*محمود الزيباوي
في ذكرى ميلاد نجاة الصغيرة، جال مراسلو “الوفد” في شوارع القاهرة، وطلبوا من بعض المارة ذكر أغنياتها العالقة في أذهانهم. واستعادت قنوات تلفزيونية عدداً من تسجيلات الفنانة المصورة. في هذه المناسبة، نعود اليوم إلى بدايات “قيثارة الغناء العربي”، ونستكشف لقاءها الأوّل مع الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي رعاها وقدّم لها أجمل أغانيها.
ولدت نجاة في 11 شباط 1936 في منزل متواضع في حي عابدين. والدها محمد حسني، الخطاط القدير الذي سافر من الشام إلى مصر في نهاية العام 1912 حيث برع في مهنته، وأمها سيدة مصرية انفصلت عن زوجها العام 1939. لها العديد من الإخوة، أشهرهم عز الدين الذي دخل معهد الموسيقى العربية وتعلّم العزف على الكمان، ثم تولّى تعليم أشقائه العزف على الآلات الموسيقية، وألّف معهم تختاً صغيراً ضمّ أخته سميرة على العود، وأخاه فاروق على القانون.عشقت نجاة الغناء منذ طفولتها المبكرة، وألحّت كي تغني مع أخوتها، وعندما سمعها عز الدين وهي “تصاحب” أم كلثوم في الغناء يوم حضرت مع عائلتها حفلة من حفلاتها في حديقة الأزبكية، لاحظ أنها لا تشذّ عن اللحن، فآمن بموهبتها، واتخذها مطربة لتخته الصغير، وبدأ باصطحابها إلى معهد الموسيقى. في خريف 1942، أحيا “تخت المطربة الصغيرة نجاة” حفلاَ بُثّ على الأثير، ونشرت مجلة “الإثنين” بهذه المناسبة تحقيقا مصوّرا عنوانه “خليفة أم كلثوم طفلة في الخامسة تذيع في محطة الإذاعة”، وجاء في هذا التحقيق: “وقف المذيع وأعلن عن تخت المطربة الصغيرة نجاة، وبدأ كل متفرّج يتحدّث مع جاره أو يشغل سيجارته ليقتل الوقت الذي سيضيعه في الاستماع إلى الطفلة الصغيرة. ووقفت الطفلة على كرسي من الخيزران، وأمسكت منديلا وراحت تحرّكه بحركة عصبية كما تفعل أم كلثوم. وضحك ثلاثة أو أربعة من المتفرّجين الذين لم يصرفهم الحديث عن النظر إلى المسرح. ثم بدأت فرقة الأطفال تعزف، وراحت الطفلة تتمايل مع نغمات الموسيقى، ثم فتحت فمها وقالت: غنّي يا كروان. وهنا استدارت الأعناق، وتوقّف صياح المتفرّجين، وبطل همسهم، وبدأ الكثيرون يطفئون سجائرهم خشية أن يعطّل دخانها سرعة وصول صوت المطربة الحنون. كانت الطفلة تغني على الواحدة وتتمايل مع النغمة وتهتزّ، فيهتزّ معها ألف متفرّج ومتفرّجة. وانتهت الأغنية، ففقد الجمهور صوابه، وراح يصيح ويهتف. وقفت الطفلة في دهشة وعجب، وراحت تتساءل عن سر تصفيق الجماهير، فلما قيل لها: انهم يصفّقون لك، راحت تصفّق مع المصفّقين”.
بحسب مجلة “الإثنين”، كانت نجاة يومها في الخامسة من العمر، “فاحمة الشعر، سوداء العينين، ليس فيها أثر واحد من آثار الجمال، لكنها خفيفة الدم، سريعة الخاطر، تتمتّع بشخصية جذابة، رغم أنها قد تركت المهد منذ بضع سنين”. بثّت الإذاعة الحفل عند منتصف الليل، “وفي صباح اليوم التالي راحت تليفونات المحطة تدق، وإذا بآلاف المستمعين والمستمعات يسألون عن شخصية الطفلة نجاة”. واصلت “خليفة أم كلثوم” مسيرتها، وتبنّاها متعهّد الحفلات الشهير صدّيق أحمد، وقدّمها في حفلات الموسم الصيفي لفرقة “كواكب السينما والمسرح” في الإسكندرية. في آب-أغسطس 1946، كتبت مجلة “الصباح”: “علاوة على العناصر الممتازة التي تعمل في فرقة كواكب السينما والمسرح بمسرح فؤاد بالإسكندرية، فقد قدّمت بعد أسبوع من افتتاحها بلبلة جديدة سوف يكون لها شأنها في عالم الغناء هي نجاة الصغيرة التي ظهرت على المسرح بصوت ساحر أطربت به الجماهير كشهيرات المطربات، وقد حازت الاعجاب من الجميع، ولا يختلف اثنان فيما قد سيكون لها من مستقبل باهر”. شكّلت هذه الحفلات بداية لانطلاقة نجاة الصغيرة في عالم الفن، وتبعتها حفلات أخرى ساهمت في صنع شهرتها قبل أن تبلغ العاشرة من العمر.
في العديد من الحوارات، قال محمد عبد الوهاب انه استمع لنجاة والتقى بها لأول مرة في هذه الحقبة غير أنه لم يحدّد تاريخ هذا اللقاء الأول. في كتابها الذي صدر مؤخرا عن دار “الكرمة” في القاهرة تحت عنوان “نجاة الصغيرة”، نشرت رحاب خالد صورة تجمع بين الموسيقار الكبير والمطربة الطفلة، وقالت أن عبد الوهاب استمع لها في “أوبرج الأهرام” يوم الأحد 22 مايو 1949، وراح يتمتم: “والله بنت كويسة”. “وكان إلى جواره عبد الحميد الحق بك، وزير التموين، فسأله: يعني لها مستقبل في المغنى؟ فأجابه عبد الوهاب: يمكن يكون لها مستقبل”. قبلها، في حزيران-يونيو 1989، نشر شفيق نعمة تحقيقا بعنوان “أنا عرّفت نجاة على عبد الوهاب”، وفيه قال أن الملحن فريد غصن اصطحب نجاة إلى لبنان في حزيران-يونيو 1947، وقدّمها في كازينو جديد افتُتح في بحمدون حمل اسم “ميرامار”. أدّت نجاة في الليلة الأولى قصيدة “سلوا قلبي”، فأدهشت الجميع. وفي اليوم التالي، وصل عبد الوهاب إلى لبنان، فاصطحبه جان بيضا لسماع نجاة، وعندما انتهت من وصلتها، طلب الموسيقار منها أن تحضر إلى مائدته، وقدّم لها تهانيه، “وشجّعها بقبلة إعجاب”. وعاد ليستمع إليها في “ميرامار” بعد أن سمح لها بأن تنشد أغنيته “الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها”. تتقاطع هذه الرواية مع ما نقلته “الصباح” في آب-أغسطس 1947. بحسب المجلة، مع حلول الصيف، وانتعاش حركة الأصطياف، “أخذ الضيوف من مختلف الأقطار يتوافدون لزيارة لبنان، وأول قادم كان الأستاذ عبد الوهاب” الذي حضر الموسيقار افتتاح صالة “ميرامار” في بحمدون، واستمع إلى نجاة الصغيرة مع فرقة فريد غصن، وأُعجب بها، “فدعاها إلى جانبه وقبّلها وقال: سيكون لهذه المعجزة شأن كبير في عالم الفن، والله يحرسها”.
استمع عبد الوهاب إلى نجاة في بحمدون في صيف 1947، واجتمع بها هناك، غير أن هذا اللقاء لم يكن الأوّل بينهما. غنت نجاة مع “فرقة الكواكب والمسرح” في صيف 1946، وكتبت “الصباح” يومها: “علاوة على العناصر الممتازة التي تعمل في فرقة كواكب السينما والمسرح في مسرح فؤاد في الإسكندرية، فقد قدّمت بعد أسبوع من افتتاحها بلبلة جديدة سوف يكون لها شأنها في عالم الغناء هي نجاة الصغيرة التي ظهرت على المسرح بصوت ساحر أطربت به الجماهير كشهيرات المطربات”. استمع فكري أباظة بك نقيب الصحفيين إلى نجاة، ورأى “انها كويسة جدا”، وقال إنه “سيطالب الحكومة بالاستيلاء عليها فورا، إذ ما دام عندها هذا الصوت مع قدرتها على الأداء الفني الكامل، فيجب الاستيلاء عليها حتى يستفيد الفن منها عندما تكبر، ما دامت هي الآن لا تزيد في العمر عن ثمانية أعوام”. وأصغى محمد عبد الوهاب إلى نجاة وهي تغني “سلوا قلبي” ثم “غني لي شوي شوي”، “فكان يقاطعها بالتصفيق، ولما انتهت من الغناء جلست إلى جانبه حتى نهاية البرنامج، وهو يشجعها بكلمات العطف والتقدير”.
في الخلاصة، أصغى عبد الوهاب إلى نجاة أكثر من مرة بين 1946 و1949، وأبدى إعجابه بها، وأهداها في عام 1954 “كل ده كان ليه” قبل أن يعود ويسجّلها بصوته. وبعد أربع سنوات، قدم لها “أما غريبة” و”آه بحبه”، ثم تبناها في الستينات، ووهبها باقة كبيرة من الأغاني، أوّلها “أيظن” في 1960، وآخرها “أسألك الرحيلا” في 1991.