في مدينة نائية على سفح جبل خلاب في سويسرا نصطاف أنا والعائلة بعد أن جمعتنا عطلة عيد الأضحى بفرصة لا تتحقق لنا كثيراً بسبب أوقاتنا المتضاربة. في الشقة الصغيرة عدت ربة بيت من الدرجة الأولى، أعد الطعام وأغسل الملابس وأجلس مع الأولاد في الصالة «المكنونة» دون أن يشغلني اتصال أو يؤرقني عمل ينتظر الإنجاز.
في هذا البيت الصغير على سفح الجبل الهائل في هذه المدينة النائية ذات الشارع الواحد والمتاجر المتجاورة الرائعة، عدت أنا أماً، فقط أماً، أدلل بكري وأحرص على تناوله طعامه. أغمر ابنتي بمحبتي واهتمامي، والأهم، أقص عليهم جميعاً القصص والحكايا. أملأ سمعهم بالحكم والروايات ذات المغزى. أحكي لهم متفلسفة، متمنطقة، مؤرخة، في الأدب والفن والفلسفة، من التاريخ ومن الحاضر. قصصت عليهم قصة ليو تولستوي «كم من الأرض يحــــتاج الانســـان؟» How Much Land Does a Man Need? والتي تحكي عن الطمع الذي أوصل صاحبه للموت ليخسر كل الأراضي التي تعارك ليربحها ويستقر أخيراً مدفوناً في ستة أقدام من الأرض هي كل ما يحتاج إليه الانسان فعلياً. حكيت لهم قصة كيت شوبان «قصة ساعة» The Story of an Hour ذات المغزى النسوي والتي تفلسف فرحة زوجة بخبر وفاة زوجها. ذكرت لهم مقاطع من ملحمة جلجامش، وتناقشنا في قصة الطوفان المذكورة فيها والتي تتشابه تماماً وقصة النبي نوح. ورويت لهم الجزء الأكثر حزناً من ملحمة الشاهنامة وأنا أؤدي تراجيدياً دور الأب المكلوم الذي قتل ابنه دون أن يعلم ببنوته. غابرييل غارسيا ماركيز، نجيب محفوظ، شكسبير، أوفيد، قصص اليوبانيشاد، قصصت وحكيت ورويت، فلسفت المعاني وألقيت الدروس والعبر. أحياناً أراهم يندمجون فأفرح وأسترسل، وأحايين أراهم وقد صبغ الملل وجوههم فأشتد في أدائي وأعلو بصوتي لأعيدهم إلى رواياتي، رواياتي التي كان من حظها أن تكون جبال سويسرا هي الخلفية المرئية لها، وأن تكون نسمات هذه الجبال اللطيفة هي البساط الجميل الذي يحملنا جميعاً الى عالم القصص السحري الحزين أحياناً، السعيد أحايين أخرى. ينبهر الأولاد، فأزداد اعتداداً بنفسي، وتقوى شوكة أمومتي، وأثق، وأنا المتشككة دائماً، أنني على طريق ما صحيح.
ثم نذهب في جولة صغيرة أنا وياسمينتي، آخر العنقود وأعذبه، حول المدينة الصغيرة. ياسمينة، عقلها تعدى عمرها بكثير، تقرأ لكتاب عالميين وتستمع للسيمفونيات وتحفظ أسماء المؤلفين. رقيقة هي ، بأعوامها الأربعة عشر، عطرة كما اسمها، مثقفة مدللة جادة، كل شيء هي، وكل يوم أكتشف فيها جديدا. دخلنا أنا وإياها متجرا صغيرا ملونا، تتناثر في جنباته الملابس والأحذية والحقائب المختلفة بلا ترتيب. استغربت أنا من تكوين المتجر، وبعد محاولات عسيرة للتفاهم مع البائعة، فهمت منها أنه متجر للأغراض المستعملة، ولذا هو على هذه الفوضى اللطيفة والتلون الكثيف. سحبت ابنتي من كمها، هيا حبيبتي، هذا متجر للملابس المستعملة، وما المشكلة ماما؟ ها هن السيدات يتسوقن هنا، هل نحن أفضل منهن؟ نظرت لياسمينة بعينيها الشاسعتين المبحلقتين، سوادهما ليل يتناغم مع شعرها المندمج في تجعداته، يداها تمسكان قميصاً أعجبها ووجهها ينتظر مني جواباً، يتواءم وكل الفلسفات والدروس والعبر التي كنت ألقيها بثقة وأريحية. نظرت للسيدات المتسوقات، لا أختلف عنهن ولا يختلفن عني، نظرت في حياتي، في حظي، في قدري، ليسقط قلبي في قدمي عندما اكتشفت نفاقي المتواري وطبقيتي الخفية.
ابتسمت معتذرة لياسمينتي عن زلتي، قلت لها إننا لا نختلف عن غيرنا، وقلت لها إن حظنا الرحيم لا يجب أن يجعلنا نقوم بأشياء غير رحيمة، وقلت لها إننا وكل البشر حلقة طويلة، نتبادل الأفكار والأشياء، فلا غضاضة، بل شكر عميق لمن استعمل هذه الملابس ليزودنا بها لاحقاً مخفضة السعر. قلت وقلت، والصغيرة تنظر لي بطرف سواد عينيها العميق، اصطادتني الجميلة في لحظة ضعفي، سجلت علي زلتي، وما عاد ينفع كل الكلام والاعتذار والتراجع. اشترينا ما اشتهينا من المحل، خرجنا فرحتين بغنيمتنا الجميلة المعقولة الثمن. حكينا عن مقدار التوفير الذي كان سيصبح لو أننا جميعاً كبشر تبادلنا الأشياء محبة ورحمة. مشيت بجانبها وأنا أغبطها أريحيتها وصفاء قلبها وطبيعية وتلقائية إيمانيتها. نتعلم من صغارنا كل يوم.