نص تستغرقه حمولة الموروث الديني



أحمد الشيخاوي*


خاص ( ثقافات )

جماليات نص تستغرقه حمولة الموروث الديني..

ابن عباس، 51 تفاحة على الشجرة
للشاعر الليبي عاشور الطويبي

هو كذلك هذا الطراز النادر جًدا من الشعراء حَدّ تأميم أبراج الحكاية المعسولة إذ تدبّ في لبّها هموم العامة وتكتسح نسغها انشغالات أغلبية ساحقة تستبد بها هواجس صناعة قرارات لا تخطئ بعض الحظ في خطوها إلى مصير لا يراد لها بقدر ما تختاره هي بدافع ما تكتنز من قناعات ومبادئ راسخة ومتجذّرة وعصية على أي ابتذال أو مساومة.


وتسامياً على كلمة ضيقة تعافها النفوس أو تنافق وتجامل داخل حدود حيز نخبوي يهبّ ضداً لما قد تشتهي تطلعات الجماهير.

هو كذلك الشاعر الليبي المتمرس عاشور الطويبي الذي يأنف في مجمل منجزه ويأبى إلا أن يجذب ذهنية التلقي ويستقطبها إلى فراديس ما هو عذري محض ما بين البياض وحيثيات البوح. 

وكأنما يتعمّد بشكل أو بآخر توريطنا في ما هو قائم الصلة والماهية بعوالم ما تسكت عنه الذات الشاعرة، منمّقة لنا ومُبهرجة طياتها وفحوى ما تحجب ظلال ما لم تقله مكتفية بما يشير ويدل عليه فقط.

في موسوعته النموذجية التي بين أيدينا، ألفي الرجل لا يتكلّف توجيهنا إلى البعض من شيفرات ولوج نطاق جمالي يأسر الذائقة ويصدم بمغامرة مقاربة مستويات طيفية لتجربة شعرية تعيش نخوة ونشوة قران فني، بينها، في انكفائها على احتمالات خبء الحقول الدلالية لشجرة شاعرنا المحرمة ــ مجازياً ــ وبين الحضور الصاعق والمكثف للرمز الديني.

1
فتى في الثالثة عشرة من عمره:
حين يشتدّ به الأمرُ يحرّكُ شفتيه.

فتى لم يبلغ الحلم بعد:
جرّ بطرف لسانه أمّةً إلى آخر الأرض والسماء.

فتى في الثالثة عشرة من عمره:
يروي ما رأى وما سمع.

فتى في الثالثة عشرة من عمره:
خياله أجود من الريح المرسلة.

2
فتىً إصبعه نارٌ، ولسانه كتابٌ.
فتىً لا يعرف من أمور النساء شيئاً
وقال: النار أولى بهن.

3
فتىً قال:
نهيتم بكسر جراركم.
نهيتم ألاّ تخلطوا ماءً بتمرٍ أو زبيب.

4
عرفتُ أنها النخلة، لكني استحييت.
إيّاك من شجر يسقط ورقه.
إيّاك من لسانٍ مربوط.
إيّاك من قلبٍ لا يرى.
إيّاك من وقتٍ لا يتقلّب.

في سياق معاناة حشوها عولمة الخطاب وعالمية التشكيل والرؤية، يُجري صاحبنا على ألسنة زخماً هاماً من التراث الديني في شخص حبر الأمة وعالمها الأول ابن عباس، بغرض تحقيق إسقاطات تستهدف راهن الفوضى والعبثية المتلاعب بجيل يتحين فرص النجاة وملامح الخلاص وبالكاد يتهجّى أسباب انتشال ما لم تلطّخه بعد دماء الهزيمة.


تقنية كلامية تتفشى بمنأى عن المعيارية التحريضية المدمرة، كما تزين رحاب طقوس العودة إلى الذات قصد التصالح معها على نحو لا يخلو من استثارة الهمم وضخّ الحماسة في عروق راح يتيبّس كبرياؤها وتنقشع جذوة انتصافها للهوية والجذر الإنساني إجمالاً.

أنّى لا تنتشي الذاكرة، بل وتركن إلى غيبوبة رافعة، في حضرة فتى مختلف تماماً، في سن له مبكّرة جداً، باشرت بوادر نبوغه وحكمته الفياضة بالانبلاج. أنّى لا يحدث فوق وأرقى وأسمى مما هو من قبيل ذلك؟

فتى يقود الخيال إلى حيث تستنبت الأنامل واللسان شجرة العظمة المحرمة على النساء تحديداً، ليس إقصاءً، بقدر ما المسألة أشبه بجناية محيلة على زلّة أمنا حواء كأصل وبذرة لامتهان الظاهرة برمتها.

تذيل المشهد نبرة متهكمة محذرة من أربع، شجر يرضى العري ولسان لا ينشد الحرية ويترنم بقيمتها وقلب أعمى وأخيراً وقت مقيم يسوم الكرامة حمئة وزقوم الثبات والموت على ذل وهوان الحال.

هذه فرجةٌ،
لا تصلح لخيطِ ضريرٍ!
بابها من طين
ترابها رطبٌ بماء الغُسل.

6
ما زالت الشهقات معلّقة على سعف النخل.

7
ما دلّه عليه إلا أثر حوت في البحر.
ما الذي سيدلُّ عليّ؟!!
أمّي لم تضع في صرتها حجراً ولا ثريداً.

8
قال الفتى: لا أدري إن كنتُ قد مددتُ ردائي
ولا أدري إن غرف بيديه مرّة أو مرّتين!
أنا أدرى به وبما غرف قال الخليفة.

9
شيخٌ يصلي في كلّ وقتٍ وأنا على يساره أو يمينه.

10
الصلاة أمامَكَ. ثم نزل فبال.
11
كنتُ أترك الماءَ في الخلاء.

12
لا يدري أحدكم أين باتت يده.

13
لا تسلّم على من إزار عليه.
14
سيصعد الصراخُ كِسرة الجريد ويرتخي العذابُ في تراب القبر.

15
ما حاجتك إلى حائطٍ أو جدار؟!

رأيته بين رجلين تخطّ رجلاه الأرض.

16
الإزاراتُ مرفوعةٌ فلا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً.

17
كنتُ أخرجُ معه إذا خرج، وأبقى معه إذا بقي.
أنام على يمينه أو على شماله.
وأفرح حين يضع يده على رأسي.

18
ويسجدون إذا سجد.

19
أهل كتاب وأهل وثن.
ادخل من بابهم.
اخرج من بابهم.
أهل كتاب وأهل وثن
يغنّون أغنية واحدة.

20
العطاء يبدأ من خمس.
الوقت يبدأ من خمس.

21
لك أن تأتي راكباً على بقرتك أو ناقتك
أو أن تطأك بأخفافها،
حولك أناسٌ جفّ ضرعهم وخرست منهم الألسنة.
لا تأت مولاك ببقرةٍ لها خوار.

22
كنتُ أمسح عنّي الرحضاء وأقابل عين الشمس.
آكلة الخضراء أنا!

23
لا خيار لك يا عبدُ
ولاؤك لمن ملكك وولاؤك لمن أعتقك.

24
هذا عنبرٌ قد دسره البحر
عنبرٌ بلّله الماء يرقد الآن على الشطّ!

25
مبارك أنت يا وادي
شققت طريقك ليسيل ماؤك.
على ضفتيك وقفت سكينة ترنو لنخل في آخر البستان.
ضحكت حين تذكرت أنها تتأوه من متعة وتصهل.

26
لا سقاية اليوم.
يجعلون أيديهم في الماء.
مِلْ كي نقضي حاجتنا.

27
كم بيدك من حصى الوادي يا فتى؟!
ارمها واحدة واحدة
امسح من على قلبك العتمة.
28
أيّ بأسٍ على ميتٍ من غطاء رأسه.
قيل يبعثُ يُهِلُّ.

29
طأطأ الثوب بيده
ثم قال لفتاه: صبّ الماء على رأسي ولا تراع!

30
عليك أن تغطيّ حالك على كلّ حال.


يتوالى تفاح شاعرنا في التدلي والبروز متقلباً بين غواية وأخرى أشهى وأطيب قطفاً وطعماً واستحواذاً على العاطفة والفكر كليهما. ولما يشوك الإيقاع طوارئ التقطع والتبرقع، وتنجر لحمة النص إلى لعبة استئساد التشظي والصيغة الشذرية، يقتضب إقحام الحالة الإنسانية في ارتباطاتها بالرمز الديني، بغية لملمة المشهد واحتواء البياض وترك الكلمة لما قد تنبض به ما ورائيات اللون. 

منظومة حكم تسربلها شاعرية من يستنطق خبايا النفس مخجلا كنه السؤال. منظومة حكم تتوافد فتمتزج وتتداخل مشكلة خلطة فسيفسائية أحوى وأستر لحال الفرجة وفرجة الحال.


31
كنتُ أحلم بأعوادٍ أجلس عليها أعلّم الناس.

32
بكت النخلة، فضمّها إليه حتى سكنت.

33
قال الفتى: الكتاب كلّه على ياء.

34
قال الفتى: كاتبكم قد نعس.

35
في شيخوختي لم تعد عيناي تعرفان الوقت.
أُرسلُ رجلاً يخبرني
مجيء الفجر وغروب الشمس.
هي حصاتي أدفع بها إلى البحر
يأخذ من أنينها ما يأخذ
وأنام على وسادة فارغة من الحكايا.

36
لقد أذكرني ما اسقطتُّ من آيات.

37
ماذا نفعل إذن؟!
أهل كتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم.

38
كانوا يحرّقون أقواماً لأنهم لم يتبعوهم.
لو كنتُ أنا لقتلتهم بشيء ليس فيه من النار شيء.

39
قال لي صاحبي: وضعت سيفي في بطنه ثم تحاملت عليه حتى قرع العظم وأتيتُ سلّماً لهم.
هكذا قتل رجلاً لم يعرفه.

40
كان يوم خميس حين أوصى بثلاث.
ذكرت اثنتين ونسيت الثالثة.
كان يوم خميس حين أوصى بثلاث!

41
ابن صيّاد، قالوا هو وليس هو.
ابن صيّاد أنا، وصافٍ قميصه.
ليت أمّه لم توقظه!
يأتيني صادق وكاذب.
لم أبلغ الحلم، وهم يقسمون أني هو
كنتُ سأختار معك أيّ شجرة تصلح لنعلّق عليها نفسينا.
غير أنّك مضيت إلى أبعد من حمّى عابرة أو قيظ قيلولة ساخنة.

42
لا رجوع بعد سجود.

43
الصلاة رداء الخائف.

44
حيٌّ أنت إن جاءتك الريح من مشرق الأرض
وميت أنت إن جاءتك الريح من مغرب.

45
الخائف ذلك النهار أكثر من الواقفين خارج البيت!
كانت صغيرة كرّمانة حين غطست الشمس في المدى الكئيب.
كانت أقدامهم الخشنة تحفر في الأرض حُفراً رآها الذين مرّوا وبطونهم خاوية.
كان صليل السيوف يسمع من بعيد وهي ما زالت في أغمادها.
كانت الأرض تدور على ألف قلب وكان البحر خيط دخان في البيداء المقفرة.

46
الآن حلّوا أوكية القرب لقد حان العهد.

47
لقد اختلط ريقه بريقي
وسقط السواك المبتلّ حين سقطت اليد

48
حدّثني من فيه إلى فيّ

49
كنتُ أعلم أنّ وراء كلّ حائط رجل يوحى إليه.
“هكذا لا ينقطع اللحن ولا تتعب الراقصات”. قال وعيناه نصف مغمضتين.

50
الحجارة لم تنقطع عن الصلاة.
هل ترى ذلك الوادي؟
كان شريداً، أواه ذلك الجبل!
51
هل ترى ذلك الكثيب؟
كان حبّة رمل حين وُضع الكرسيّ على الماء!
هل ترى ذلك الفتى؟
كان رديف حبيبته ذات ليلة كالحة!
هل ترى ذلك النسيم؟
كان بحّة مجروحة في فم الأغنية!
هل ترى ذلك الطائر؟
كان وشماً بارزاً في نهد الأرض!
هل ترى يدي هذه؟
كانت تفاحةً في تلك الشجرة!

أذهب أبعد مما تقدّم وأزعم أن هيكلة القصيدة اعتماداً على المشتقّ من صحيح مسلم، منحها قيمة مضافة وجنّبها دهاليز التيه والتخبط في دهاليز استسهال الشعر المنثور، وبالتالي التدحرج إلى قفص ما يشوّه الذائقة ويفسدها.
وتأتي الوحدة الأخيرة كعصارة ــ تقريباً ــ لما أغرت به تابوهات النص، المتلقي كطرف تشاركي تفاعلي تمتد به العملية الإبداعية حدّ تبني أسلوب جمالي مغاير لا يفتقر البتة إلى المغزى المعرفي الأجدر بخلخلة السائد وقلب موازينه والتأثير إيجاباً في عقلية ومناحي حياة كل من تحاصره اللحظة الرمادية بإكراهاتها ومفارقاتها وتناقضاتها.
شاعر وناقد مغربي

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *