أبوظبي- لا يعرف الفنان الاماراتي حسن شريف الذي غيبه الموت الأحد 18 سبتمبر الجاري، كأبرز الفنانين التشكيليين في الإمارات فحسب، بل هو من أبرز الفنانين في العالمين العربي والغربي، حيث حقق مكانة مهمة في الفن من خلال توجهه إلى المفاهيمية المطلقة. يعد الفنان التشكيلي المولود عام 1951، من الجيل الأول الذي أسس للحركة التشكيلية الحديثة في الإمارات.
الهجرة والعودة
كانت بدايات شريف في الرسم الكاركاتيري، فقدم أول رسوماته في صحف ومجلات مختلفة، إذ كانت أعماله تعكس الأجواء السياسية في الشرق الأوسط فترة السبعينات، وبالأخص التوسع العمراني السريع الذي شهدته دولة الإمارات العربية المتحدة منذ تأسيسها، لكن مع سفره في عام 1973 إلى بريطانيا، طمح حسن شريف إلى تجديد رؤيته الفنية وفكره الفني من محيط جديد، فكانت هجرته إلى بريطانيا للدراسة، خطوة حاسمة غيرت من وجهته الفنية بشكل جذري ليكون في ما بعد الفنان الطليعي المبدع وأحد أهم رموز الفن التشكيلي العربي ومن أوائل الفنانين الإماراتيين والعرب، الذين أسسوا للفن المفاهيمي.
التحق شريف بكلية بايام شو للفنون (جزء من سنترال سانت مارتينز) في عام 1980، وهناك تأثر بأعمال الفنان تام جيلز، رئيس قسم الفن التجريدي والتجريبي في الكلية آن ذاك. وأدى ذلك الاهتمام إلى تبلور الفكر الإبداعي لشريف واهتمامه بالحركة المفاهيمية الفنية التي رأى فيها التعبير الأقرب للتعبير عن دواخله.
بعد تخرجه عام 1984، بدأ حسن شريف مسيرته التشكيلية بثوبها الجديد بعد عودته من لندن، وتميزت باستخدامه المواد المهملة والتي كان يلتقطها ويعيد الحياة إليها عبر العمل عليها فنيا، فنجد الكثير من الوسائط تدخل عمله، كالأسلاك، والبلاستيك والأوراق والحبال، فهي كلها مواد محتملة الحضور وممكنة الاستخدام عنده. ولم يتوقف عند ذلك فقد أسهم في بث روح جديدة في أجواء الفن التشكيلي بين الأجيال الجديدة في الإمارات، وقام بتأسيس مرسم الفن في مسرح الشباب في دبي، كملتقى فني وفكري للفنانين والمفكرين في الفن الحديث، كما ساهم أيضا في تأسيس جمعية الإمارات للفنون الجميلة، ومجموعة «الخمسة» للفن المفاهيمي والتي شملت كلا من محمد كاظم، ومحمد أحمد إبراهيم، وعبدالله السعدي، وحسين شريف.
متأصل وما بعد حداثي
ويُعتبر شريف فنانا متأصلا يرتبط بعمق بالتاريخ الحديث والثقافة في دولة الإمارات، كما يعد شخصية رئيسية في الوسط الفني الإماراتي وقد طوّر بنية قوية من الأعمال الفنية التي يتبنى فيها التجريب، في صلة قوية بالمنهج المادي في تجسيد الفن، حيث يخلق الفنان تشكيلة متنوعة من القطع الفنية من مواد مختلفة، لكن الأهمية لا تكمن من حيث اشتغاله بمواد مهملة ومختلفة بل في انتقائه للمواد وتعبيراتها وما يمكن استخلاصه منها من رمزية، كما تحدد خيارات الفنان ظروف الإنتاج التي يعيش ويعمل فيها؛ ظروف ما بعد الحداثة والتقدم في المجتمع العالمي. وتعكس مواده أيضا الجوانب المختلفة لهذا العصر مثل التصنيع الضخم وغيره من القضايا الكبرى، فهو لا يبحث عن الجمال بقدر ما يهدف إلى تقديم بحث واقعي ومتماسك للأشياء وتقديمها بأسلوب جديد وعميق.
يتميز شريف بأسلوبه عند صناعة أعماله الفنية، حيث تعد تلك الخطوات عملية دقيقة ومضنية وغالبا ما ترتبط بإشارات وحركات متكررة تظهر في غزْل وطيّ ولف وربط مجموعة متنوعة من المواد. لذا نجد أن أعمال شريف تعبّر عن أفعاله وصناعته المقصودة ووعيه بالظروف التي يعمل في ظلها. ورغم أنه لم يتم عرض أعماله كثيرا على نطاق عام في الإمارات، لكنه غالبا ما يمثل الإمارات في الخارج. ويشعر المرء بهذه المفارقة وغيرها من خلال أعماله.
وفي تجربته الفنية الفريدة من نوعها أصر حسن شريف على الاعتماد على منظومة من الوسائط غير التقليدية لتقديم أفكاره الجمالية والسياسية في أعماله التركيبية، التي تقوم على تكرار المفردة المستخدمة في العمل، وهذا ربما ما جعل تجربة الفنان من أكثر التجارب الإشكالية في الفن الإماراتي والعربي، حيث تعد أعماله المشتغلة بعناية حمالة أوجه وأفكار مختلفة لا تكتفي بعرض جماليتها بل تتطلع إلى ما هو أعمق فكريا ومفاهيميا وحتى جماليا في ذاتها، إذ يراه النقاد منتج أفكار خلاقة.
كما أسهم حسن شريف بشكل كبير في المشهد الفني الإماراتي، حيث يعد معلما لأجيال من الفنانين، نتيجة لإبداعه المغاير للسائد، ورؤيته المختلفة للفن وفلسفته الحداثية، وكان من المساهمين في تأسيس عدة مؤسسات فنية كنا ذكرنا منها سابقا، كما قدم الفنان أعماله في معارض في أنحاء مختلفة من العالم، منها: كوبا وهولندا ومصر وألمانيا.
الجدل الذي تثيره أعمال شريف غالبا ما يصب حول مفاهيم الفن الجديد أو فنون ما بعد الحداثة، ذلك الجدل الذي تحول مع الوقت إلى سياقات طبيعية في الفن الإماراتي والسبب الأساسي يعود إلى صدق الشريف في الدفاع عن أفكاره المغايرة، وقد استطاع عبر إيمانه بذلك أن يشق طريقا صعبا لنشر مثل هذا الفن (التركيب) في وسط المشهد التشكيلي الإماراتي، وباتت للفنان قاعدة واسعة ممن اتخذوا فكره منهجا فنيا رائدا في أعماله المفاهيمية.
وحول ريادته لهذا الفن قال حسن شريف “لا أحب أن أوصف بأنني الأول، أنا فنان وأعمالي تُعبِّر عن تفاعلي مع المجتمع ومع الحياة اليومية، فتعكس طريقة سير الناس ورؤيتهم للأشياء وشغفهم بالحياة ورُدود أفعالهم، أنا مُشاهد، أعمالي آنية وتُعنى بالحاضر. أُصنِّف نفسي فنانا ‘واقعيا‘، ولهذا السبب أُعجب وأستمتع بأعمال فنانين أمثال جوستاف كوربي.. وأحتفي بجميع أشكال الفنون، فهي كلها مهمة وذات صلة بالواقع، وما يهمُّني وأحرص بشكل خاص عليه هو توضيح السياق التاريخي للفن المعاصر، فهو فنِّي الذاتي وتعبير عن رؤيتي وفهمي الشخصي للأمور. وبموازاة ذلك، هناك السياق التاريخي للقرن الـ20، فأنا أرى أنني أنتمي إلى القرنين العشرين والحادي والعشرين معا”.
إن السؤال الفني الذي يقدمه شريف سؤال ينضوي على أسئلة فنان صادق وظّف ما تعلّمه ليخدم قضايا بيئته ووطنه. عاش حسن شريف ليرسم عالمه مستنبطا أعماله الفنية من بيئته ومحيطه وواقعه الذي يعيشه بكل تفاصيله. بغيابه اليوم تفقد الساحة الثقافية الإماراتية والعربية مؤسسا ورائدا في الفن المعاصر. وكما يطلق عليه الجميع لقب الأب الروحي الذي خلّف أعمالا تجريبية فريدة حلقت خارج إطار العادي والمألوف إلى فضاء الإبداع الرحب. وننوه أنه إضافة إلى أعماله الفنية الخالدة قدم حسن شريف مجموعة من الكتب حول الفن الحديث ومفهوم الفن والفلسفة.
ردم الفجوة
الشاعر والتشكيلي الإماراتي محمد المزروعي الذي ارتبط بصداقة عميقة مع الفنان الراحل وشاركه العديد من أفكاره وتطلعاته الفنية، اعتبر أن رحيل حسن شريف إنما يطوي صفحة استثنائية من صفحات التجريب في الفن التشكيلي، ليس في الإمارات ومنطقة الخليج وحسب، وإنما على مستوى العالم العربي. فتجربته التشكيلية التي عرفت بابتكاراتها ومفاجآتها، لا سيما في مراحلها المتأخرة، تميزت بالجرأة في كسر المنظور التقليدي في الفن والانتقال باللوحة من صيغتها المتحفية إلى صيغ جديدة مبتكرة تجعل المشاهد طرفا مباشرا في العمل وتجعل من المحيط الذي يتحرك فيه الفنان فضاء فنيا يكمل اللوحة، فضلا عن أنها تتيح للتصورات والأفكار غير الفنية أن تصبح جزءا من العمل الفني بما في ذلك التصورات الفلسفية والرؤى الشعرية. وهو ما جعل البعض يرى أن تجربة حسن شريف الذي صار له تلامذة في الإمارات إنما هي تدخل في ما يسمى الفن المفاهيمي. من جهتي لا أجد نفسي مضطرا لأن أؤطر تجربة حسن شريف الفنية في إطار نظري، ربما يفعل النقاد بطريقة أفضل مني.
ومن جهته يرى الناقد مفيد نجم في غياب حسن شريف حدثا محزنا يقول “أنا أنظر إليه بوصفه فنانا بصريا شاملا، يستعمل في أعماله الفنية ومعارضه موادا مختلفة في صيغ فنية غير مألوفة تتبع تصورات الفنانين ما بعد الحداثيين في أوروبا الذين كسروا إطار اللوحة واعتبروا أن الفن التشكيلي عليه أن يوسع من أمكنته ومواده وأفقه وهو ما ظل الفنان حريصا على القيام به انطلاقا من وعي فني مغاير للسائد وخارج عليه، ليصبح عملا مركبا يمكن لكل شخص يملك موهبة أن يقوم به وأن يعمل على تصويره وتخليده بواسطة الكاميرا ثم إعادته إلى أصله في الأشياء”.
كما يرى نجم أن أعمال شريف الفنية تمتص أيضا شغفه بالشعر فقد كان عاشقا مولعا بأشعار الصوفيين كعمر الخيام وجلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي، منتمياً بحواسه الكونية إلى صوفيتهم الخالصة، وهو ما كان يلبي أيضا أصوله الإيرانية، ولعله ظل حتى آخر أيام حياته ذلك الفنان الشغوف باللغة الفارسية.
وبدوره يقول الفنان التشكيلي السوداني المقيم في الإمارات ناصر البخيت “نعرف من تجربة الفنان شريف أنه عندما رجع من لندن ومعه ذلك الهوس بكل ما هو جديد مبتكر مما يمكن أن يعتبر فنا يردم الفجوة بين اليد التي ابتكرته والعين التي تراه. وقد رافقه هذا الهوس حتى آخر يوم في حياته، هو الذي عشق مدينته دبي وارتبط بها فكان قلما يغادرها، بعيدا عن رحلته اليومية بين بيته قرب البحر ومحترفه الفني”.
ويرى بخيت أن تجربة الفنان الراحل الذي طالما اعتبر الفن فضاء مفتوحا على مواد وصيغ وإمكانات غير متوقعة، إنما اقتبست الكثير من أفكاره من المدارس الفنية الحديثة، ومن التجارب التي تعرف عليها والتقى بأصحابها خلال فترة وجوده في بريطانيا إبان السبعينات، وكانت لندن في ذلك العقد مختبراً للفنون الجديدة التي هبت على مدارسها المحافظة في الفن قادمة من أميركا وألمانيا وفرنسا خصوصا، في تزامن حار مع ما عرف بالثورة الطلابية الفرنسية أواخر الستينات والشعر الأميركي الجديد، مع جيل ألبت، والفن التشكيلي النيويوركي وتجربة آندي وورهول، وآخرين فضلا عن فنون الشارع وفنون الهامش التي عرفتها المدن الكبرى في أوروبا والغرب، متفاعلة كلها مع الحركات المجتمعية الجديدة، وأحيانا ناجمة عنها.
وقال الناقد فاروق يوسف عن الفنان الراحل “إن أهميته تكمن في أنه بدأ الفن من جهة تماهيه مع بداية نهوض دولة الإمارات، من جهة محاولة الاثنين الارتباط بعصر ما بعد الحداثة، من دون الالتفات إلى منجزات الحداثة. وهو ما صنع من الفنان رائدا لفن، لم يتعرف عليه العرب إلا بطريقة حيية، وقف في طريقها تاريخ الحداثة الفنية. بدأ شريف من نهايات الفن الأوروبي، ولم يحتج إلى أن يتسلق سلم الحداثة ليكون مكرسا”.
________
*العرب