قمة بيضاء… بيضاء

*أنطوان أبو زيد

أحتاج وأنا أتكلّم إلى قليل من الرقّة. صوتي سليم. ولكنني منذ خروجي من المنشرة المقابلة، ومحاولتي عبورَ الطريق الطويل، أحاول، أنا الصرصار الحديد، أن أنفضَ عن جناحيّ شبه الدائريين الغبار الأصفر المتراكم عليهما هنالك. لا أخفيك أنني بلغتُ سنّاً عتيّة بين صحبي في المنشرة.

وكنتُ خطيبهم أيام الصمت، ونوم الآلات، وعزّ النقاء. وكانت أياماً عظيمة. كنت أستند الى نشيرة مستطيلة فوق حجر العلّية. أرفعُ رأسي، وأضمّ جناحيّ ضماً يهبني الصّلابة، وينفخُ فيّ الاعتزازَ. وكنتُ أجولُ بنظري، من علٍ، على جماعة الصراصير المتلوّية، وغير المنضبطة والنافدة الصبر. وإذ يرفع بعضهم قوائمهم ويتركونها مرفوعة ومهتزّة كأن للاعتراض، يأتي صراصير آخرون مع حمّالات ويرفعونهم عليها، ويخرجون بهم الى جبل القاذورات خلف المعمل، غير البعيد، كما أسلفت لك. ثمّ أعاود النظر، فأرى الغالبية منصتة. عندئذ، كان يصعد نحوي أحد الصراصير العجزة، ومن أولئك الذين يشارفون على الموت، فيكاد يتعثّر بالرداء الأزرق الذي يحمله بين يديه، فيضعه على منكبيّ، ثمّ أراه يهوي ميتاً على الدرج.

وهكذا، ظلّ يقدّمني كلّ الخطباء الصراصير العجزة، قبيل موتهم، عارفين أنّ هذا شرفهم الأخير، ورسالتهم يسلّمونها من يستحقّها. فأقول: «يا إخواني الصراصير الحديدية. إننا نعرف تماماً كم يكلّفنا الحفاظ على نوعنا النادر. وكم تتمنّى أنواع الصراصير الأخرى أن ترانا مضمحلّين، غير مستقرّين في مكان، وعاجزين عن احتلال أيّ فجوة، أو الصعود الى أيّ بناء أياً يكن انخفاضه، ظانّين أننا لا نقوى على الحركة بسهولة. وأنه لا يسعنا الطيران الى مستوى النوافذ والكوى. ولكنهم خسئوا». وهنا كان يرتفع صفير من الجمع، وأروح أسمع هتافات، من مثل: «صرصار الحديدْ، عمرو ما بيحيدْ»، وأقوال أخرى، حتّى ألمح رؤوس كثيرين تتفكّك وترتفع عن الأكتاف العارية. في حين يروح يعلو أنين أولئك المنزوعة منهم الأجنحة، عبثاً، ومثل الخفوت الذي لا أثر بعده، ولا صدى. ومن ثمّ تتعالى غبائر الهاتفين والضاربين على طبول بطونهم بعضهم البعض، والرافعين أثوابهم الى فوق رؤوسهم، وقد علقت فيها بعض الأشلاء والعظام، الى أن تحجب عني الغبائر النظرَ اليهم، كما تحجب الغيوم الشتائية، في عزّ المطر والثلج، حوافّ الطريق المسننة الى وكرنا، تحت المصطبة، تحت باب معمل الكراسي الكبير. وكنتُ أرفعُ يدي، آنئذٍ، مستجمعاً كلّ ما أوتيتُ من قوة صوت، وهالة وسطوة، فأصرخ بهم مهدّداً: «إياكم والفوضى!». فيهدأ الحضور في الصفوف الأولى، ويشرعون في إسكات الآخرين، مستخدمين في ردعهم عصيّا، وعيدان كبريت ضخمة، ودبابيس ذات رؤوس حادّة للغاية، الى أن يتراجع العدد الأكبر منهم خلف كومة النشارة السفلى، مجرجرين قتلاهم وجرحاهم الى بقعة ناشفة نسبياً، ويكتفون بالنظر الفارغ من الاهتمام، وعيونهم مسلوبة الضوء، مطرفة الى الأعلى وكأنها عادت فجأة من أرض سحيقة للغاية، وكأنّ المنظر بات نقطة الإنقاذ والرهبة الوحيدة. وهكذا، كنتُ أتابع كلامي، الذي اعتبره غاية وجودي كخطيب، فأقول: «يا إخواني الصراصير الحديد.. إننا اليوم نعاني أزمة عظيمة، تهون أمامها كلّ مآسينا السابقة واللاحقة.

فقد جعلنا قوم الصراصير البنّية، ذوو الأجنحة الطائرة محرومين من مجالنا الذي لطالما كنا نحقق فيه ذواتنا، نحن الموهوبون للأماكن النظيفة، والطوابق العليا ذات البلاط اللمّاع. نحن المعروفون بتأنّي خطواتنا واستغراقنا في التأمّل، مما يعزوه هؤلاء خطأً الى بطئنا في تصريف حياتنا واتّكالنا على متاع الظّرفاء النّظيفة! لا.لا. يا إخواني الصراصير الحديد، لن ننجرّ الى ما يريده هؤلاء، أو ننقاد الى مخططهم الذي وضعوه مسبقاً لنا. نحن نعرف أن عددنا أقلّ بكثير من أيّ مجموعة صراصير ساكنة في أبعد نقطة، في ضواحي هذه البلاد المعتمة. نعرف أنّ آلافاً منّا سقطوا وهم يبحثون عن المسكن اللائق بأجنحتهم الحديد، الملتمعة في شهري تموز وآب، والقاتمة في أوان الأمطار، قبل أن نصير على يقين في أنّ ما نحمله على ظهورنا هو قدرنا الذي يدفعنا الى أراضٍ جديدة، وأبنية قد لا تخصّ فجواتُها أحداً من هذه الصراصير الخفيفة. إذ طالما تتبّعتْ هذه الصراصير تحركاتنا، واندفعت بسرعتها المعهودة الى احتلال المداخل المؤدّية الى الفجوات والأعشاش، وأخصّها تلك القائمة في خزائن الخشب ودرف الشبابيك الضخمة. ولطالما ترصّدت دخولنا هذه الفجوات متأخرين، فتضع عوائق أمامنا، وتروح تلقي بنُوى البلح وقشور الليمون وقطع الخشب ونثار الزّجاج على أجنحتنا المفلوشة، بشكل أغطية دائرية لدوى الحبر، فتثقل أجنحتنا، فلا نعود قادرين على التراجع ولا على الدخول الى أي من هذه الفجوات. وهذا ما كان يودي بالكثيرين منّا، ويورث الباقين منّا مرض الكبد، هذا المرض الذي لا يصيب إلاّ ذوي الهمم الكبيرة..». فتتعالى الهتافات من الجموع المحتشدة: «لتسقط الهموم الكبيرة، الكبيرة. ليسقط..». وعندما يهدأ السامعون ثانية، أروح أرفع خرقة ملوّنة بالزهري والرمادي من تلك الأعلام الخاصة بفرقة الصراصير التي استطاعت أن تبلغ أعلى ذروة لها، في أبنية المدن، منذ أن أُنشئت، أي قبل مئات السنوات. فتصدر، عندئذ، أنّاتٌ متلاحقة، وعويلٌ غريب عن طبيعة الصراصير ذوي الأجنحة الحديد الرصينة، في الغالب. ذلك أنّ عناصر هذه الفرقة القلائل، لما بلغوا الذّروة المذكورة، الكائنة في أعلى بناء في الوسط المطلّ على المدينة المشعّة، وأطالوا النّظر في الأمداء الشاسعة المفتوحة أمامهم، أدركهم الخوف، وتسلّط على رؤوسهم الملتصقة بجسومهم نوعٌ من الغبطة والاحتجاج المرّ، في آن معاً. إذ لم يكن بوسعهم أن يخمّنوا مقدار الاتّساع بينهم وبين أضواء الشارع، وبينهم وبين أضواء النجوم التي ظهرت طاغية في قربها. ورغم أنهم شعروا بالاعتزاز يغمر نفوسهم – حتى لم يتوانوا عن الرفرفة البطيئة بأجنحتهم الحديد – لكونهم من الرعيل الأوّل من نوع الصراصير الذين تغلّبوا على صعاب المنافسة، والفتك بهم، والموت مرضاً، والتّيه في شعاب مبنيّة خصّيصاً لهذا الغرض. ورغم ذلك جعلوا يتساءلون عن السبب الأول الذي اندفعوا من أجله إلى أعلى ذروة في المدينة. وكان هذا مقتلهم.

إذ بادر حامل العلم الأحمر والرمادي، ذاته، الى رمي نفسه من الأعلى، ضامّاً جناحيه على جسمه، وموفّراً بذلك السقوط الخالص، الموتَ الأكيد. وهكذا، لحق به كلّ العناصر الذين اعتبر بعضهم، في البدء، عمل حامل العلم وكأنه محض دعابة، تنمّ عن امتلائه غروراً وغبطة. إلا أنهم سرعان ما أدركوا صحّة موقفه حين ثبت لهم وضع الغرابة المطلقة بين انتصارهم العظيم على جماعة الصراصير ذوي الأجنحة البنّية، وبين كبر هذه الأبنية، ولا نهائية هذا الأفق المحبِط لبعده وانقطاع الأنفاس دونه. والحقيقة أنّ شيئاً كان يفوق التقدير ما جعل هؤلاء الصراصير المتسلّقين الأوائل ينتحرون بهذه اللامبالاة والابتسامة تعلو فكوكهم العليا. ربما كان التعب المفاجئ. وربما كان شعورهم بأنهم سوف يكفّون عن كونهم قريبين من أنسبائهم وأصدقائهم وزوجاتهم وأبنائهم، لأنهم خاضوا مسافات مهلكة. المسافة يمكن أن تميت. ألا ترى ذلك؟ والغريب في الأمر أنّ قهقهات راحت تتعالى من رؤوس الأبنية، من حيث هوى صراصير الحديد، وسقطوا صرعى. وكأنّ هذه الأخيرة ما كان يسكنها إلّا ذوو الأجنحة البنّية الخفاف. إذن، كنتُ كلّما ذكرتُ لهم أحداً من هؤلاء المنتحرين، أو ألوّح بالعلم الزهريّ والرمادي، فألبث هكذا منتظراً انفجاراً صوتياً من أولئك الملوّحين به بما يعتبرونه احتفالاً سنوياً لهم، ولا أسمع صدى لكلامي. لا صدى. فقط تلويح وأصوات وضجيج عميق وهتافات غير مفهومة. أروح أقول للجموع إنّ هذا النوع من الانتحار لا يؤدّي الى نتيجة، بدليل أنّ أعداد الصراصير الحديد صارت أقلّ فأقلّ، حتى اتّسعت بهم الاوكار والفجوات، بحيث يكاد يوجد ثلاثة أو أربعة في كل منها. ولكي أجعلهم يتحسسون خطورة منحى الانتحار على تطوّر نوع الصراصير الحديد نفسه، استضفتُ صرصورة بيضاء. أي نعم، بيضاء بالكامل، إلا ما يظهر من أظلافها الموشّحة بالسواد، وعينيها وشاربيها الطويلين، وآمر لها بعصا خشبية تتكئ عليها لتمشي.

فهذه كانت عجوزاً بل أصابها العجز باكراً لفرط ما تنقّلت بين المنابر والساحات الجوفية، وراحت تروي أفضال الزمن القديم الذي كانت فيه كلّ جدائلها بيضاء، وكانت تقول: «لن أسمّيكم أبنائي، في البدء، لا لأنني لستُ فعلاً في منزلة والدتكم، ولا لكوني أكره استعطافكم. إنما لأني تعلّمتُ، على مدى السنين الطوال، أن أميّز كلّ تصرّف، وأقيس ردود الفعل منه قياساً دقيقاً. غير أنّ هذا ما كان يتمّ من دون ألم. ومع ذلك كنتُ، أنا المصابة بشلل في قائمتي اليمنى، أسجّل كلّ ما يقوم به أبناء جنسي البيض – وهم قلّة قليلة – من خدمات الى ذوي الحاجة والمصابين بأمراض لا شفاء منها. أما المنتحرون فلا يُحسبون في سجلاتنا، ولا نقبل أن نقدّم خدمات لعائلاتهم. ولما كنتُ امرأة أحد الصراصير البيض، وهو مغنٍّ في أحد المخابئ العصية على الأعداء لا، لا تظنّوا أنني فُتنتُ بمصيره، ولا بمواهبه. كان تمّ ذلك بالصدفة القاسية، تلك التي حكمت حياة كلّ من هو أبيض. ورغم إصرار البقيّة على إعلاء اللون الأبيض، لون أطرافنا وأعلامنا، وحتى أوقات فراغنا. إذاً، لما كنتُ امرأة أحد الصراصير البيض فقد كان عليّ أن أسعى، فجرَ أوّل كلّ شهر، مع مئات الزوجات الأخريات، الى جمع الغذاء الضروري لقلوب أزواجنا من أعلى قمة جبل قريب.

وأذكر كيف كنا نتسلّق، وهدةً إثر وهدة، وصخرة بعد صخرة، بعد أن نكون قد اجتزنا المستنقعات حول المدينة. آه، كان يحملنا على ذلك حماس خالص، لكوننا لم نتخلّف يوماً عن إرسال الكلام الرطب والناعم لذلك الجبل الأشد بياضاً من الجبال كلّها، أشبه بما كنّا نبثّ صغارنا، وأحفادنا، قبل النوم. وكنّا على يقين بأنّ الجبل المخاطَب هذا كان أنبل الجبال، وأعلاها، ولم نقصد الى معرفة جبال أخرى غيره. الشمس التي اختفت من مجرّتنا، وكُوانا المستدقّة ها هي تصعد من الجبل الأشدّ بياضا، وتلتمع التماعاً هائلاً من أعلاه، وكأنها اتّخذته عرشاً فاقد الوزن، مفرّغاً لها وحدَها، ومصنوعاً من مادّة الدفء وحدَها. كنّا نسير ثلاثَ ليال ونهارات على التوالي، حاملات معنا، اثنتين اثنتين، خيوطاً مشبعة بالشمع وثقيلةً وأسلاكًا من حديد مرسوم على خواتمها في الطرفين صورة القمر وكواكب أخرى وشكل أعظَم منامة في محيطنا السابق، لئلا نغفل عن المسار الذي سلكناه ولا نتوه. ثمّ اعتدنا، فيما بعد، لمزيد من الحيطة، أن تجرح كلّ منا باطن قائمتنا الخلفية، من أول الموكب الصرصوري الأبيض، المتقدّم أفواجاً أفواجاً، فنحدث بذلك خطاً من الدم متناهياً بتناهي الموكب، يكون علاقة له تعصمه عن الضلال. إذ تروح تصدر عن شكل الدم هذا، رائحة حادة ولذيذة في آن، هي خليط من طعم الملح الصخري ونثار الموز والجوز الهندي، ونكهة الخشب الصنوبري.

وربما يطيب لك أن تسألني الآن عما كنا نفعله فوق قمة ذلك الجبل. في الحقيقة، ورغم كلّ ما أشيع حولنا، كنا نلبث بلا حراك، نصف مدة وجودنا فوق تلك القمة، فاتحات أجنحتنا البيضاء على مداها، حتى نغدو جزءاً من تلك الكتلة البيضاء الهائلة، مطلقات ذلك النغم الذي نعرفه، وراجيات أن يحملنا الجبل الأبيض اليه بجاذبه الباطني كي نرقد في سلامه وأبيضه الغامر. أما المدة المتبقية فكنا نقضيها ساعيات في إثر الفطر غذاء قلوب أزواجنا المتعبين. ولكن اليوم… كما ترون، ها أنا أمامكم آخر من بقي من السلالة البيضاء. بالحقيقة، هناك أمر في غاية الأهمية، بل يفوق بأهميته ما عداه. الإصغاء. إذ حالما شرعت جموعنا البيضاء تتخلّى عن سمعها، وتولي أهمية كبيرة لحسّها الماثل في قوائمها، وقعت فريسة سهلة لأعدائها من حولها. أما أنتم …». وأدركها بغتة التعب، فأحجمت عن الكلام، واستدارت على عقبيها مستعينة بالعصا.

اليومَ، وبعد أن أيقنتُ أنّ جموع الصراصير الحديد، قومي وأقاربي، لن تأخذ على محمل من الجدّ موعظة هذه العجوز، وأنها سوف تتابع الانتحار بطريقتها العجيبة التي تروق لنزوعها الذي فُطرت عليه، باتَ لزاماً أن أخرج الآن، بهيئتي الحاضرة، وهندامي العكش، وبمكبّر الصوت الوحيد الذي احتفظت به زمن امتهاني الكلام العالي. ينبغي أن أقفز، أنا الصرصور الحديد الناجي قبل أوان النجاة، أو على الأقل، يجب أن أجتاز الباحة التي تفصلني عن الطريق. ها أنا أجتاز الباحة بخطوات بطيئة، ومكبّر الصوت يتدلّى تحت جسمي بخيط من حديد. ثمّ أن أراك، أيها الماردُ القائمُ أمامي، خلالك تنبسط البلاد فسيحة، كأنها جبل أسمر، على الطريق حيث أسير وعلى الشاطئ حيث أتوجّه.

أيها المارد، في يدك حقيبة، وقدمك ثابتة في التراب. فماذا تفعل بي، أنا الواصل الى نهاية نسلي؟
_________

*كلمات

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *