ترك الرسام الألماني الشهير، كاسبار ديفيد فريدريك (1774 – 1840)، مجموعة من الأعمال الفنية الخالدة، والتي غيرت شكل وأفق التعاطي مع رسم المناظر الطبيعية الذي ظل حبيس التصوير التماثلي لسنوات طويلة، وقد استطاع تحقيق ذلك عبر الشحنة العاطفية والنفسية والتأملية القوية التي تمنحها المناظر في لوحاته للمتلقي.
كانت الطبيعة الألمانية مصدر إلهام كبير لكاسبار، وحرك مشاعره الجمال الكبير الذي اكتشفه خلال رحلاته إلى الجبال، التي وفرت له موضوعات وأفكاراً غنية للرسم، وبهذا الميل الفطري إلى الطبيعة اتخذت أعمال كاسبار صفتها الرومانسية، ولربما تشكل هذا الميل من خلال الأحداث التي عاشها الفنان حيث توفيت أمّه وهو في السابعة من عمره، وبعد ستّ سنوات توفي شقيقه، بينما كان يحاول إنقاذه من الغرق، ما ترك أثراً عميقاً على شخصية الفنان.
بالنسبة له لم تكن الطبيعة مجرد خلفية يملأ بها الفراغ خلف شخصياته المرسومة، وإنما احتلت مركز الصدارة في اللوحة، حيث جعلها تنطق بالقيم الروحية التي يريد إيصالها، ممتلكاً أسلوباً فنياً مختلفاً في مجال رسم الطبيعة، فلم تكن مناظره عبارة عن مجرد غابات وإنما تحولت إلى أراض ساحرة، كل طريق وفرع شجرة فيها مثل شيئاً أكثر عظمة وعمقاً.
ترك كاسبار مجموعة مهمة من الأعمال الفنية التي أخذت شهرة عالمية كبيرة كما في «مسافر فوق بحر الضباب» و«صليب في الجبال» و«رجلان يتأملان القمر» والتي تظهر بوضوح حب الفنان الجمّ للطبيعة، إلا أن هذه الحظوة الكبيرة لم يحصل عليها في حياته، فقد أسيئ فهم أعمال كاسبار كثيراً، وقد كافح معظم حياته لإيصال وجهة نظره الفنية للجمهور والنقاد في عصره الذين وجهوا انتقاداً كبيراً له ولأسلوبه الفني، إلّا أنه اليوم يحظى بالاهتمام والتقدير الكبيرين لإبداعاته الفنية، ويعتبر أحد أهم رسامي الحركة الرومانسية الألمان.
«مسافر فوق بحر الضباب» هي أحد أشهر لوحات كاسبار على الإطلاق، وأحد الرموز الأساسية للحركة الرومانسية، فقد امتدت شهرة هذه اللوحة في كل الآفاق، وكانت مرجعية لكثير من المشاهد الفيلمية بقوتها التأثيرية، وأبعادها النفسية العميقة والموحية والباعثة على التأمل.
تصور اللوحة رجلاً يقف على قمة الجبل غارقاً في التأمل والتفكير، مفتوناً بالسحاب والضباب الذي يغطي البحر، ممتداً أمام ناظريه، ويعتقد البعض أن الرجل الماثل في اللوحة هو كاسبار نفسه، حيث إن ذلك الشاب الذي يقف متأملاً، له لون شعر كاسبار الأحمر الحارق نفسه.
ومع أن الرجل يقف مديراً ظهره إلا أنه لا يصد المشاهد، بل العكس فهو يسمح له برؤية العالم من خلال عيونه، ويمكّنهُ من مشاركته الأحاسيس والتجربة الشخصية.
اختار كاسبار رسم هذا المشهد عمودياً، مستخدماً تقنية «روكن فيغر» حيث يرسم الشخصية وهي تدير ظهرها للناظر، وهذا يجعل الشخصية لغزاً للمتلقي، بحيث تراوده الشكوك حول ما تفكر به أو ما هي ردة فعلها تجاه المنظر الساحر أمامها، وبالتالي فهو يدخل المتأمل في محاولة التفاعل بشكل أعمق مع اللوحة، وفك رموزها، كما أنه عبر فصل الشخصية يجعلها أقل أهمية، فيتحول تركيز المشاهد إلى جمال المناظر المحيطة.
استخدم كاسبار في هذه اللوحة ألواناً أكثر إشراقاً مما اعتاد استخدامه في أعماله الأخرى، حيث يمزج بين الأزرق والوردي عبر السماء، فيما تعكس الجبال والصخور هذين اللونين أيضاً، وقد رسم الشخصية وهي ترتدي معطفاً أخضر غامقاً ممثلاً اللباس الألماني التقليدي، حيث ينبعث الضوء من بين الصخور منيراً سحب الضباب، في حين تكون الظلال قوية على الصخرة التي يقف عليها الرجل.
يظهر التباين بين عناصر اللوحة بشكل جلي، والطبيعة فيها لا تكشف عن أيّ جمال ظاهري لافت، بل إنها تدفع المشاهد لاكتشاف وتبصر عوالم أخرى لا يشي بها المنظر الخارجي، ورغم مرور كلّ هذه السنوات على ظهور اللوحة، فإنها لا تزال تحتفظ بهالتها وجاذبيّتها، فقد أصبحت ترمز إلى غربة الإنسان المعاصر وإلى المستقبل المجهول ومعاناة الإنسان الذي يجد نفسه تائهاً، وهو يبحث عن هدف للوجود أو معنى للحياة.
تتألف هذه اللوحة من عدة نماذج رسمها كاسبار، لعدّة مناظر طبيعية مختلفة، حيث قام بجمع تلك النماذج لتأليف هذه اللوحة، ورغم أن كل نموذج يعود إلى مكان مختلف إلّا أنه استطاع أن يكون منظراً عاماً متناسقاً ومقنعاً، ويمكن تحديد أماكن بعض الجبال في الطبيعة اليوم.
_______
*الخليج الثقافي