هل ما زال السيد” أوليفر كرومويل ” لديكم.. ؟

خاص- ثقافات
*د . يسري عبد الغني عبد الله

” لقد كنت أعيش في الظلام وأحبه ، وكنت أكره الضوء ، لقد كنت زعيمًا … ولكن زعيمًا على الأشرار … إلى أن واتتني رحمة الله ، ادع معي أن يرعى الله كل من بدأ عملاً طيبًا ليتمه حتى يوم القيامة “  [ كرومويل]

يقول التاريخ الإنجليزي : ليس في تاريخ الملكية في انجلترا سوى ثغرة واحدة ، تلك الفترة التي توفى فيها الملك فطغت العواطف وبرز رجل أخضع الأمة لإرادته .. كان هذا الرجل هو أوليفر كرومويل .

        كان مولد أوليفر كرومويل لأحد صغار أصحاب الأراضي الزراعية في 25 إبريل 1599 م ، في بلدة هانتنجدون ، ثم تلقى تعليمه في مدرسة البلدة المجانية ، ثم في جامعة كامبريدج ، وفي عام 1628 م تم انتخابه عضوًا في البرلمان عن دائرة كامبريدج ، كما اشترك في البرلمان الذي أصدر عريضة الحقوق في عام 1629 م .

        كانت بوادر النزاع قد بدأت تلوح منذ عهد الملكة إليزابيث عندما قامت جماعة من أعضاء البرلمان الإنجليزي أطلق عليهم اسم البيوريتان (المظهرون) بمهاجمة حكومة الملكة ، فقد كان هجومهم على الحكومة من اتجاهين : الأول : عن طريق معارضة الكنيسة المعتمدة بهدف القضاء على الأساقفة ، وعلى الاحتفالات الباباوية ، والثاني : عن طريق تحديد سلطان الملكة وتوسيع سلطات البرلمان .

        وقد كانت الملكة إليزابيث تتسم بالحكمة والتسامح والتعقل ، فأمكنها السيطرة على الأمور مؤقتًا ، ولكن الأمور ساءت إلى أقصى حد في عهد خلفائها : جيمس الأول ، وشارل الأول .

        وكان أبرز ما حدث في عهد هذا الأخير هو ظهور أوليفر كرومويل على مسرح السياسة العامة الإنجليزية ، وكان ذلك حوالي عام 1638 م ، وقد كتب كرومويل عن ذلك يقول : ” لقد كنت أعيش في الظلام وأحبه ، وكنت أكره الضوء ، لقد كنت زعيمًا … ولكن زعيمًا على الأشرار … إلى أن واتتني رحمة الله ، ادع معي أن يرعى الله كل من بدأ عملاً طيبًا ليتمه حتى يوم القيامة “

        وباكتشاف هذه الرسالة التي وصفها بالإلهية في نفسه ، علاوة على ما تميز به كرومويل من كفاءة في التنظيم والإدارة ومهارة في القتال ، وجد الملك شارل الأول نفسه أمام زعيم ملهم .

        ولكن الملك زاد من اشتعال النفوس ، بأن حاول القبض على خمسة من زعماء مجلس العموم البريطاني ، ولم يكن كرومويل من بينهم ، ولكن هؤلاء الخمسة تمكنوا من الفرار ، وعند ذلك طالبه المجلس أن يتنازل عن سلطاته للجيش ، ولكن شارل رفض ، وأخذ يستعد للقتال ، وفي يوم 22 من أغسطس سنة 1642 م ، رفع علمه الملكي في نوتنجهام ، وسرعان ما وجد كرومويل نفسه في خضم المعارك فاشترك مع رجاله في معركة إدجهل سنة 1642 م .

        ومع أن قوات الملك كان يقودها رجل جرئ شجاع هو الأمير / روبرت ، إلا أن الرجال الذين كانت تتكون منهم قوات الثوار ، والذين وفد معظمهم من إنجليا الغربية ، وهم من الرجال الشديدي الإيمان بالدين ، في نفس الوقت الذين يتمسكون بولائهم لكرومويل ، كان لهم الأثر الحاسم في المعارك القادمة .

        وفي أوائل عام 1644 م ، اتفق الإنجليز مع الاسكتلنديين ، وتكونت من بين المملكتين لجنة أو تحالف لإدارة دفة الحرب الأهلية ، وكان يقود القوات الإنجليزية والاسكتلندية في حربها مع قوات الملك شارل ، القائد / إيرل مانشستر ، وكان كرومويل نائبًا له ، وفي الثاني من يوليو 1644 م ، تحركت القوات شمالاً ، وألحقت بالأمير / روبرت هزيمة ساحقة في منطقة مارستون مور ، وكان العامل الأساسي فيها هو مهارة كرومويل في المناورة بفرسانه .

        وعقب ذلك الانتصار اقترح أعضاء البرلمان الإنجليزي تنظيمًا جديدًا للجيش ، فعين اللورد / فيرفانكس ، قائدًا للجيش الجديد و كرومويل نائبًا له ، وفي 14 يوليو سنة 1645 م ، تمكن هذا الجيش من دحر قوات الملك في أهم معارك هذه الحرب الأهلية ، وهي معركة ناسبي ، ومرة ثانية كان الانتصار بفضل فرسان كرومويل ، وتوالت الهزائم بعد ذلك على الملك شارل الأول إلى أن اضطر لتسليم نفسه للاسكتلنديين الذين سلموا بدورهم إلى البرلمانيين .

د . يسري عبد الغني عبد الله

        بعد أسر الملك ، أخذت المنازعات تدب بين المنتصرين من الأحزاب البرلمانية والسبب بالطبع تقسيم الغنائم ، وفي نفس الوقت كان الاسكتلنديون قد أخذوا يشككون في رجال كرومويل ، فساعدوا الملك على الهرب من الأسر ، ونجح في ذلك خلال شهر نوفمبر سنة 1647 م ، فكان هذا بداية للحرب الأهلية الثانية التي تجلت فيها عبقرية كرومويل في القيادة ، فقد بادر بالزحف على ويلز ، ونجح في قمع الثورة التي قامت بها ، ثم تابع زحفه شمالاً ، وتمكن من هزيمة الاسكتلنديين والملكيين معًا هزيمة ساحقة في بريستون .

        وهنا أدرك كرومويل عن يقين أن الملك أصبح شيئًا ملعونًا ، ويجب التخلص منه ، وفعلاً تم القبض على الملك ، وبعد محاكمة تمكن خلالها كرومويل من الحصول على موافقة العدد اللازم من أعضاء البرلمان بالحكم بالإعدام على الملك ، وبالفعل تم إعدام الملك شارل الأول يوم 30 يناير سنة 1649 م .

        وفي نفس العام قاد كرومويل حملة تأديبية على أيرلندا وقمع ثورتها في قسوة ووحشية لم يسبق لهما مثيل ، حيث مثل بحاميات الملكيين في دروجدا ، و ويكسفورد .

        وفي ذلك الوقت ارتقى ابن شارل الأول العرش البريطاني ، واعترف به الاسكتلنديون ، كملك شرعي للبلاد ، فأخذ كرومويل يستعد للزحف على اسكتلندا ، ولكن اللورد / فيرفانكس الذي لم يوافق مطلقًا على إعدام الملك ، رفض القيام بهذه العملية ، وكانت النتيجة أنه تنحى كلية عن قيادة الجيش ، وتولى كرومويل القيادة العامة للجيش الإنجليزي ، وبالتالي أصبح أقوى رجل في البلاد ، وفي 3 سبتمبر 1650 م ، تمكن من تشتيت الاسكتلنديون عند منطقة دنبار ، وبعد ذلك بحوالي عام نصب لهم كرومويل فخًا استدرجهم به جنوبًا وانتصر عليهم انتصارًا حاسمًا في وورسستر في 3 سبتمبر 1651 م .

        وسرعان ما أصبح كرومويل اللورد الحامي لإنجلترا واسكتلندا وأيرلندا ، فشكل مجلسًا للوزراء يكون مسئولاً عن الشئون التنفيذية ، وكانت أهم مشكلات كرومويل هي حكم أمة أصبح أهلوها سريعي الفزع من الحكم العسكري ، وغدا أغلبهم يعارضون استقلال الجيش بالسلطة ، وقد كانت الحرب مع هولندا التي نشبت في عام 1652 م ، قد ألهته في مبدأ الأمر عن التفكير في المسائل التنفيذية أو السيطرة على حكم البلاد .

        يقول التاريخ : ولكن ما أن تمت ولايته على البلاد حتى عقد الصلح مع هولندا في إبريل سنة 1654 م ، وسرعان ما شعر بالحاجة إلى المال ، مثله في ذلك مثل الملك شارل الأول ، وللحصول على المال لابد من وجود برلمان يوافق له على مايريد ، ولكن البرلمان الذي استدعاه كرومويل في أكتوبر سنة 1654 م ، كان كل اهتمامه منصبًا على نقد سياسة كرومويل ، فما كان منه إلا أن ألغاه في يناير سنة 1655 م .

        وقام كرومويل بتجربة جديدة وغريبة في نفس الوقت هي تقسيم البلاد بين 11 من جنرالات الجيش ، بيد أن الحرب مع أسبانيا استدعت عقد البرلمان بتدبير المال اللازم ، وقد تمكن كرومويل من استبعاد مائة من الأعضاء المعارضين له قبل عقد البرلمان ، وكانت النتيجة أن البرلمان عند انعقاده عرض على كرومويل التاج الملكي ، وفي أوائل عام 1657 م ، أطاح بحكم الجنرالات ، وأخذ يفكر جديًا في قبول التاج البريطاني ، ولكن في شهر مايو ، وتحت ضغط زعماء الجيش الإنجليزي اضطر لغض النظر عن ذلك .

        وقام كرومويل بوضع دستور جديد كان من بين نصوصه السماح لكرومويل بتعيين خليفته واختيار أعضاء المجلس الثاني بدلاً من مجلس اللوردات السابق ، ومنحه لقب صاحب الرفعة ، وإذا لم يكن كرومويل قد نودي به ملكًا على البلاد والعباد ، فمما لاشك فيه أنه كان ملكًا غير متوج ، وظل كذلك إلى أن توفى عام 1658 م ، وقد بلغ من العمر 59 عامًا .

        وختامًا : أتوجه إليكم بالسؤال ـ هل مازال السيد / كرومويل بينكم حي يرزق ؟ .. مجرد سؤال .. !!

_________
*

باحث وخبير في التراث الثقافي

Yusri_52@yahoo.com

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *