*محمد حجيري
يقال إن الرسام الاسباني سالفادور دالي كان مجنون”الشهرة والمال، حتى انهما كانا يأخذان كل تفكيره. إلى أن ظهرت غالا التي أحبها وتعلق بشخصيتها، وقال: أحب غالا أكثر من أبي، أكثر من بيكاسو، حتى أكثر من المال”… و”غالا وحدها استطاعت أن تستمع الى عالمي واستطاعت أن تشفيني من قلقي ومن أحزاني. كما انها وحدها تغلّبت على ضياعي الذي تجسّد من قبلها في أسفار مبهمة في ربوع الكلاسيكية فجعلتني أفهم ما أريده من الكلاسيكية ومن هذياني معاً… من السادسة من عمري أردت أن أكون طباخاً، في السابعة أردت أن أكون نابليون، ولكن شيئاً فشيئاً فهمت أنني أريد أن أكون دالي…”. فمن هي هذه المرأة التي استطاعت أن تقلب حياة الرسام العالمي، “العبقري الفضيحة” كما سُميّ، رأساً على عقب؟
في ربيع 1929 جاءت مجموعة من البوهيميين إلى بيت دالي، بينهم الشاعر الفرنسي بول إيلوار بصحبة زوجته، غالا، واسمها الحقيقي يلينا دايكونوف، وهي ابنة محامٍ روسي. وكان كل ما يقال عنها أنها “مضطربة”، وعولجت في مصحّ، ثم استقرت في باريس تحت اسم جديد هو غالا، وكانت ذات شخصية عنيدة وغامضة، إلى أن أصبحت زوجة ايلوار الذي أهداها جل قصائده، ويعترف لها بأنه ما كان ليكتب ما كتب لولاها: “أنتِ التي أمليتِ عليّ كل قصائدي.” قال لها في احدى رسائله.
وحين رأها دالي في السهرة، توقف لسانه في الأوقات الأولى عن الحركة… يقول دالي: “كل شيء ابتدأ من الباب، في أحد الأيام دخلت الغرفة وكان الباب مفتوحاً ورأيتها: تفجر الحب في داخلي، ومنذ تلك اللحظة قررت أن تكون لي”. حلق شعره، ولوّن جسمه بالأزرق والأحمر، ووضع حلق أخته آنا ماريا ـ التي كانت، إلى جانب غالا والنادرات من الموديلات اللواتي رسمهن، الوحيدة التي أدخلها إلى مرسمه، كما ووضع قرنفلة حمراء وراء أذنه، ووقف أمامها، ففوجئت مستغربة، معجبة بعينيه، خائفة من منظر الجنون الذي احتواه، وهو يضحك بصورة هستيرية بلا توقف. من هنا بدأت أشهر قصة حب بين دالي وغالا التي كانت الخط الفاصل بين عبقريته وجنونه.
الغرام الهذياني بين عبقري الرسم والمرأة الروسية الآسرة، لم يعجب والد دالي الذي هدده بالطرد من البيت إن هي بقيت معه، وأجبرها على العودة إلى باريس، وبقي دالي وحيداً غارقاً في دموعه وأحزانه، يقول: “النساء عطاء رائع قادر على تحويل الرجل إلى معتوه، وأنا لا أفكر بأي شيء سيء حينما أقول ذلك، أنا أحب المعتوهين خصوصاً عندما يكونون في حالة الهذيان لأنهم وقتها أشبه بالملائكة، وهكذا بفضل النساء، فإن رجالاً مثل دانتي يصبحون معتوهين، ويكونون في وضع يؤهلهم ليكتبوا الكوميديا الإلهية”. ذهب دالي إلى باريس وتزوجها، هدية الزواج، قطعة مجوهرات كبيرة، بجعة منحوتة من الحجر الروسي الكساندريت، وفيه بيضة كبيرة الحجم من الزمرد حينما تقلبها تصبح فيلاً، وبعد شهر عسل في اسبانيا استقرا في بورليكاتو عند كوستابرافا، وعاشا في بيت متواضع لصياد سمك، ليدرك دالي لاحقاً أن غالا ليست حبيبة فحسب، بل هي موضوع لعشق عارم من شأنه أن يعالجه من مرض سيكولوجي مزمن… وهذا الحب سيظهر في لوحاته… إلى درجة أنه كان يوقع على بعض لوحاته باسمه واسم غالا معاً. وفي تلك السنة الحاسمة في حياة دالي، أي 1929، اعتمد دالي على غالا في إنقاذه من نوبات “الشلل الضاحك” الذي كان ينتابه من آن إلى آخر، والذي كاد يمنعه من إنجاز أعماله السريالية العظيمة، وقال: “علّمتني حقائق الكثير من الأشياء.. وعرفت منها أيضاً كيف أرتدي ملابسي بشكل لائق.. إنها الملاك المتوازن للاتساق والانسجام.. وهي التي أعلنت كلاسيكيتي”.
سيرسم لوحة “ملاءمة الرغبات”، حيث ستتمثل تلك الرغبات في رؤوس لأسود رهيبة، وكأنها رغبات متفجرة تصبح، من خلال حب غالا، مقبولة في إطارها العلاجي: “اختفت عوارض الهستيريا في نفسي، الواحد تلو الآخر، وصرت قادراً على كبح جماح ضحكتي”… ويرسم لوحة بورتريه لغالا حاملة لحماً مشويّاً على كتفيها… هذه اللّوحة تجمع بين المرأة والأكل والبُعد الديني الإبراهيمي… هذه اللّوحة تعني كما أوّلها صاحبها: أنّ دالي كان يرغب في أن يأكل غالا حبيبته… وبدلاً من أكل غالا، رسم لحماً مشويّاً معلّقاً على كتفيها… لقد قرّر أن يأكل لحم الخروف بدلاً من لحم المرأة غالا… إنّ هذا الرّسم يذكّر، بحسب تأويله هو نفسه، بواقعة إبراهيم الذي استبدل ذبح ابنه بذبح خروف…
لقد قدّم دالي هذا التّأويل الذّاتي لبورتريه غالا في سياق مثير لنا اليوم، كما تقول الباحثة أمّ الزّين بن شيخة، في مقال بعنوان “الفن الذاكرة في لوحات سالفادور”: هو سياق إحالته على علاقة مخصوصة بالعرب، ويقول في ذلك الصّيف (أي صيف 1933 ): “كنت أرغب في أكل كلّ شيء… لكنّي كنت أيضاً على عطش شديد… لقد شعرت فجأة بسلالتي الشّمال افريقيّة، إنّ عطش العرب هذا هو الذي جعلهم يتهافتون على إسبانيا ويخترعون الظلال وفوّارات الماء… متعطّش أنا إذن مثل العرب، ولقد كنت أيضاً مقاتلاً مثلهم”…
غالا، بحسب العارفين بسيرة دالي، كانت الوجه الآخر لوالدته التي توفيت العام 1921، وكان عمره 16 سنة. وقد علّق على موتها في ما بعد بأنه “الصدمة الأعظم” التي تعرض لها في حياته وأنه كان يعبدها. ووجد المحللون أن ارتباطه بغالا وحبه لها، قد يكون تعويضاً عن فقدانه أمه.. وأنها تمثل له الزوجة-الأم بشكل واضح. وتحولت غالا مع الوقت إلى مديرة علاقاته العامة والمسؤولة عن تسويق “منتجات دالي”، وتقود سيارته، وهي موديل لوحاته. وبدوره فقد كان دالي يتعلّم كيفية استغلال فضائحه واستفزازاته في مشاريع تجارية مربحة. المهم أن غالا التي تكبر دالي بأحد عشر عاماً، ظفرت باهتمامه، وكان خيالها يتألق في كل رسومه، كما هو متألق في حياته اليومية. وقد ذكر تأثير غالا فيه، بقوله: “لقد أغلقت بذراعيها باب جنوني”. كما كانت ببساطة المهتمة بكل أعماله ومقابلاته، وبتوقيع تلك العقود الغالية مع تجار اللوحات وجامعيها، تقرأ له الكتب وتلخص له ما يجب، وأصبح كل معرض من معارضه رمزاً وتجديداً للزوجة المعشوقة، والتصقت به عبارة: دالي الكبير هو غالا. وقد كان يردد دائماً: “أرغب في شيئين: أن أحب غالا وألا أموت نهائياً”. وعندما ماتت غالا في حزيران1982 بعد حياة زوجية دامت 47 عاماً، وقف سالفادور دالي وسط المقبرة ليقول بلهجة الذئب المحطم: “حصل ما كنت أخشاه لقد متّ قبلها إذاً”…
بمَوت غالا، مات دالي. هذه هي المعادلة التي راهن عليها أولئك الذين يعرفون قبلة النار “الطويلة بين هذا الرجل وتلك المرأة”. كان يقول: “أنا وغالا نملك معاً خمس حواس فقط، أصابعها هي أصابعي، وكلامها هو كلامي، أما الحاسة السادسة التي لا تجمعنا إلى أي كائن آخر من الكائنات البشرية فهي.. الحب”. عاش دالي حزيناً مكسوراً دامع العين مع ذكرياته، وهو يلبس عباءة وثياباً بيضاء تعبيراً عن حزنه الأبدي على غالا. وبعدما استعاد هدوءه وتآلف مع فكرة الغياب، أخذ يبحث عن النصف الآخر، فرسمها للمرة الأولى وهي غير موجودة. من هنا ارتدت لوحاته، بعد موت غالا، شكلاً جديداً، ولا أحد يدري لماذا راح يرسمها محاطة أو مسكونة بقرون الكركدن (وحيد القرن)، كما لو أنه كان يخاف عليها من الموت، فكان يستعمل القرون كطلاسم لحمايتها من النهاية. وفي أحيان أخرى أخذت غالا شكل العذراء التي تحمل الطفل، ولم يكن هذا الطفل إلا دالي نفسه.
ساحرة الفنانين
وأبعد من قصة غالا مع دالي، فرغم أنها لم تكن فائقة الجمال، لكنها سحرت العديد من الفنانين والشعراء السورياليين، لدرجة أن نجاح أعمالهم الفنية وقصائدهم الشعرية، كانت تعزى إلى إلهامها لهم. وقد وصفها “بابا السريالية”، اندريه بروتون، في اهداء كتابه المشترك مع ايلوار “الحبل بلا دنس”، بأنها “المرأة الخالدة”، وهجس بها الشاعر كريفيل قبل موته. واهدى اليها رينيه شار بعض قصائده. وقبلهم جميعاً، كان ايلوار الزوج والعشيق، وبدأت قصة العشق هذه عندما تعرف شاب اسمه بول اوجين غريندل، والذي عُرف في ما بعد ببول إيلوار، الى فتاة روسية هي “غالا”…
أين كان مكان اللقاء بالضبط؟ المعلومات متضاربة. فهناك من يقول في مستشفى للامراض الصدرية في مدينة كلافاديل في فرنسا 1912، أو في مصحّ في سويسرا. ليس هذا المهم، لكنهما قطعاً تعارفا في مستشفى، وكانا يتلقيان العلاج من مرض السل الرئوي. وتقول إحدى الروايات إنهما كانا في عمر واحد آنذاك: في السابعة عشرة تقريباً.
وبعدما شفيا، عادت غالا الى روسيا، والتحق ايلوار بالجيش مع بداية الحرب العالمية الأولى. وقبل نهاية الحرب، التقيا مرة أخرى، وأقامت هي في بيت أهله، وتزوجا بعد نهاية الحرب في 1917 وأنجبا في العام التالي ابنتهما الوحيدة سيسيل. أيضاً عاش ماكس إرنست مع إيلوار وغالا. إيلوار أحب الرسم مع الشعر، وشارك إرنست في تركيب الكولاج. عاشوا بطريقة يعبّر عنها المصطلح الفرنسي (menage a trois)، الذي يعني رفقة ثلاثية. وبدأت علاقة سرية خفيفة بين إرنست وغالا. في العام 1924 حدث ما حدث بين إرنست وغالا، وبسببها ضرب ماكس إرنست، صديقه ايلوار، على عينه، فأدماه…
كان إيلوار مخلصاً لغالا، يعشقها. هذا هو الظاهر في الرسائل المتبادلة بينهما والتي ترجَم أجزاء منها، المسرحي الراحل عصام محفوظ في كتابه “بول إيلوار: قصائد حب يليها رسائل إلى غالا” – نراه يترجاها ويكتب لها: “يا صغيرتي غالا أحبك بلا حد. لا أؤمن بالحياة، لا لا أؤمن إلا بك. هذا العالم الذي هو عالمي والممزوج بالموت، لا أستطيع أن أدخله إلا برفقتك. أن للا أكون إلا بين يديك، بين عينيك، بين نهديك، بين ساقيك، أنا مدعو حيث لا أرتوي أبداً”. أرسل لها من ميونيخ ومن أولشتادت، من ستراسبورغ يقول: “أنا لا أنساك لحظة واحدة”. ومرة كتب لها: “أنتِ الينبوع العجائبي لخيالي وحريتي، إنني أعبدك”. لكن غالا كانت امرأة مراوغة، كانت تحب إيلوار وتعشقه، لكن خيالاتها أكبر، واستمر حبهما حتى قطعه الموت، وقد يبدو غريباً في هذه الاسطورة أن نرى غالا (حين كانت تتهيأ للاقتران بآخر هو سالفادور دالي) تسأل إيلوار: لماذا خف حبه لها وقلّ اهتمامه بها؟ فأجاب إيلوار (الذي كان يتهيأ للزواج بأخرى هي نوش) بأنها ستبقي الوحيدة في حياته وإلى الابد. كانت تناديه بـ”يا زوجي مدى الدهر”، قبل الزواج، وخلاله، وبعد الطلاق.
إنها اسطورة حب لم يكن في الإمكان اكتشاف تفاصيلها بعد رسائل غالا الى إيلوار، إلا باكتشاف رسائل إيلوار الى غالا بعد وفاتها العام 1982، وكانت قد خبأتها ثلاثين عاماً، أي منذ وفاة الشاعر العام 1952 عند ابنتهما سيسيل…
هي 272 رسالة أرسلها إيلوار، في مقابل 15 رسالة من غالا، وهي كل ما تبقى من رسائلها إليه، بعدما أحرق معظم الرسائل اثناء الحرب. في إحدى رسائلها تقول غالا إنها امرأة فريدة بين النساء، وكذلك ايلوار، فهو فريد بين الرجال، وكانت تقول أيضاً إنهما من طينة واحدة.. في الرسالة 105، يكتب لها:
أيتها المرأة التي عشت معها
المرأة التي سأعيش معها
أيتها المرأة نفسها
يلزمك معطف أحمر
وكلسات سوداء
وإثباتات
لرؤيتك عارية
العري النقي يا لزينة المظهر.
في الرسالة 111:
قوة عينيك تحميني من الانهيار.
يا صغيرتي الحلوة العزيزة غالا.
غالا المراوغة التي لا يهدأ خيالها الجامح، تعبت من تقلبات إيلوار وجنونه السوريالي، وانتهت علاقتها به بعد سنوات عديدة من الحب. وراحت تبحث في أعماقها عن علاقة جديدة، ووقعت على شخص آخر لا يقل جنوناً وعبقرية عن إيلوار، إن لم يزد أضعافاً مضاعفة، هو الرسام دالي. ويقول المحيطون بدالي إنه، لولا غالا، لرأينا دالي يتجول في الشوارع بحثاً عن قوت يومه، ويرسم لوحات لا يراها أحد، لكن غالا وظّفت جنونه بالشكل الذي استخلصت منه عبقرية.
______
*المدن