اعترافات روسو.. النفس البشرية عصية على الاكتشاف

*محمد وردي

قد تبدو شخصية المفكر الخالد، جان جاك روسو، إشكالية إلى أبعد الحدود، فهو بقدر ما يبدو متسقاً برؤاه الفكرية ومتناغماً بمعاييره النقدية، مع الحقيقة الإنسانية بأرقى تجلياتها، التي تجعل منه ملاكاً يدب على الأرض، إلا أنه في سلوكه الشخصي وحياته الخاصة، التي خبرها بنفسه، بوعي شديد، في ما سماه «اعترافات جان جاك روسو»، يظهر مفارقاً ومغايراً لكل منجزه الإبداعي، بحيث يبدو وكأنه شيطان رجيم، وحش كاسر، لا تنتمي روحه للإنسانية، ولا مكان في قلبه وعقله لمعنى الرأفة أو الرحمة. إذ إن منجزه الإبداعي، يجعل منه أحد أهم رواد الحداثة الإنسانية عموماً، ويكفيه خلوداً كتاب «العقد الاجتماعي»، الذي جعله مهندس المدنية الغربية الحديثة، الحقوقية والإنسانية بامتياز. ولا يختلف الأمر كثيراً في روائعه الأدبية والموسيقية، التي تعد إرثاً هائلاً وغنياً في تمجيد الحياة وصناعة الجمال والمسرة، غير أن القراءة المتأنية في اعترافاته، أرادها بوحاً خالصاً للخالق وحده، عارف السرائر وقارئ الضمائر، حسبما يقول في تقديمه، لقد صورت نفسي على حقيقتها: في ضعتها وزرايتها.. وفي صلاحها، وحصافة عقلها، وسموها.. تبعاً للحالة التي كنت فيها!.. لقد كشفت عن أعمق أغوار نفسي، كما كنت تراها، أيها الخالد السرمدي، فاجمع حولي الحشد الذي لا حصر له من أبناء جنسي، ودعهم يُصغون إلى اعترافاتي، فيرثون لخستي، ويخجلون لمثالبي، ثم ادع كلاً منهم إلى أن يكشف بدوره – وبعين الصراحة – أسرار فؤاده، عند قوائم عرشك، وليقل إنْ جرؤ: لقد كنت خيراً من ذلك الرجل».

هكذا إذن، وببساطة متناهية، فهو يتحدى البشرية قاطبة، إنْ كان هناك من يجرؤ على القول: إنه خير منه، دون أن يكلف نفسه عناء السؤال: كيف يمكن تبرير إيداع أطفاله الخمسة حال ميلادهم في ملجأ للأيتام واللقطاء، دون أن يراهم، بحجة أنه غير جاهز لتربية الأطفال؟!.

355

وتبلغ به القحة أنه لا يذكر جنسهم أو أسماءهم، أو عدد الذكور من الإناث، لأنه قرر مسبقاً ألا يعرفهم، وألا يشهد ميلادهم، كما أنه لم يصور لنا معاناة أمهم، عندما فرض عليها التخلي عنهم لحظة ولادتهم، مع أنه يسهب ويطنب في مجمل تفاصيل حياتهما الأخرى. دون أن ينسى قبولها له بعجره وبجره، فيصف مدى تعلقها به، الذي يصل إلى درجة، تجعلها تشفع له خيانتها، لا بل تبدي ذهولها واستنكارها، لسلوك صديقه (جريم) الذي وشى به، بشأن خيانتها، فيقول (ص252): «أبداً لم أشعر بطيبة قلب «تيريزي»، كما شعرت بها في هذه المناسبة، فقد أبدت من الذهول والاستنكار لتصرف جريم، أكثر مما أبدت من الاستياء لعدم وفائي، فلم أتجشم أكثر من أن تقبلت منها عتاباً رقيقاً، مؤثراً، لم ألمح خلاله أي أثر لسخط أو ضغينة!.. لقد كانت سذاجة عقل هذه الفتاة الرائعة، تعادل طيبة قلبه، وهذا جل ما يقال!».
وإنْ دلت سذاجتها، التي يكشف عنها، على شيء ما، فهي تدل على حبها المفرط له، حتى صار هذا الحب أقرب إلى العبودية، التي تجعلها تقف أمامه عاجزة، لا حيلة لها، حيال أي أمر يخص ذات نفسها، بما في ذلك فلذات كبدها، فكانت تتقبل قيام القابلة بأخذ أطفالها من حضنها حال ولادتهم، وإيداعهم في الميتم، دون أدنى ردة فعل.

ويزداد أمر سلوكه وتناقضاته غرابة واستهجاناً، عندما يذكر (ص102) واقعة تخليه عن صديقه لوميتر في بلاد غريبة، لحظة وقوعه مغشياً عليه بنوبة صرع، حيث يقول مؤنباً نفسه: «إن التصرف الخسيس لا يكربنا عند ارتكابه، وإنما يصبح مصدر هم لنا عندما نذكره بعد وقت طويل، لأن ذكراه لا تخمد قط»!.

يا للعجب العجاب، كيف لمثل هذه النقيصة أن تقض مضجعه كلما تذكرها؛ لأن ذكراها – كتصرف خسيس – لا تخمد قط، كما يقول، فينشد الراحة بعد البوح والاعتراف بها، بينما لا يشير لا من قريب أو بعيد إلى أي شكل من أشكال وخز الضمير، بشأن تخليه عن كومة لحم كما يقال، سوى أنه ليس قادراً أو ليس جاهزاً لتربية الأطفال؟. علماً أنه يعبر في غير موضع من الاعترافات عن مدى رضاه الكامل بخصوص نشأته، فيلاحظ أنها كانت حافلة بالحضانة الدافئة، والقراءات العميقة، والتعليم الخصوصي، ما عدا عامين اشتغل فيهما نقاشاً على المعادن، حيث يشكو من قسوة معلمه، ولكنه تجاوز هذه المرحلة بعد انتقاله إلى باريس في السادسة عشرة من عمره. وهناك لم يلق من المعاناة ما يبرر تحجر قلبه، لأنه كان يتخلى عن الوظائف بنفسه، وفي أحيان أخرى كان يرفض قبول الوظيفة براتب ثمانمئة فرنك فرنسي، وهو مبلغ كبير في ذلك الزمن. فيصف حياته وهو في مطالع العشرينات وأوائل الثلاثينات (ص119) قائلاً: «وكانت حياتي على قدر لا بأس به من الدعة، كانت حياة تكفي لأن يقنع بها أي رجل عاقل، ولكن قلبي القلق كان يصبو إلى شيء آخر».

rousseau_jean_jacques_3

إعادة واستزادة

وربما لا يختلف الأمر كثيراً في حياته العاطفية، فيعيد ويستزيد من تناقضاته وخسته قبل وبعد الارتباط بتيريزي، لأنه تمتع بحضانة نسائية على الدوام من الطبقة العليا، بفضل وسامته، كما يكشف عن ذلك في مواضع عدة من الكتاب، وبخاصة من قبل «مدام دي فاران»، التي عاش في كنفها وتمتع بنعيمها المادي والحسي نحو عشرين عاماً ونيف. وحرص أن يسميها «ماما» كيفما ورد ذكرها في الكتاب، حتى بعد أن صارت عشيقته، بالشراكة مع كلود آنيه، وكذلك بعد أن أهملته، حينما استبدلت آنيه عقب وفاته، بآخر، كل ميزاته أنه «كان مغروراً أخرق، جاهلاً، وقحاً، أما ما عدا هذا فقد كان من أحسن الشبان في العالم»!. فقرر روسو أن يبقى على الولاء والوفاء لعشقها وخدمتها، فلم تغفر تجاهله لها، كما يكشف عن ذلك (ص 197) فيقول: «ذلك أن الحرمان الذي فرضته على نفسي، الذي تظاهرت هي بالموافقة عليه، إنما هو أحد تلك الأمور التي لا تغفرها النساء قط». ويبرر سلوكها بإسهاب ينتهي بتصويرها على أنها ملاك، وأن الأخلاق المسيحية مغروسة بها بالفطرة. ويعزو تصرفاتها إلى سلوك عقلي، باعتباره خميرة فلسفة سفسطائية غرسها بوعيها مبكراً عشيقها الأول، أستاذها بالفلسفة «دي تافيل».
ولكن المؤكد تبقى قراءة الاعترافات تمثل متعة فائقة، لجزالة اللغة وسلاسة الأسلوب الفاره، ورهافة التعبير، ورقة العواطف الجياشة المطرزة بلمعات فكرية إنسانية أخاذة، وخصوصاً على مستوى قراءة سلوك النخبة في ذاك الزمان. وهذه اللغة الجميلة، والرؤى الخلاقة، فضلاً عن الجرأة النادرة، هو ما يجعل القارئ يغفر ويتفهم سقطات ونقائص روسو، على أنها أخطاء وهفوات، كما أراد تصويرها بحرفية ماهرة وبلاغة ماكرة.
____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *