذلك.
النار والشمس وكثير من أشكال القرابين، والحيوانات والطيور، شكلت مواضيع خصبة للشعراء العرب، حيث ارتبط اسم بدر شاكر السياب، على سبيل المثال، بأسطورة عشتار والخصب، كما اهتم الشاعر خليل حاوي بالأسطورة، وتحدث عن أهمية الأسطورة الشعبية على وجه الخصوص، التي تستحيل إلى رمز وصورة كلية، تشيع في مفاصل القصيدة وأجزائها، بدوره كان الشاعر صلاح عبدالصبور، أحد الذين شغفوا في جزء من أشعاره بالأسطورة، وكان بحسب ما تكتب الناقدة فتيحة حسين، قد أكد على نقطة مهمة، يجب على الشاعر أن يدركها خلال تعامله مع الأسطورة، وهي الانطلاق من نظرته الخاصة، وفهمه المتفرد للمادة الأسطورية، لا أن ينطلق من نظرة الشعراء الآخرين السابقين له، وهو الذي يؤكد ضرورة توظيف الأسطورة توظيفاً فنياً وجمالياً، وهو الذي كان قد استفاد منه كثير من الشعراء الأوروبيين.
انتشرت الأسطورة في الشعر العربي منذ أواسط القرن الماضي، بعد ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لفصل من كتاب جيمس فريزر (الغصن الذهبي) في عام 1945، وبحكم الصداقة التي ربطت بين جبرا وبدر شاكر السياب، أطلع الأخير على فصول من كتاب «الغصن الذهبي»، وهو الذي دفع السياب للاقتناع بجمالية الأسطورة، فاستفاد السياب منها في كثير من قصائده، ومنها «حفار القبور» و«المومس العمياء» و«مطر».. وغيرها.
في الشعر العربي الحديث، ترد أسماء كثيرة ممن وظفت الأسطورة، وتشمل القائمة خليل حاوي، وعبدالوهاب البياتي، ويوسف الخال، ونازك الملائكة، وصلاح عبد الصبور.. إلخ.
كان الرمز الأسطوري في القصيدة الحديثة سمة مشتركة، تركت أثرها الفني والجمالي، فالشاعر محمود درويش، اعتنى بالرمز، وشكله على نحو أسلوبي، بوصفه واحداً من مكونات النص الأدبي، وهو الذي أكسب شعره كما غيره من الشعراء عمقاً فكرياً وجمالياً، يحسب في رصيد القصيدة الجديدة، بوصفها نسقاً إبداعياً وجنساً أدبياً لابد من إتقانه باعتماد أدوات مبتكرة ومتطورة.
وعودة إلى كتاب «الغصن الذهبي» فهو يفرد مساحة كبيرة لتطور المعتقدات الدينية، ومدى ارتباطها بالفكر البشري، ويقدم الكثير من الأمثلة على هذا، من مختلف القبائل والشعوب البدائية.
وكان تأثير هذا الكتاب، بحسب كثير من النقاد، واضحاً في الأدبين الإنجليزي والأمريكي على وجه الخصوص، كما يكتشف كل من يقرأ أعمال ت. س. إليوت وعزرا باوند، وإيدث ستويل، وجيمس جويس، كما تأثر به عدد من الفنانين الذين استمدوا أعمالهم من وحي الأساطير الكثيرة التي وردت في الكتاب، وما تنطوي عليه من غرائبية، تصلح للأدب والفن على حد سواء، حيث الطقوس والعوالم المدهشة التي تخترق الأزمان والحضارات وتسافر عبر الزمن ناهلة من كثير من العادات والتقاليد والأفكار والأقاصيص والحكايات.
ف «الأرض اليباب» ل ت.س. إليوت، من القصائد التي تزخر بالرموز التي تشي بنزعة شعرية ميثولوجية، وهذه الرموز استوحاها إليوت من كتاب جيسي، ل، وستن «حول الكأس المقدسة، من الشعائر إلى الرومانسية».
غير أن تعامل الشعر العربي الحديث مع الأسطورة، قد تفاوت بين كونه شعراً يوظف الأسطورة كما هي، وبين كونه يعمق من دلالاتها في الواقع الراهن، ويمنحها بعداً جمالياً وإنسانياً وفرصة للتحليق والإشراق، بعيداً عن الأسطرة بمعناها الغيبي أو الخرافي، وهو الذي أبدعت فيه نماذج كثيرة من الشعر الغربي، ممن استطاعوا أن يضفوا على اللغة عناصر وتركيبات وألفاظاً، تمنح البهجة والحب والجمال على النقيض من مرادفات الحرمان والبؤس والتعاسة، وهذا يلتقي مع سلوك مختلف كلياً في تعامل الشاعر مع الأسطورة، يبتعد بها ما أمكن عن الخرافة واللامعقول، كما هو عند أسماء كثيرة من الشعراء السيرياليين، مثل بول إيلوار، وأراغون وبريتون وكريفيل.
تسجل ذاكرة الشعر الغربي الحديث، الكثير من الأسماء التي أبدعت في استخدام الأسطورة ومن هؤلاء: ستيفنس، وإيدن، لاسيما في شعره الغنائي، والشاعر الأمريكي ديلان توماس الذي التفت إليه النقاد، باعتباره يكتب قصائد متميزة في مستواها البلاغي والعاطفي، ومن حيث كونه شاعراً ساحراً وأصيلاً، ذا قدرة على اكتشاف أعمق العواطف في تضادات الحب والموت والميلاد والحياة.
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *