بابلو نيرودا: الناس بحاجة إلى لغة من نوع آخر (1)

*حوار: ريتا جيبرت / ترجمة: أحمد شافعي

«لم أفكر قط في حياتي بوصفها مقسومة بين الشعر والسياسة» هكذا قال نيرودا في خطبة ألقاها في 30 سبتمبر 1969 معلنا قبوله ترشيح الحزب الشيوعي التشيلي لمنصب رئاسة الجمهورية. «أنا رجل من تشيلي عرف على مدار عقود شقاوات وجودنا الوطني ومصاعبه وشارك في كل ما مرَّ به شعبه من أتراح وأفراح. لست غريبا عليكم، إنما أنا منكم، جزء من الشعب. أنتمي إلى أسرة من الطبقة العاملة … لم أكن قط من أصحاب السلطة وطالما شعرت أن مهنتي وواجبي هما خدمة الشعب التشيلي بأفعالي وشعري. فعن هذا الشعب عشت أغني وأدافع».

وبسبب انقسام اليسار، انسحب نيرودا من الترشح بعد أربعة أشهر خاض فيها حملة شاقة مؤثرا دعم مرشح الوحدة الشعبية. وقد أجري هذا الحوار في بيته بـ إيزلا نيجرا في يناير سنة 1970 قبيل انسحابه.
وليست إيزلا نيجرا (الجزيرة السوداء) بالسوداء أو الجزيرة. إنما هي منتجع شاطئي أنيق على بعد أربعين كيلومتر إلى الجنوب من فالباريسو التي تقع على بعد ساعتين بالسيارة من سنتياجو. لا يعرف أحد لماذا سمِّيت بهذا الاسم، وإن كان نيرودا يتكهَّن بأنه إشارة إلى صخور سوداء غريبة تأخذ شكل جزيرة يراها من شرفة بيته. منذ ثلاثين عاما، وقبل أن تصبح إيزلا نيجرا مكانا مسايرا للعصر، اشترى نيرودا ـ من عائدات كتبه ـ ستة آلاف متر مربع على الشاطئ تحتوي بيتا حجريا صغيرا على قمة مرتفع منحدر. «ثم بدأ البيت ينمو، شأن الناس، شأن الأشجار».

لنيرودا بيوت أخرى، أحدها في سان كرستوبال هيل في سنتياجو، وآخر في فالباريسو. ومن أجل تزيين بيته نقّب في محلات التحف والخردة بحثا عن مختلف أنواع الأشياء. فلكل شيء عنده حكاية. يشير إلى تمثال نصفي للمغامر الإنجليزي مورجان في غرفة الطعام بإيزلا نيجرا ويسأل «ألا يشبه ستالين؟ تاجر التحف في باريس لم يكن موافقا على بيعه لي، ولكن حينما سمع أنني من تشيلي، سألني إذا كنت أعرف بابلو نيرودا. وبذلك أقنعته أن يبيعني إياه».

في إيزلا نيجرا يعيش نيرودا «البحّار البرّي» بصفة شبه دائمة هو وزوجته الثالثة ماتيلد (أو باتوجا حسبما يدلّلها، فهي ملهمته التي كتب من أجلها الكثير من القصائد الغرامية).

طويل، متين، زيتوني البشرة، قسماته واضحة، أنفه عظيم وعيناه البنّيتان واسعتان وجفناه ثقيلان. حركاته بطيئة لكنها راسخة. يتكلم واضح الكلمات، دونما افتعال. وحينما يخرج للمشي ـ وقد جرت عادته على أن يصطحب كلبيه ـ يرتدي عباءة طويلة ويمسك عكازه الريفي.

يستقبل في إيزلا نيجرا تيّارا لا ينقطع من الزوار، وحول مائدته دائما مكان شاغر لضيف يظهر في اللحظة الأخيرة. يقضي نيرودا أغلب أوقات فراغه في البار الذي تدخل إليه من ممر ضيق يمتد من الشرفة المواجهة للشاطئ. على أرضية الممر «مغسل فكتوري» [بيديه] وأرغن يدوي قديم. وعلى أرفف الشباك مجموعة من القوارير. البار مصمم على شكل صالون في سفينة، بأثاث مثبّت في الأرض ومصابيح ولوحات بحرية. وللغرفة جدران من زجاج تواجه البحر. وعلى السقف وعلى جميع العوارض الخشبية حفرت بخطّ يد نيرودا أسماء أصدقائه الموتى.

وراء المقهى، على رف المشروبات، لافتة تقول no se fia «الشُّكُك ممنوع». يلعب نيرودا دور عامل البار بمنتهى الجدية ويحب أن يعد مشروبات مضبوطة لضيوفه برغم أنه شخصيا لا يشرب غير الويسكي والنبيذ. على الجدار ملصقان معاديان لنيرودا، اشترى أحدهما من رحلته الأخيرة إلى كاركاس، وتظهر فيه صورة جانبية له مع عبارة «ارجع إلى بلدك يا نيرودا»، والثاني غلاف مجلة أرجنتينية عليها صورته وعبارة «نيرودا، لماذا لا يقتل نفسه؟». وهناك ملصق ضخم لـ [عارضة الأزياء الإنجليزية والممثلة] تويجي Twiggy ممتد من السقف إلى الأرض.

الوجبات في إيزلا نيجرا تشيلية دائما. ذكر نيرودا بعضها في شعره: حساء ثعابين البحر، والسمك مع صلصة الطماطم والجمبري الصغير، وفطيرة اللحم. والنبيذ دائما تشيلي. أحد أواني النبيذ الخزفية على شكل طائر يصدح حينما يصَبّ النبيذ. في الصيف، يقدَّم الغداء في الشرفة المواجهة للحديقة ذات السياج القديم الشبيه بأسوار السكك الحديدية. «شديد القوة، كنصال المحراث، يذكّر بالصفير والرعد والدمدمة، أحبه لأن فيه شبها من والت ويتمن».

أجريت أحاديثنا من أجل هذا الحوار في جلسات قصيرة. في الصباح ـ بعد تناول نيرودا إفطاره في غرفته ـ كنا نلتقي في المكتبة التي تحتل جناحا جديدا في المنزل. كنت أنتظر إلى أن يرد على بريده، أو يؤلف قصائد كتابه الجديد، أو يصحح بروفات طبعة تشيلية جديدة من «عشرين قصيدة حب». عند كتابته الشعر، يكتب بالحبر الأخضر في دفتر عادي. يستطيع أن يكتب قصيدة طويلة بعض الشيء في فترة قصيرة، وبعد ذلك لا يدخل غير تعديلات بسيطة. بعد ذلك يقوم سكرتيره وصديقه منذ أكثر من خمسين عاما هوميرو آرس بكتابتها على الآلة الكاتبة.

في العصر، بعد قيلولته اليومية، كنا نجلس على أريكة حجرية في الشرفة المواجهة للبحر فيتكلم نيرودا ممسكا ميكروفون المسجل الذي يلتقط صوت البحر خلفية لكلامه.

***
* لماذا غيَّرت اسمك، ولماذا اخترت «بابلو نيرودا»؟
نسيت. كان عمري ثلاثة عشر أو أربعة عشر فقط. أتذكر أن أبي ضاق كثيرا برغبتي في أن أكتب. كان يرى أن الكتابة في أفضل الحالات سوف تجلب الخراب على العائلة وعليّ وأنها بصفة خاصة سوف تفضي بحياتي إلى اللاجدوى التامة. كانت لديه أسباب أسرية لتفكيره ذلك، أسباب لم يكن لها أثر عليّ أنا. كان من أوائل الإجراءات الدفاعية التي تبنّيتها، أعني تغيير اسمي.

* هل اخترت نيرودا بسبب الشاعر التشيكي جان نيرودا؟

كنت قد قرأت له قصة قصيرة. لم أكن قرأت شعره قط، بل كتابه «قصص من مالا ستراما» عن بسطاء ذلك الحي في براج. ربما يكون اسمي الجديد قد جاء من عنده. وكما قلت، المسألة كلها شديدة القدم في الذاكرة وليس بوسعي أن أتذكرها. ومع ذلك، يعتبرني التشيك واحدا منهم، جزءا من بلدهم، وعلاقتي بهم في غاية الود.

* في حال انتخابك رئيسا لتشيلي، هل ستستمر في الكتابة؟
الكتابة بالنسبة لي كالتنفس. ليس بوسعي أن أعيش بدون تنفس وليس بوسعي أن أعيش بدون كتابة.

* من تذكر من الشعراء الذي طمحوا إلى مثل هذا المنصب السياسي الرفيع ونجحوا؟
نحن نعيش حقبة الشعراء الحاكمين: «ماو تسي تونج» و»هو تشي منه». ماو تسي تونج لديه سمات أخرى، فهو كما تعلم سباح عظيم، وأنا لست كذلك. هناك أيضا الشاعر العظيم ليوبولد سنجور رئيس السنغال، وآخر هو آيمي سيزار الشاعر السريالي وهو عمدة فورت دي فرانس في المارتينيك. في بلدي، طالما تدخل الشعراء في السياسة، برغم أنه لم يتول شاعر منصب رئيس الجمهورية لدينا. في المقابل، هناك كتاب تولوا منصب الرئاسة في أمريكا اللاتينية مثل روموليو جاليجوس الذي كان رئيسا لفنزويلا.

* كيف تدير حملتك الرئاسية؟
تقام منصَّة. هناك دائما في البداية المغنّون الشعبيون، ثم يتولى شخص مسؤول شرح النطاق السياسي لحملتنا بدقة. بعد ذلك تأتي الورقة التي أدوّنها لأخاطب أبناء المدينة وتنطوي على قدر كبير من الحرية، وقليل جدا من الإعداد، وهي أقرب إلى الشعرية. وغالبا ما أختتم بإلقاء قصيدة. وإذا لم أُلقِ بعض الشعر، ينفضُّ الناس محبطين. هم طبعا يريدون أن يسمعوا آرائي السياسية، ولكنني لا أفرط في العمل على الجوانب السياسية أو الاقتصادية لأن الناس أيضا بحاجة إلى لغة من نوع آخر.

* كيف تكون ردود فعل الناس حينما تلقي قصائدك؟
إنهم يحبونني بكل طريقة عاطفية ممكنة. لا أستطيع أن أدخل بعض الأماكن أو أخرج منها. عندي حاشية من نوع ما تحميني من الزحام لأن الناس يلتفون من حولي ضاغطين عليّ. هذا يحدث في كل مكان.

* لو خيّرت بين رئاسة تشيلي وجائزة نوبل التي سبق ترشيحك لها مرارا، فأيهما تختار؟
لا يمكن أن يكون هناك مجال للاختيار بين وهمين.

* لكن إذا وضعت الرئاسة وجائزة نوبل هنا على المنضدة؟
إذا وضعتا أمامي على المائدة، سأقوم لأجلس إلى أخرى.

* هل تعتقد أن منح جائزة نوبل لصمويل بيكيت كان عادلا؟
نعم، أعتقد بهذا. بيكيت يكتب أشياء قصيرة لكنها منتقاة بعناية. وجائزة نوبل أينما تذهب تكون تكريما للأدب. لست من أولئك الذين ينازعون دائما في ما إذا كانت الجائزة قد ذهبت إلى الشخص الصحيح أم لا. المهم في هذه الجائزة ـ إن كانت لها أي أهمية ـ هو أنها تضع لقبا محترما على مكتب الكاتب. هنا تكمن أهميتها.

* ما أقوى ذكرياتك؟
لا أعرف. لعل أقوى الذكريات هي ذكريات حياتي في أسبانيا، وسط تلك الأخوية العظيمة من الشعراء، لم أعرف مثل هذا الحب الأخوي في العالم الأمريكي الحافل بالألاكرانيوس alacraneos (النمائم) مثلما يقولون في بيونس أيرس. وكم كان مريعا أن أرى جمهورية الأصدقاء تلك تدمّرها الحرب الأهلية التي أظهرت واقع القمع الفاشي الرهيب. تبعثر أصدقائي، فمنهم من قضي عليه هناك مثل جارسيا لوركا وميجل إيرناندث، ومات آخرون في المنفى، ولا يزال آخرون يعيشون فيه. تلك مرحلة كاملة كانت غنية بالأحداث، والعواطف العميقة، كانت حاسمة في تغيير مسار حياتي.

* هل يسمحون لك الآن بدخول أسبانيا؟
لست ممنوعا رسميا من دخولها. وقد دعتني مرة السفارة التشيلية هناك إلى بعض القراءات الشعرية. محتمل جدا أن يسمحوا لي بالدخول. ولكنني لا أريد أن أركز على هذه المسألة، فلعل من الملائم ببساطة للحكومة الأسبانية أن تبدي بعض المشاعر الديمقراطية من خلال السماح بدخول بعض من حاربوها بمنتهى القوة. لا أعرف. لقد منعت من دخول دول كثيرة، وطردت من دول كثيرة جدا حتى لم يعد الأمر يتسبب لي في الضيق مثلما كان يحدث قديما.

* بطريقة ما، قصيدتك التي كتبتها لجارسيا لوركا قبل وفاته كانت نبوءة بنهايته المأساوية.
نعم، قصيدة غريبة. غريبة لأنه كان شخصا سعيدا للغاية، كائنا شديد الابتهاج. لم أعرف كثيرين مثله. كان تجسيدا لـ … يعني، لن نقول للنجاح، ولكن لحب الحياة. كان يستمتع بكل دقيقة من وجوده، كان مسرفا في السعادة. ولذلك فجريمة اغتياله من أفدح جرائم الفاشية التي لا يمكن غفرانها.

* كثيرا ما تذكره في قصائدك، هو وميجل إيرناندث
هرنانديز كان مثل ابن لي. في الشعر كان أقرب إلى أحد حواريّ، وكان تقريبا يعيش في بيتي. ألقي به في السجن ومات فيه لرفضه الاعتراف بالرواية الرسمية لوفاة لوركا. لو كان تفسيرهم صحيحا، فلماذا أبقت الحكومة الفاشية على ميجل إيرناندث في السجن حتى وفاته؟ لماذا رفضوا حتى نقله إلى مستشفى، مثلما اقترحت السفارة التشيلية؟ وفاة ميجل إيرناندث كانت اغتيالا هي الأخرى.

* ما أكثر ما تتذكره من سنواتك في الهند؟
إقامتي هناك كانت صدفة لم أكن مهيأ لها. طغى عليّ بهاء تلك القارة غير المألوفة، ومع ذلك تمكّن مني اليأس إذ طالت حياتي وعزلتي هناك أكثر مما ينبغي. كان يبدو لي أحيانا أنني حبيس فيلم ملون لا ينتهي، حبيس فيلم رائع، ولكنه فيلم ليس مسموحا لي بمغادرته. لم أذق قط تلك الروحانية التي كانت تقود خطى كثير جدا من أبناء أمريكا الجنوبية وغيرهم من الأجانب في الهند. الذين يذهبون إلى الهند بحثا عن حلول دينية لقلقهم يرون الأشياء بطريقة مختلفة. أما أنا فقد تأثرت تأثرا عميقا بالظروف الاجتماعية، تلك الأمة الهائلة عديمة السلاح والقوة تحت نير الإمبريالية. حتى الثقافة الإنجليزية التي أوثرها إيثارا عظيما بدت لي كريهة لكونها أداة القمع الفكري لكل أولئك الهندوس في ذلك الوقت. اختلطت بالشباب الثوار في القارة على الرغم من منصبي القنصلي، كان لا بد أن أعرف الثوار، أولئك المشاركين في الحركة العظيمة التي حققت الاستقلال في نهاية المطاف.

* هل كان في الهند أن كتبت «إقامة على [كوكب] الأرض؟
نعم، ولو أن الهند لم تترك أثرا ثقافيا يذكر على شعري.

* ومن رانجون كتبت هذه الرسائل المؤثرة إلى الأرجنتين، هكتور إينادي؟
نعم. هذه الرسائل كانت مهمة في حياتي، لأنه أخذ على عاتقه، وكان كاتبا لا أعرفه على المستوى الشخصي، أن يكون السامري الصالح ويبعث لي الأخبار، ويبعث لي الدوريات، ليساعدني في عزلتي الكبيرة. كان الخوف قد انتباني من فقدان الصلة مع لغتي بعدما مرت سنوات دون أن أقابل من أتكلم معه بالأسبانية. في إحدى الرسائل إلى رفائيل ألبرتي كان عليّ أن أطلب منه قاموسا أسبانيا. كنت قد عيِّنت قنصلا، ولكنه كان منصبا صغيرا بلا راتب. كنت أعيش فقرا مدقعا وعزلة كبيرة. وكانت الأسابيع تمر دون أن أرى إنسانا.

* وأثناء وجودك هناك كانت لك قصة غرامية عظيمة مع جوسي بليس التي تذكرها في قصائد كثيرة.
نعم، جوسي بليس كانت صاحبة بصمة عميقة على شعري. وأنا أتذكرها دائما حتى في أسوأ كتبي.

* أعمالك في ذلك الوقت مرتبطة كثيرا بحياتك الشخصية؟
طبيعي. حياة الشاعر لا بد أن تنعكس في شعره. هذا قانون الفن وقانون الحياة.

* يمكن تقسيم أعمالك إلى مراحل، أليس كذلك؟
أفكاري مشوشة بعض الشيء في هذا الصدد. أنا شخصيا ليست لديّ مراحل، لكن النقاد يكتشفونها. ولو أن لي أن أقول شيئا فهو أن لشعري سمت الكائن، فهو طفولي في صغري، صبياني في شبابي، تعيس في معاناتي، كفاحيّ حين صار لزاما عليّ أن أخوض النضال الاجتماعي. وفي شعري الحالي مزيج من تلك النزعات. كنت أكتب دائما منطلقا من ضرورة داخلية، وأتخيل أن هذا ما يحدث مع جميع الكتّاب، لا سيما الشعراء.

* رأيتك تكتب في السيارة.
أكتب حيثما أستطيع ووقتما أستطيع، لكنني أكتب دائما.

* هل تكتب دائما بالقلم؟
منذ انكسر إصبعي في حادثة ولم يعد بوسعي لشهور قليلة أن أستعمل الآلة الكاتبة، فواصلت عادة أيام شبابي وعدت إلى الكتابة باليد. واكتشفت بعدما تحسّن إصبعي وعدت قادرا على استعمال الآلة الكاتبة مرة أخرى أن شعري عند الكتابة بيدي يكون أكثر حساسية، وأن تكويناته التشكيلية تتغير بصورة أيسر. يقول [الكاتب الإنجليزي] روبرت جريفز في حوار إن المرء لكي يفكر ينبغي أن يكون حوله أقل قدر ممكن من الأشياء غير المصنوعة يدويا. وكان بوسعه أن يضيف أن الشعر ينبغي أن يكتب باليد. كانت الآلة الكاتبة قد فصلتني عن الحميمية الأعمق مع الشعر، ويدي قرّبتني من تلك الحميمية مرة أخرى.

* في أي الساعات تعمل؟
ليس لديّ جدول، ولكنني أفضّل العمل في ساعات الصباح. بمعنى أنه إذا لم تكوني أنت هنا الآن تضيّعين وقتي (ووقتك)، لكنت أكتب. لا أقرأ كثيرا أثناء النهار. أفضل الكتابة طول النهار، لكن غالبا ما يتركني الامتلاء بفكرة أو تعبير أو شيء يأتي صاخبا من نفسي ـ أو دعنا نطلق على ذلك مصطلحا مهجورا هو «الإلهام» ـ غالبا ما يتركني ذلك شبعان أو منهكا أو هادئا أو خاويا. وهكذا لا أستطيع المواصلة. بعيدا عن ذلك، فإن حبي الجم للحياة يمنعني من التقيد طول النهار بكرسي ومنضدة. أحب أن أضع نفسي مع تيار الحياة، في بيتي، وفي السياسة، وفي الطبيعة. وهكذا فإنني دائما في رواح وغدو. لكنني أكتب بكثافة كلما أمكنني ذلك وأينما أمكنني. ولا أضيق بأن يكون حولي الكثير من الناس.

* تنقطع تماما عما يحيط بك؟
تماما، وإذا هدأ كل شيء فجأة، فهذا يتسبب في انزعاجي.

* لم تول قط كثيرا من الاعتبار للنثر.
النثر …شعرت طول حياتي بضرورة كتابة النثر. التعبير بالنثر لا يثير اهتمامي. أستعمل النثر للتعبير عن نوع معين من الإحساس أو الحدث المنفلت، فأنزع فعليا إلى السرد. الحقيقة أنني قد أتوقف عن كتابة النثر تماما. فأنا لا أكتبه إلا مؤقتا.

* لو استطعت أن تنقذ أعمالك من النار فأيها تختار؟
ربما لا أنقذ أيا منها. ففيم سأحتاج إليها؟ أوثر أن أنقذ فتاة … أو مجموعة قصص بوليسية جيدة … فتمتعني أكثر كثيرا من أعمالي.

* من أكثر نقادك فهما لأعمالك؟
أوه! نقادي! نقادي غالبا ما يوشكون على تمزيقي إربا، بكل ما في العالم من محبة أو كراهية! فليس بوسع أحد في الحياة أو الفن أن يرضي الجميع، وهذا وضع مستمر معنا. أتلقى دائما القبلات والصفعات، والتربيتات والركلات، وهذه هي حياة الشاعر. ما يضايقني هو التشويه في تأويل شعر المرء أو أحداث حياته. فمثلا خلال مؤتمر نادي القلم الدولي في نيويورك الذي جمع الكثيرين للغاية من مختلف الأماكن، ألقيت قصائدي الاجتماعية، ومزيدا منها في كاليفورنيا، قصائد مهداة إلى كوبا في دعم الثورة الكوبية. ومع ذلك وقَّع الكتّاب الكوبيون رسالة ووزعوا منها ملايين النسخ يشككون فيها في آرائي، ويقولون إنني مخلوق يحميه الأمريكيون الشماليون، بل لقد قالوا إن مجرد السماح لي بدخول الولايات المتحدة كان بمثابة جائزة! وهذا غباء محض، إن لم يكن تشويها، لأن كثيرا من كتّاب الدول الاشتراكية حضروا المؤتمر، بل لقد كان حضور كتّاب من كوبا متوقّعا. فنحن لم نفقد شخصيتنا كمناهضين للإمبريالية بذهابنا إلى نيويورك. ومع ذلك، قيل ذلك، إما عن تسرّع، أو عن إيمان فاسد من الكتّاب الكوبيين. حقيقة كوني في هذه اللحظة مرشحَ حزبي لمنصب رئيس الجمهورية تبيّن أن لي تاريخا ثوريا حقيقيا. سيكون من الصعب أن تجد بين أيٍّ من الكتّاب الذين وقعوا تلك الرسالة من يضاهي في تفانيه في العمل الثوري، ومن قدَّم ولو جزءا من مائة مما قدمته وناضلت من أجله.

* ثمة انتقادات لك بسبب نمط حياتك، ووضعك الاقتصادي.
بصفة عامة، هذه كلها أسطورة. فنحن ورثنا ـ بمعنى من المعاني ـ تركة سيئة من أسبانيا التي لا تستطيع أن تحتمل بروز أحد أهلها أو تميزه في شيء. لقد قيّدوا كرستوفر كولمبوس لدى عودته إلى أسبانيا. انتقل هذا إلينا من حسد البرجوازيين الصغار الذين يدورون في كل مكان يفكرون في ما لدى الآخرين وليس لديهم. في حالتي أنا، أنا كرست حياتي لتحسين حياة الناس وما لديّ في بيتي ـ وفي كتبي ـ هو نتاج عملي. لم أستغل أحدا. هذا غريب. التوبيخ الذي يوجَّه لي لا يوجَّه للكتّاب الأثرياء بالميلاد! بل يوجَّه لي أنا، أنا الكاتب الذي وراءه خمسون عاما من العمل. يقولون دائما «انظر. انظر كيف يعيش، على البحر، يشرب النبيذ الجيد». وهذا هراء. فمن الصعب ابتداءً أن تشرب نبيذا رديئا في تشيلي لأن النبيذ كله تقريبا جيد. هذه المشكلة تعكس ـ بطريقة معينة ـ تخلف بلدنا، أو باختصار، صغارنا. أنت نفسك قلت لي إن نورمن ميلر حصل على حوالي تسعين ألف دولار في مقابل ثلاث مقالات لمجلة في أمريكا الشمالية. هنا، لو حصل كاتب أمريكي لاتيني على مثل هذه المكافأة عن عمله، فسوف يثير الأمر موجة احتجاج من غيره من الكتّاب ـ «يا للسفه! يا للبشاعة! متى يتوقف هذا؟ بدلا من الفرح بقدرة كاتب على المطالبة بهذا الأجر. عموما، ومثلما قلت، هذه شقاوات نعيشها باسم ثقافة التخلف.

* ألا ترجع درجة حدة هذه التهمة إلى انتمائك للحزب الشيوعي؟
بالضبط. وقيل مرارا إن من لا يملك شيئا، لا يكون لديه ما يخسره إلا قيوده. أنا أخاطر كلَّ لحظة، بحياتي، بشخصي، بكل ما لديّ ـ كتبي وبيتي. تعرَّض بيتي للحرق، وأنا تعرضت للاضطهاد، واعتقلت أكثر من مرة ونفيت، ووضعت في الحبس الانفرادي، طوردت من آلاف رجال الشرطة. جيد جدا إذن. أنا لست مرتاحا بما لدي. فما لدي أجعله رهن نضال الشعب، وهذا البيت الذي أنت فيه الآن يخص الحزب الشيوعي منذ عشرين سنة، فقد وهبته له بصك مكتوب. وأعيش في هذا البيت فقط بكرم من حزبي. حسن جدا، دع هؤلاء الذين يوبخونني يفعلون ذلك وأن يسلموا الراية [الأحذية في الأصل] لمن يتبعونهم!

* تبرعت بمكتبات كثيرة. ألست الآن منخرطا في مشروع مستعمرة الكتّاب في إيلزا نيجرا؟
تبرعت بأكثر من مكتبة لجامعة بلدي. أعيش من ريع كتبي. ليست لدي مدخرات. ليس لدي إلا ما أتلقاه كلّ شهر من ريع كتبي. وبهذا الريع اشتريت أخيرا قطعة أرض على الساحل ليستطيع الكتّاب في المستقبل أن يقضوا الصيف فيها ويبدعوا في جو من الجمال الاستثنائي. ستكون مؤسسة كنتالو وسيكون مدراؤها من الجامعة الكاثوليكية، وجامعة تشيلي، وجمعية الكتّاب.

يتبع
_________
*ترجم الحوار إلى الإنجليزية بقلم رونالد كريست، ونشر الحوار في عدد ربيع 1971 من مجلة ذي باريس رفيو/ جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *