ثمة بياضات متروكة عنوة يغذيها اللاشعور، تتعاقب مشفوعة بما يبرّر موقف شاعرتنا من هذا العالم المترع بالمفارقات والمتناقضات والسادية وأقنعة القهر.
إنه زمن النص حين تكتسحه بصيرة الافساح لسرديات تجليات الحذر وعدم الثقة، تُعاضِد هذا الطرح افتتاحية الاستعاضة عن الجلد الذاتي بملهاة توبيخ الآخر الخائن والمفرّط في المكان المقدس والمتاجر في مصائر الشعوب بالمال واللذة والوهم.
هي الشاعرة البحرينية المتألقة أحلام الحسن ، تطالع المتلقي بعشرات القصائد المتراقصة على إيقاعات تناوب الخليلي والتفعيلي لتشكيل فسيفساء ما تنفكّ ترفل في المعنى الاستطيقي وتقتنص بعفويتها وخصوبة معجم مثلما تفرزه التقاطات الحسّ المرهف، دوال الجدة والتجاوز ، في ديوانها المغري جدا والذي انتقت له عتبة أنأى ما تكون عن الغلاف الشاعري الخادع ، عتبة دالة على ما يعرّي الذات وينفض عنها أوجاعها ويمنحها مساحات كافية للاصطدام المخملي بالواقع ومن ثم محاصرته بكمّ هائل من أسئلة فلسفية وصوفية وعاطفية تستفزّ أو تستنفر روح أمّة بأكملها عبر تفجير قضايا كبيرة ذات قداسة وحساسية خاصة وأبعاد إنسانية.
ها هنا تأنيث المكان، القبلة الأمثولة، تفرضه مرارة اليقظة غير المرغوب فيها وفتح الأعين على ما يدمي ،ما يجبر على تجريبية استسلام مؤقت للحلم وفق عيش سيناريوهات دنوّ القدس كجزء من أمّة مغتصبة ممزقة الهوية، برغم إقامته الرمزية في الذات الشاعرة، ومن ورائها الجماهير الغفيرة التي يعنيها الخطاب، ترويحا وتصحيحا لسجل الإرباكات والنكسات.
إنها حنجرة تناسل الإنذارات العاصفة بالمتبقي من ثقة قد يراهن عليها باعة الأمجاد.إنه طور استعجال أسباب النصر ودرء التطاوس المميت للعروبة والمبادئ وحقانية القضايا الإنسانية الكبرى.
” فمتى يا فلسطين تصرخين
صرخةَ الحياةِ لا صرخةَ الأنين..؟ ”
……………..
” يحومُ الغرابُ على نيلكِ
وتعوي ذئابُ الليالي فعي
لقد ضعْتِ يا مصْرُ فيما مضى
وثوبُ الغشامةِ هيّا اخلعي
صنعتِ البطولاتِ للكبْرياء
فصولي وجولي ولا تفزعي
عرفنا الشّجاعةِ مجْدًا بكِ
فإيّاكِ إيّاكِ أنْ تُخْدعي..’ ”
…………….
” تعاتبني و كأن الأيام بمشيئتي
كأنّني كتبت مقاديري و صفحتي
و أنّ بوصلة الدهر رهن إصبعي
و أنّ شفاه الإبتسامة في حقيبتي
………….
و ضاعتٔ مع هبوب الرّياح مطالبي
صرختُ و بحّ صوتي ولم تصل صرختي
و خلف القضبان أُزجُّ بالحبّ الملوٍّع ِ
و أُصلبُ بقميصي الممزق في وطنيتي..’ ”
…………………..
“أيا عراق البطولةِ فانهضي
و لبّي نداءَ دماءٍ تسيلُ
عصفتْ فتيلُ الخيانةِ ساخنةً
ستَعرفُ فيمنْ يشتعلُ الفتيلُ
……
حذار ِ يا عراقُ جدًا حذار ِ
خياناتٌ وأغدارً وتضليلُ
كلامُ حقّ ٍ و المرادُ باطلُ
ودعوة صلح غدر ٍ وتمثيلُ
فإيّاكِ .. يا عراقُ واحذري
لسيفِ الغدرِ أن يكونَ مثيلُ..’ “
شعرية باذخة تربك الجوارح وتقبض على لحظة اليأس بأنامل من نور ونار معا ،مفضية إلى حقول المرجان حيث لغز السؤال المعشش في براءة أطفالنا، أجيال الغد وهم يعطوننا انطباعا كاذبا فنستسيغه لأجلهم ونستعذبه، أحقاّ تلك المضغ الغضة منشغلة حدّ التّماهي مع سكرتنا،ومأخوذة بعوالم الملائكة والدمى والدموع النظيفة، فوق اكتوائها بخيباتنا وهمومنا وسلال خساراتنا واختمار معاناتنا…؟
لعله غيض من فيض تقتضب الإجابة عن إشكالاته الشائكة ،بضع محطات في تجربة شاعرتنا، دونما الزيغ عن صوت الحق والجرأة والنبض الإنساني المهيمن على متون البوح والمزركش للفعل الإبداعي جملة وتفصيلا، احتياجا وضرورة لا ترفا وزندقة.
أسلوبية تبقي بوابة الأمل مشرعة، ليس فقط إزاء كائنات في سن الزهور وحجم القنافذ،وإنما في وجه الآخر كحبيب،كوطن ،مع نزر لا يضر من عتاب ،محرض على الزج بالذوات قبل الملامح، وعرضها على المرايا الصادقة.
تلكم كتابة تشعل ثلج الأمل فينا،وتلحّ على قراءة داخلية تخلّصنا أو تطهرنا من عيوبنا وتجلو عنا غبار الأنانية والاستعلاء وشتى صنوف المعميات التي تحول دون اقترافنا لمعرفة حقيقية المغنم منها ذواتنا بدرجة أولى.
” أُكذوبةً حمقاءَ قد أهديتني
وشعور حُبّ ٍ في الحشا أحرقتَهُ
قلبي بكى
وجعًا بهِ
لا يشتكي
نارُ اللظى في أضلعي أشعلتها
واعدتني … أخلفتني … وظلمتني..’
…………………….
”
إذا باعني اليومَ خلٌّ وجافى
فهلْ في وُجودي مُحبٌّ مبالي.’
فيا نفسُ إيّاك ِ أن تخذليني
فعزمي إبائي وصبري كمالي
أمامي عدوٌ وخلفي حسودٌ
وصبري يضاهي شموخَ الجبالِ.. ”
…………………
” وأنزعُ مفاتيحي من الأبواب
وأحملُ قلبي على كفّي
دونما غطاءٍ أو حجاب.. ”
…………………….
” من بقايا صِبْيةٍ كانوا جميعًا يلعبون
كُلّ حُلْم ٍ عندهمْ مثل الكوابيسِ العنيدة
أُعْذرونا
إنْ هتفْنا أنّكمْ منْ ضيّعَ المسْتقبلَ
أُعْذرونا
لا تكونوا سببًا في جهلنا في موتنا..”
………………………….
” ما غابَ الأملُ وطيّبهُ
وشفاهُ البسمةِ تجذبهُ
دعْ عنكَ الحُزنَ ومأربهُ
فالقلبُ رقيقٌ يلهبُهُ
أملٌ في العُمرِ سيسعدُهُ
خيرٌ من حُزنٍ يغلبُهُ.. ”
……………………………..
” مشيتُ طريقّا أحرُّ منَ الجمرِ
وشربتُ كأسًا أمَرُّ
من المرّ ِ
سكرتُ حتّى إذا ما اخَمَرَّتَ عروقيَ
تناسيتُ اسمي ونسيتُ
معهُ عُمري.. ”
……………………………..
” أهربُ من عينيك وأُداري
أختفي خلف أستاري
أعلمُ بأنّ فنَّ القراءةِ في عينيك
أخافُ أن تقرأ أفكاري
أن تعرفَ أسراري.. ”
…………………………..
” سألفّ جراحي لكي لا تراها
ولكي لا تنزفَ وترى دماها.. “
إنه هروب الكتابة احتفاء بعزلة إبداعية تستقطر معسول المفردة من شفاه حبيسة تستمر و تستمر متهكّمة من زمن الجليد الذي يغطي أعمارنا.تلكم واقعية سحرية تحشد أتباع الشعر المدان، المتهم ، المطرود من مدن الفضيلة كما يرسمها صاع الساسة الحمقى .
تلكم سيمفونية رب من ذهب تجري على لسان القرين القابع فينا،شامتا لعّانا غير مكتف بالومض الخاطف إذ تحدثه عصا العميان في أيدينا المشدودة إلى الوهم والغواية، لتنير عقولنا ـــ لحظيا ـــ مجنبة إياها لعنة ونوبات التحجّر.
” تحتبسُ ﺑﻴﻦ ﺃﻧﻔﺎﺳﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕْ
ﺗﺤﻤﺮُّ ﺑﻴﻦ ﺷﻔﺘﻲَّ ﺍﻵﻫﺎﺕْ
ﻭﻋﻠﻰ ﻭﺟﻨﺘﻲ ﺗﺮﺗﺴﻢُ ﺍﻟﺘﺴﺎﺅﻻﺕ
ﻛﻴﻒ ﺃﺑﻮﺣﻬﺎ ؟
ﻛﻴﻒ ﺃُﺗﺮﺟﻤﻬﺎ ؟! ”
……………………
” أُداري وأنا
الجريحُ في أحزاني
وأضحكُ للنّاس
والسّهمُ بالقلبِ قد رماني
إليك أعتذرُ وكأنني
المُجرمُ الجاني
وأهديكَ وردًا
يا قاطعَ وصلي وشرياني .. ”
…………………………..
” لاجئونَ كغصنِ الازدهار ْ
عانقوا الموتَ بلونِ الاحمرارْ
لا يروا إلاّ ظلامًا و سرابْ
كُلّ ليلٍ قد تساوى بالنّهار.. ”
………………………
” الشّعرُ بينَ حَناياهُ طليقُ
ونفائسُ احترامي لهُ تليقُ
لئنْ غرّدَ بالقصيدِ أبو فراسٍ
كاللؤلؤ ِ في نظمهِ أنيقُ..”
……………………….
” لك شكري و إن قلَّ منّيَ الشّكرُ
وستبقى نورًا يعاكسهُ الصّدرُ
وعلومًا ترتشفُ الأجيالُ منها
وخُلُقًا قلّ ما جادَ بهِ الدّهرُ.. ”
مع وفرة إقحام الرموز والاشتغال على الموروث ، تسكن الديوان أكثر من صرخة وتسري في عروق نصوصه دماء مغدور ذبيح انتماء مطعون في قضيته.
ثمة لون من احتفاء بالأمل كسلاح لا خيار للذات الإبداعية في تحلية علقمية الراهن به،وأصداء قامة أدبية مخضرمة متمرّسة ومتمكنة من أدواتها وقد انتصرت إلى حدّ ما في جذب انتباهنا إلى أبرز معضلات الجيل، واستطاعت تلوين البياض بشعرية تبعث الأمل الضائع وتعيد صياغته ، وتذكي فتيله في أنفس تشاكس انهزاميتها دون كلل.
وإذن … تلكم ، لعمري ، كتابة الأمل في قيادة الأعمى إلى ضالته.