خاص ثقافات- من نيرمينة الرفاعي
بالتعاون مع دارة نوران للتدريب والإبداع، عًرضت، اليوم الخميس 18/8/2016، مسرحية “جوانح” على خشبة مسرح مركز الحسين الثقافي في عمّان.
المونودراما التي كتبتها الروائية “غصون رحال” ومثّلتها الطفلة “نوران ملكاوي” وقام بإخراجها “فراس زقطان” تطلق صوت صوت الطفلة ” حياة ” التي سقطت فجأة من السماء لتجد نفسها على هامش أحد مخيمات اللجوء بلا أم، أو تعليم، أو مستقبل.
“حياة ” طفلة من صنع الخيال لكنّها تحمل من الحقيقة أكثر من الحقيقة ذاتها، قفزت عن حواف الأوراق الجامدة وتجسّدت على المسرح طفلة تفيض بالحياة لتُشهد العالم الغارق في النسيان على وجودها، لتذكره بفجيعتها في أمها ووطنها، لتطلب العون من رب السماء.
بدأت المسرحية بظهور “حياة” على المسرح بثياب سوداء بسيطة، والمكان حولها فارغ إلّا من عمودين على الأطراف علّقت عليهما طوال العرض الشالات البيضاء التي تمثّل الخيام ثم سحبتها وغيرّت طريقة وضعها مرارًا وتكرارًا.
في المنتصف هناك شاشة عرض بيضاء كبيرة يتحرك خلفها رجلين تداخلت أصوات غنائهما مع صوت الكمان الذي يعزفه أحدهما في الفترات القاطعة بين مشاهد نوران المتلاحقة.
بلعبة بسيطة بين الظلال والصوت والموسيقى والغناء وصوت نوران، استمر العرض الذي دام 45 دقيقة.
بمونولوج يحبس الأنفاس تكلّمت “حياة” عن الخيمة التي هي بيتها طوال خمس سنين وعن الوعود الكاذبة والآمال غير المتحققة عن توّقف الحرب.
غطّت الطفلة رأسها بشال أسود يتوافق مع ثيابها وهي تقول إنها لا تفعل شيئًا في الخيمة سوى عدّ الأيام، وأن الأيام تتحول إلى نقاط سوداء، بينما يتحول الشهداء إلى نقاط حمراء، وتخاف الطفلة بسنينها الغضّة ألا يجد الشهداء أيامًا تتسع لهم، وتخافُ أن يأتي يوم لا تدري كيف تعدّ فيه.
تحمل دمية بشعر أشقر وتتجول فوق خشبة المسرح، وتحكي لنفسها غرابة أن تتحوّل لعبة نتف الورد باحتمالات “يحبنّي/لا يحبّني” إلى لعبة نتف ريش الحمام أمام احتمالات “سنرجع لبيتنا/لن نرجع”.
تؤكد لنا أنَّها ليست مقطوعة من شجرة وتحكي عن بيتها الذي صار كومة حديد، تحكي عن أمّها التي عادت لتجلب شيئًا نسيته في البيت أثناء القصف فلم تخرج منه، تحكي عن شقيقها “مروان” الذي يدّعي الشجاعة أمامها وتدّعي أمامه الغناء وسرد النكات.
تبدأ باستكشاف مفاهيم الفقد والغربة والوجع وعبثية الأيام، تسأل بمنطق الأطفال إن كانَ ألم فقد أمّها أمرًا يخصها وحدها أم أن جميع من فقدوا أمهاتهم يشاركونها نفس مشاعرها.
يقاطع حديثها صوت الغناء مجددًا من وراء الستارة مرتفعًا بكلمات:”ضرب الخناجر ولا حكم الندل فيّا”، تتذكّر مدرستها ومعلمة العلوم التي راهنت على أنَّها ستصبح طبيبة، تتحسّر على عدد الدروس التي فاتتها، وعلى نوعية الدروس الفوضوية التي تتلقاها في المخيّم حيث لا علم ولا تعليم.
تجلس على ركبتيها، تناجي الله وترفع ذراعيها إلى السماء بالدعاء أن يبقى لها والدها وشقيقها.
ثم تعود لتقلق بشأن قرارات أبيها حين يقول لها إنه لا داعي للذهاب إلى المدرسة فيقول:”مروان ولد، بدرس وبكرة بس يكبر بدير باله عليكِ”، تتذكّر عندما كان والدها يعمل دهانا طيلة النهار، وتتساءل عن مستقبلها وأين سينتهي بها مطاف الدراسة والعمل.
ذكرياتها تختلط بالرعب الذي أصاب عائلتها حين اعتقل الأمن والدها قبل هربهم من دمشق، “أبي الذي ذهب إلى المركز الأمني ليس ذات أبي الذي خرج منه”، تقول مبسّطة وصفها للأحداث، ثم تتسع دوائر وجعها لتفارق نطاقها العائلي وتصل إلى الموت والقتل والخراب في كلّ مكان حولها، يخطر ببالها منظر الأطفال الممددين دون أي جرح ظاهر، دون دم ودون وجع، مستسلمين للموت واحدًا بجانب الآخر، نائمين كالملائكة.
تواجه “حياة” ألمًا كبيرًا حوّلها إلى “ختيارة”، كما وصفت نفسها، ألمًا كان يسبق خروج العائلة باتجاه الحدود حين مشوا هربًا نحو مخيم اللجوء لتواجه ألمًا من نوع مختلف. سمعت الكبار يتناقشون يومها عن أن المسافة التي يفترض بهم مشيها هي مئة كيلومتر، وتتساءل بعقلها الطفولي محاولة إيجاد مفهوم دقيق للمئة كيلومتر التي تحوّلوا إلى تعب مستمر قادهم إلى الخيمة المغطّاة بشعارات الأمم المتحدّة.
تغنّي الروزانا، وتمسك بخريطة العالم مع “مروان” محاولة فهم مصطلحات كالحدود وجوازات السفر، تحاول أن تعرف أين هو البحر الذي سمعت أنَّه يبتلع الأطفال، ومع استمرار الموسيقى الخلفية، وتتساءل في النهاية برعب كيف يمكن لمن يهرب من الموت أن يفكّر بتجديد جواز سفره أو الحصول على تأشيرته.
“حياة” هي اختزال بسيط لما يواجهه أكثر من ثلاثة ملايين طفل يمضون حياتهم في مخيّمات اللجوء، لا ندري الكثير عن أسمائهم وأحلامهم ومعاناتهم اليومية، و”جوانح” هي محاولة للفت الانتباه إلى واقعهم، تدعو إلى فحص ما يحملون في دواخلهم من أفكار نبتت ونمت وترعرعت في خبايا الحرمان والبؤس والتهميش، أفكار قد لا تكون خالصة من هاجس ملحّ في الانتقام، مسرحية تلقي حجرًا في مياة البركة الراكدة علّ أحدًا يتحرك.