التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة وأثرها على الفكر

خاص- ثقافات

*عادل الفتلاوي

ما زالت وتيرة التقدّم العلميّ والتكنولوجيّ متسارعةً في مختلفِ ميادين الحياة، وتخطو بخطى واسعة باتجاه المزيد من التعقيد التقنيّ والدخول في جميع التفاصيل اليوميّة للفرد، وإلغاء الكثير من النشاطات التي كانت تعتمد على الجهد الحركي، ونكاد لا نرى مجالاً من المجالاتِ يخلو من التقنيّة، ما حوّل العالم فعليّاً إلى قرية صغيرة مترابطة أثيرياً، وجعلت الإنسان في أرجاء المعمورة كلّها على تماسّ مباشر مع العولمة، وهكذا تمّ ردم الفجوات الزمكانية عبر وسائل الاتصال والتواصل المختلفة، ولا شكّ أن الإعلام كان من أهم المجالات التي أسهم التقدم التقني في تطويرها وأخذها إلى آفاق أبعد، فصار أقوى مؤثرات العصر الحديث والموجه الفاعل للثقافة المعاصرة سياسياً واجتماعياً، وقد خلقت هذه (الميديا) واقعاً افتراضياً لنمط التفكير المعاصر، وبديلاً – شئنا أم أبينا- عن الحقيقة التي أصبحت ترى عبر هذا الوسيط، ونستطيع أن نعيد صياغة العنوان هذا البحث “بأثر توظيف الحدث السمعي والمرئي وانعكاسهما على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي بالنسبة للمتلقي”.

IMG_0189 (1)

تأثر الفكر بالتكنولوجيا

إن الخوض في هذا الحديث ذو مستويات وأبعاد كثيرة فنحن نتكلّم عن إعادة تشكيل العقل على أساس سلطة الإعلام ليس ببعدها القديم وإنما ببعدها التكنولوجي الحداثي، إذ أن مفهوم الثقافة والتفكير قديماً بنيَ على عدد من المعطيات الذاتية والمعنوية كالتراكم المعرفي والتواصل العلمي والثقافي والاجتماعي وملاحقة مصادر المعلومة، فيما تلغي التكنولوجيا في المقابل جميع هذه المعطيات وبالتالي تخلق نوعاً من غياب النضوج الفكري والشموليّة واستبعاد فرضية أن تكون هناك حركات للنهضة الفكرية وغيرها، حيث ينقسم زمن الثقافة في عصر العولمة إلى ثقافة قديمة تعتمد على الوعي التراكمي للمعرفة تقابلها ثقافة حديثة تعتمد على الميديا وعمليات التواصل التفاعلي، وبالتالي تحويل عادة القراءة المبنيّة على الممارسات المحسوسة إلى قراءة الشاشة الافتراضية مُحْدِثةً غياباً للذّةِ القراءة القديمة التي يشترك فيها وعي القارئ بالكتابة.

صنعت التكنولوجيا واقعا لم يكن قابلا للوجود يوماً من الأيام إلّا في أفلام الخيال العلمي، مثل: المصانع التي تديرها الآلات، والسفر إلى الكواكب البعيدة، وجعل وسائل الاتصال في راحة اليد، وغيرها، وهذا غيّر تعامل الإنسان مع الكتاب والمكتبات ومع الإعلام ووسائل الاتصال والمعرفة، وخلق الحاجة إلى وجود فلسفة معاصرة تطرح اسئلة أخرى بعد أن تكفّلت التكنولوجيا بالإجابة على الأسئلة العلمية والمعرفية القديمة.

وعلى الرغم من أن هذه التكنولوجيا قد اختصرت المسافات بين المؤسسات العلمية والمعرفية وجعلت كل شيء تقريبا متاحاً وبأقرب السبل وأيسرها، وجعلت الشاشة تصبح الرفيق الدائم الذي تعرف من خلاله أخبار الصحف والمجلات وآخر الإصدارات ومواعيد رحلات الطيران وغيرها، بل الحالة الصحية للإنسان، إلا أن ذلك قد خلّف تراجعاً في نسبة الإقبال على الثقافة المدوّنة، لأنها – في جانب التدوين على الأقل – حلّت محل فعل التراكم المعرفي وثقافة التواصل والانفتاح وذلك لسهولة الوصول إلى المعلومة إلكترونيا، مكثفةً كذلك من الحيّز المادي الذي يتحرك فيه ومن خلاله الإنسان.

dite13_frth_v2

التكنولوجيا والإعلام راهناً

من الأمور التي كفلتها التكنولوجيا: الإعلام المتاح، فأصبح النشر الإلكتروني وسرعة وصول النتاج الفكري إلى الجمهور يسيراً وفي متناول يد الفرد، ولأي كاتب أن يكتب ما يشاء كي يصل من دون أي تمحيص إلى المتلقي فحلّ ذلك محل النظرية الثقافية التي تحكم نسقا معينا، وأصبح مفهوم التواصل ليس له غاية إلا التواصل الذي يخلو في أحايين كثيرة من التخطيط الفكري الممنهج والذي لا يتحدد بجنس أدبي أو نظام علمي، حيث تختلف هنا طريقة الاحتجاج ويستطيع أي شخص أن يمارس النقد بغياب العناوين الواضحة، جاعلاً ثقافة التكنولوجيا وحيدة الجانب فاقدة لعنصر المعايشة ما خلق فجوة معرفيّة واضحة المعالم بين مستخدمي تكنولوجيا التواصل والواقع الفكري، كما دعا ذلك الفضاء الحر الأقلام الشابة إلى بثّ طاقاتها غير الموجهة غالباً عبرهُ مساحتهُ الكبيرة، ما شكّل متنفّساً واسعاً لكثيرٍ من مراهقي الكتابةِ الذين حملهم زخرفه إلى الظن بأنهم وصلوا إلى الدرجة العليا ثمّ الإيمان القطعي بعد ذلك أن ما يطرحونه على الساحة له قيمة أدبية حقيقة، وهذا أنتج لنا طبقة عاشت وهماً ثقافياً له لغته وطريقة تواصله، وعزز اعتقادهم أنهم ينتمون إلى الطبقة الواعية، ويشكلون أعمدة مجدّ الأمّة القادم.

سيراً مع مقولة الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس وقوله”أن التقنية حولت الإنسان إلى أداة”، فإنها من خلال أدواتها الإعلامية التواصلية استطاعت أن تفقد بعضهم خصوصياته بنشره كل ما يتعلق بحياته اليومية موثقة بالصور والفيديوهات، وبعض آخر ارتدى قناع الاسم المستعار، وكلا الصنفين انقادا خلف مغريات الشهرة والظهور من دون تفكير فأوجدت لنا التكنولوجيا شريحة كبيرة من الكتّاب الذين تخبّطوا في توجهاتهم الثقافية واستقرّوا على أجناس غير صالحة لغير هذا الواقع الافتراضي، إذ سرعان ما تتضح هشاشتها عندما تخضع إلى أدوات النقد الصحيحة، غير أن هذه الشريحة تبقى تدور في دائرة وهم الوعي الفكري، وهو وهمّ يتسع وينمو بشكل متسارع لسهولة أدوات هذا الواقع وسرعة انتشاره وغير بعيد أن يأتي زمن نؤرخ فيه إلى ثقافة التكنولوجيا.

إن الجيل الذي نشأ تحت وصاية التكنولوجيا يواجه تحديات كثيرة في طريق النضج الفكري حيث اعتاد على أمور من شأنها أن تقلّص عطاءه المعرفي وتحدّه بمساحة بسيطة كسرعة الحصول على المعلومات وتوفرّها في أي وقت وأي مكان، خاصة وأن المكتبات تضاءل حجمها حتى استقرّت في راحة اليد فعلياً، فصار البحث عن أي معلومة يسيراً وبذلك فقد الباحث لذّة الاطلاع الشامل على المصادر الواسعة مكتفياً بالمعلومة بحدّ ذاتها مجرّدة، لذا نجد الكثيرين – حتى على مستوى طلبة الدراسات العليا- ذوي أفق ضيّق وقلّة في الاطلاع فاقدين القدرة على الإبداع والابتكار.

إن أحد أسباب عولمة الفكر التي مهّد لها الإعلام هو الرغبة في اختراق فكر الآخر لتكون الحدود الزمانية والمكانية والتاريخية ومسألة الهوية التي بقيت محافظة على استقرارها ومركزيتها واقعة تحت التأثير والمؤثر بالحضارات والثقافات الأخرى مهددة إياها بنظرية نستطيع تسميتها بالمركزية الغربيّة.

ولهذا الموضوع مستويان: إيجابي وسلبي فالإيجابي يتمثّل في إمكانية اقتراب المثقف من الدائرة المحليّة والعربية والعالمية باشتراطات أن يكون مثقفاً واعياً يحمل فكراً خلّاقا، ويستطيع من خلال هذه القناة أن يوصل آراءه إلى قارئيه ويطلع على التجارب الفكرية الناضجة محققاً تلاقحاً فكرياً بينه وبين العقول المنتجة الأخرى.

أما السلبي فيكون بغياب خطاب المثقف وانتفاء قاعدته وتأثيره ووسطه ليصبح وسْط (ميديا) ويحيلنا ذلك إلى نظرية البعد التواصلي عند(هابرماس)، فيأتي السؤال: هل حقق التواصل التكنولوجي بعداً إيجابياً أفضل من السابق أم لا؟ وإحدى الإجابات التي يمكن أن نجيب بها على هذا السؤال هي أننا لا نستطيع أن نحدد أزمنة فكرية وأدواراً ثقافية من خلال ما صنعته لنا التكنولوجيا.

ويمكننا أن نطرح أمثلة تكون مصداقاً لما تقدم من كلامنا كالتحولات الكبيرة التي ظهرت جليّاً في الثورات العربية أو ما اصطلح عليه بـ(الربيع العربي) فقد شهدنا ظهور جماعات من العالم الافتراضي قادت حراكا تغييريا رعته التكنولوجيا وحقق نجاحاً في التأثير على الواقع الحقيقي، إلا أن هذا التغيير لم يتبلور إلى نظام له شرائطه بل سرعان ما ضَمرَ هذا الحراك وبقيت إثره تداعياته الفوضوية شاخصة على أرض الواقع. واستطاع الإعلام كذلك أن يكون ظلامياً في تسويق حوادث أدّت إلى انهيارات سياسية واجتماعية ما زالت كثير من الدول والشعوب تدفع ضريبتها.

وختاماً نستطيع أن نضع بعض النتائج التي آلت إليها الثقافة وسط الحاضنة التكنولوجية:

استطاعت التكنولوجيا تحفيز طاقة النقد في جيل الشباب وإطلاق الطاقات غير الإبداعية(الانفعالية) بهموم ذاتية وشخصية، وغالباً ما يكون هذا النقد غير مبنيّ على أسس صحيحة يأتي مدفوعاً بمساحة الحرية الكبيرة التي وفرتها “الميديا” بلا رقيب.

أضافت التكنولوجيا شقّاً ثانيا لتاريخ المثقف، يتمثّل الأول في وجوده المعرفي ونشاطه الإبداعي الفعلي على أرض الواقع وفي الواقع المعاش زائداً وجوده الشخصي والثقافي في العالم الافتراضي أيضاً، فظهر في سجل حياة كلّ مثقف صفحة رقميّة تمثّل علامة فارقة في سيرته الذاتية.

كان سبباً في ظهور التعصّب بأنواعه على أسس افتراضية مورست من أجلها هذه الثقافة على وهم أنهم يعيشون التميّز الحضاري.

غياب الشخصنة، فأصبح لدينا مثقف مرئي، ومثقف وهمي بالتالي خلق شهرة آنيّة تستند إلى آليات عمل غير مكتملة لتصبح ميولاً فردية تعيش أزمة ظهور.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *