خمسون دقيقة في الطائرة

*أماني العاقل

يحصل أن يُكتب على بعض الناس الخروج في التيه بحثاً عن خبرات جديدة رسمتها أقدارهم من خلال سلسلة مصادفات وتغيرات تجعلهم يمضون في طرق بعضها مرغوب وبعضها مرهوب.

إلا أن اللافت في التحولات التي ترمي بالمرء خارج حدود وطنه هو حجم التغييرات التي تطويها المسافة الزمنية التي يمضيها ليعبر من دولة إلى أخرى، أو من مدينة إلى أخرى، حصل هذا معي عندما ترددت لأكثر من مرة إلى جنوب المملكة العربية السعودية حيث منطقة تسمى (عسير) تجمع مدينة أبها وخميس مشيط وجبال تهامة ومناطق جبلية أخرى، وكان بلد المغادرة مدينة (جدة) حيث أقيم، كنت أمضي في كل رحلة خمسين دقيقة في الطائرة، أنتقل بعدها إلى عالم آخر من حيث المناخ المعتدل الذي يميل إلى البرودة والذي يصعب بأن يقارن بالطقس الحار والرطب الذي تشتهر به عروس البحر الأحمر (جدة)، كذلك يُفاجأ المتفرج بالنظام العمراني المختلف عن مدينة جدة، فمنذ دخول صالة الوافدين في مطار منطقة عسير تشعر بحميمية الخصوصية الثقافية لهذه المنطقة من حيث الاحتفاء بالتصميم التاريخي الأقرب للبناء الطيني التراثي، والبساطة في كل شيء، والالتزام بالواجهات العمرانية القديمة لبعض المراكز التجارية، في حين تضج مدينة جدة بتصاميم الحداثة الهندسية التي تحاكي المباني الضخمة في المدن الصناعية الكبرى .
وكنت في كل زيارة أقول لنفسي، هل يعقل أن تنقلني خمسون دقيقة من الزمن بين هذه التحولات الثقافية ضمن حدود دولة واحدة؟ اختلافات في المناخ والطعام والنظام العمراني و لون العباءة التي ترتديها النساء، اختلافات في الجغرافيا وتضاريس الجبال!!

في السياق نفسه تذكرت الاختلافات التي رأيتها بعدما عبرت مغادرةً الحدود السورية من أجل أن ألتحق بزوجي، إذ وجدت نفسي فجأة أمام عالم يضج بالحياة، وأذكر أن وقت مغادرتي كان قبيل عيد الأضحى ببضعة أيام..

كان طريقي نحو الحدود مملوءا بالحواجز العسكرية والعمران المهدم، لا شيء يوحي باقتراب العيد، توتر وتوجس ونظرات مترددة، شعارات إسلامية وأحاديث نبوية رسمت على جدران المدارس، صور لأشخاص بلحى كثيفة عُلقت على أماكن متنوعة، يبدو أنها لأناس قتلوا في المعارك.
أذكر أن سائق السيارة كلما اقترب مرورنا نحو حاجز للجماعات الإسلامية كان يدير آلة التسجيل لتردد أناشيد عن الجهاد والنصر تفاديا لأي حوار غير مرحب به !! وكنت أقول لنفسي هذه «زفة العروس» التي حظيتُ بها فـي النـهاية!!

ساعات قليلة خرجت من الحدود.. وإذ بي أمام عالم آخر مسكون باللون، يومها تفكرت بالساعات القليلة التي نقلتني نحو عالم لا اعتقالات في ولا اختطاف.. لارصاص ولا صواريخ ولا قذائف عشوائية فيه !! حزنت كثيرا لأني اكتشفت أن الحياة لا تزال مستمرة خارج حدود الوطن، فعلى بعد أمتار من حدودنا ثمة أناس يذهبون ويتجهزون للعيد دون خوف من قذيفة عشوائية أو رصاصة طائشة.. نعم ثمة أناس يفتحون صنبور المياه فيسمعون خرير الماء لا صوت هواء صدئ.. ثمة أناس يتمتعون بحرية شحن جوالاتهم بالوقت الذي يريدونه، وبكل بذخ يلمسون زر النور فيشتعل ويضيء الغرفة…

لعل المسافات القليلة كالخمسين دقيقة التي تنقلني بين جدة وعسير، والطويلة التي تتجاوز الاثنتي عشرة ساعة كالتي بين الشرق الأوسط وأمريكا تصنع اختلافات وجودية وثقافية بين هوية الإنسان وما ينبغي أن يكون عليه في البلد الجديد، إلا أن هذه الاختلافات الثقافية تذوب قليلا عندما ينخرط الإنسان في مجتمع يحب الجمال والفن واللون، ولكنها تكون قاهرة عندما يصنف في مسميات مثل (لاجئ، أجنبي، دخيل، إرهابي مسلم…) فتلك الكلمات ليست صادرة عن مراكز الدراسات الأنثروبولوجية، إنها وشم يوصم به المرء عندما يغادر وطنه، وهي تتصل بانتمائنا للمكان الذي ولدنا فيه، والدين الذي وجدنا عليه آباءنا، وأضيف إلى ذلك الحرب التي اتفق العالم أن تستضيفها أرضنا.. ولا دخل لأي منا في اختيار أي مما سبق ولا يد له في تغيره، إلا أنه كلما ازداد توغلاً في جغرافيا البلاد ازداد حنيناً إلى انتمائه الذي يعطيه كرامته و ويعفيه من إذن تأشيرة الدخول!

______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *