المكان وعلاقته بالشخصيات في “المستنقع” لحنا مينة

خاص- ثقافات

   *عبد الرحمان الكياكي

         سأحاول من خلال هذا الموضوع رصد مواقف الشخصيات من خلال مواقعها المتميزة داخل فضاء رواية (المستنقع) / الشكل التعبيري الذي شيده حنا مينة على الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي السوري. فضاء الثلاثينيات الذي عرف تحولا على مستوى العلاقات البشرية ، بجميع مواقعها و مواقفها ، وتعدد منظوراتها الايديولوجية ، حيث يتم تحديد مدى تعدد السلوكات الاجتماعية المختلفة والانتماءات الطبقية المختلفة ، خاصة وأن المكان يستمد(( هويته أساسا من من الجذور الثقافية التي ينتمي اليها. فهي التي تنقله من مجرد بقعة جغرافية الى مستوى الدلالات الرمزية واللاشعورية)) (1) .  فالمكان في الرواية هو فضاؤها الشامل ، وسياق أحداثها ومكان تطور شخصياتها (( انه العمود الفقري الذي يربط أجزاء الرواية ببعضها البعض )) (2). وقد جعلت منه رواية القرن التاسع عشر عنصرا روائيا متعدد الوظائف.اذ استعمل كإطار مستوعب للحدث ، وممهد له كما هو الشأن بالنسبة لبلزاك.(3).

كما استعمل كصدى للتباين الاجتماعي وتطور الايدولوجيا مع المدرسة الطبيعية (زولا). وأصبح مع( فلوبير) بمثابة مرآة تعكس الصدى  السيكولوجي للشخصية.أما في الرواية الحديثة فقد ارتبط المكان بالتعبير عن استقلاله التام من حيث تموقعه في الخارج ، يؤطر الاشياء ويخضعها لسلطته ، ومن تمة يحل محل الزمن (4). غير أن مصطلح الفضاء يثير أكثر من اشكال حول وظيفته وطبيعته اذ يتميز باستعمالات متعددة تمنحه حمولات نظرية متباينة تؤدي الى نوع من الالتباس ، في تحديده والتعامل معه.(5). وهو عند باختين يجمع بين الزمان والمكان  وهو ماسماه ب( الكرونوتوب ). وبهذا الصدد أشير الى مداخلة الاستاذ محمد برادة في ندوة (الابداع والمكان ) ، التي نظمتها جمعية الامام الاصيلي بأصيلة أيام 09/10/11/شتنبر 1988.حيث يوثر الاستاذ برادة كلمة الفضاء على اعتبار أنها تشمل المكان  والزمان لاكما هما في الواقع ، ولكن كما هما متحققان داخل النص ، وفي نسج نكهته المتميزة. ان ماتهتم به القراءة والنقد اليوم هو ((استكشاف فضاء النص أي المكان بترابط مع الزمان ، وما يتولد عن علاقتهما )) فالفضاء في النص الروائي –كما يرى الاستاذ محمد برادة لايمكن أن يقوم بدون علاقة مع الزمان ونتاج هذا التلازم يصبح عنصرا جوهريا في البناء يطلق عليه باختين تسمية الكرونوتوب ، أي تجسيد الزمان داخل الفضاء (6).

انطلاقا من هذه التوطئة أطرح السؤال التالي : كيف تتحدد العلاقة بين المكان والشخصيات في رواية المنعطف ؟؟

        (( يبدو أن ، المكان بالمعنى الفيزيقي ، أكثر التصاقا بحياة البشر ، من حيث خبرتهم وإدراكهم له. ففي المستنقع يظهر وكأنه ”حقيقة معاشة” يؤثر في الشخصيات بنفس القدر الذي يؤثرون فيه. و، ”انه بقدر مايصوغ المكان الشخصيات والأحداث الروائية يكون هو أيضا من صياغتهما ، ان البشر الفاعلين  صانعي الاحداث  هم الذين أقاموه وحددوا سماته ، وهم قادرون على تغييرها )) (7).

بحي( المستنقع) ترتبط الشخصيات ارتباطا وثيقا بالمكان ، فمنه استمدوا قوتهم  وهجموا على أملاك الخواجة اسكندر بالعصي والفؤوس والرفوش والقضبان الحديدية ((..ودارت معركة على التل أولا ، ثم دخلنا المزرعة ، فأعملنا فيها القطع  والتكسير ، واقتلعت الخضار وقطعت الفواكه وكدنا نصل الى قناق صاحب الخنازير لولا أن وصلت شرذمة من الدرك )). (ص 62-63). وبفعل الاستفزاز تحولت المظاهرة الى معركة دامية ((.. كانت شيئا مفاجئا للناس ، كانوا عزلا من السلاح ، وليس لهم إلا أيديهم وجسومهم ، وقد اندفعوا في موجة غضب فبلغوا درج السراي ، وأخذوا يدفعون الباب لاقتحامه ، وعند ئد حدث ذلك الشيء الرهيب الذي رأيته لأول مرة وهو الدم. )) (ص305). ومنه يستمدون ضعفهم ((.. وتتراءى لي جسوم الاطفال  في هزالها وصفارها ، ووجوه الرجال  والنساء في ضمورها وشحوبها ، وأسمع أنات المرضى ، وصرخات الجياع ، واقلب نظري في الحي المتناثرة أكواخه القميئة بين أدغال البردي ، وسط مستنقع تنق الضفادع فيه ، وتسرع الافاعي في جوانبه ، ان الفقر هنا هو الموت ، هو البلاء الاسود ، هو الوجه الاخر للموت.)) (ص 354).

ان المكان في ((المستنقع)) هو الجسد الذي يحتوي هذه الكائنات / الشخصيات ، التي قد تموت بموته أو تحيا بحياته ، انه يضفي الحيوية والحركة على شخصياته ، ويجعلها تتحرك بحرية في جميع الاتجاهات ، كما يضفي عليها الجمود ، ويفرض عليها حواجز تمنعها من الحركة. انه في النص الروائي فضاء الشخصيات وحيزها الاجتماعي.(( فاختيار المكان وتهيئته يمثلان جزءا من بناء الشخصية البشرية (…) فالذات البشرية لاتكتمل داخل حدود ذاتها ولكنها تنبسط خارج هذه الحدود ، لتصبغ كل ما حولها بصبغتها ، وتسقط على المكان قيمها الحضارية )) (8).

في فضاء (المستنقع ) تمثل الشخصيات نموذجا(( اجتماعيا )) ، في مرحلة الثلاثينيات التي لها دلالات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، ومن خلال تحديد الكاتب لها وإضفاء ايديولوجيته عليها ، رغم الطابع الاجتماعي  المميز ، فهي/الشخصيات  تعبر عن نمط ونموذج من المجتمع ، انها في النص الروائي تحرك الاحداث ، انها : الفاعل في نظر( غريماص) أو الفواعل التي التي تحدد انطلاقا من علاقتها بمواقعها زهي تحتل وظائف يقع انطلاقا منها –الوظائف- تحديد هويتها.(9) وبذلك فالشخصية في ثنايا  الخطاب الروائي هي بالأساس(( فاعل )) حقيقي ونموذجي يتحرك داخل النسيج اللغوي المكون لبنية السرد ، انها (( دعامة بقاء وتحولات المحكي))  في نظر( فيليب  هامون ). (10). هذه الشخصية التائهة وسط أوحال المستنقع  محفوفة بالقهر المفروض، باحثة عن هوية ضائعة ، عن كيان مستلب، من خلال الرؤية والموقف ، ومجموعة القيم ، وتعدد السلوكات الاجتماعية المختلفة ، خاصة وأنها تتحرك في مدارها الاجتماعي  ((الطبيعي )) بكل عفوية ، كما أن تفاوتها الاجتماعي يحمل صراعا مبدئيا ، رغم ذلك فهذا لايمنع من اضفاء ايديولوجية الكاتب على بعض المواقف ان لم نقل جميعها.

انطلاقا من الصفحة الاولى ، يحدد السارد الخاصية الاساسية للفضاء ( الفقر والتشرد ) ((هانحن في المدينة ، ليس في المدينة تماما ، بل في ضاحيتها الجنوبية )). فمن يسكن ضاحية المدينة غير ضحاياها المشردين  والبائسين : ((وكنا نحن الذين هاجرنا من السويدية ، والذين طردتهم المدينة لفقرهم وسوء حالهم ، أو الذين جاؤوا من أصقاع شتى وبنوا أكواخا من القش أو التنك ، نؤلف السكان الفعليين للحي ، كنا عشيرة من الفقراء الجياع ، العرايا ، الذين يعملون في تنظيفات المدينة ، وفي العتالة ، والميناء ، والذين لاعمل لهم ، والمقامرين ، والسكيرين ، واللصوص ، والذين يمارسون كل أصناف الرذائل ، ويشكلون كل نفايات المدينة ، وكان هؤلاء الناس يختلطون بأهل المدينة نهارا(… )وهكذا كان التبادل قائما بين الطرفين  يرغموننا على أن نعيش في الطين ، ونحمل هذا الطين معنا اليهم ونلوثهم به.. )) (ص59).

تتميز شخصيات ((المستنقع)) بكونها فاعلة تتحرك وسط كل  أجواء المكان ، ساعية الى أن تتحول الى ذات جماعية باحثة عن موقعها في المجتمع ، هذه الذات التي تتحقق من خلال الجماعة وداخل الجماعة ، التي جعلت من معركتها نحو تحقيق هويتها  معركة دائمة لاتنتهي ، وهي تستدعي باستمرار تحقيقات جديدة ومتنوعة (11). رغم التشرد وسط  وحل المستنقع أو شحد كسرة خبز يابس ، أو الوقوف في بهو المدرسة لتوزع عليهم الجمعية في عيد الفصح ، الطحين والسمن والسكر. أو النبش  في القمامة الى  جانب الخنازير عن أشياء تأكل (( لقد نبشت أنا وأمي في هذه القمامة كنا ننتظر حتى تصل احدى العربات ، فيهجم المجتمعون عليها ونحن بينهم ، ونقوم جميعا بالنبش فيها ، بواسطة عيدان وأسياخ حديد ، أو بأصابعنا بكل بساطة ، وكانت الخنازير التي تهجم بدورها تنازعنا النبش)) (ص60-61). رغم هذا الواقع البئيس المشرد ، وهذه الحياة ذات الافق المسدود والجدار من العذاب. هذا الواقع الذي حاولت الام رفضه في البداية ، لكنها قبلته في النهاية. أصبحت خادمة في البيوت من أجل قطعة خبز صارت(( أعز ما في الوجود ، صارت الوجود ذاته )) (ص200). يتجدد الامل ، وتظهر بوادر الحياة الي بدأ نورها يشع من الحديقة . الحديقة كمكان يأوي اليه العمال برئاسة فايزالشعلة ، من أجل تكوين نقابة عمالية ترغم الحكومة على النظر في مطالبهم.((توالت اجتماعات  العمال العاطلين عن العمل في حديقة المنشية ، وازداد عددهم وتضخم ، كان يأتي عمال من الاحياء  الاخرى ، فقراء وجائعون ومثل أبناء حينا يقتعدون الارض، فوق أوراق الكينا الجافة ، في الحديقة التي صارت مقرا لهم ، هم الذين ليس لهم مقر يجتمعون فيه ))( 262). وفي الحديقة يجتمع العمال، وتكثر الاجتماعات والمناقشات، وتوزع المنشورات ضد الحكومة وضد الانتداب الفرنسي ، وبذلك يتحقق جانبا من الوعي  ويقترن بالنضال ، نضال الفقراء الذين كانوا أكثر حماسة وأكثر استعدادا للمعركة. فمن المكان ولأجل المكان يعتقل(( فايز الشعلة )). وتتحول المظاهرة الى معركة حقيقية ، ويظهر بين صفوف شخصيات المستنقع  والأحياء المجاورة ذلك الشيء الرهيب ، انه الدم.وبناء عليه تكون العلاقة بين الشخصيات والمكان  في رواية المستنقع واضحة للقارئ  منذ الوهلة الاولى. خاصة وأننا أمام شخصيات عرفت التشرد وعاشت كل أصناف القهر والتعذيب لتنتهي بتشكيل وعي مناهض بعد دخول بعض الشخصيات السجن  والعودة بأفكار جديدة للدعوة الى تأسيس نقابة عمالية.

هوامش :

(1)مداخلة الاستاذ اليبوري في ندوة الابداع والمكان بأصيلة – الملحق الثقافي الاتحاد الاشتراكي  عدد244-18/09/1988ص2عمود2

(2)الرواية العربية واقع وافاق دار ابن رشد الطبعة الاولى1981 ص210

R.Bourneuf et R.quellet (Lunivers du romon.Ed puf. paris1981p100(3)

(4)الفكر العربي المعاصرعدد 37 مارس 1968- موجة الرواية العربية  

G.Genette –Figure1 Ed.Seuil.paris 1966 p 101 (5)

(6) مداخلة الاستاذ محمد برادة  في ندوة الابداع والمكان – الملحق الثقافي عدد 244 -18/09/1988ص4

(7)الرواية العربية واقع وافاق (ص212)

(8) مشكلة المكان الفني. يوري لوتمان – تقديم وترجمة سيزا قاسم ( عيون المقالات محور : جماليات المكان عدد8 -1987)

(9) الفكر العربي المعاصر عدد44/45

ph.hamen (pour un statut sémiologique du personnage.. ed seuil  paris 1977.p125 (10)

(11) الرواية العربية واقع وافاق (211)

 

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *