*علي السوداني
كان النداءُ واضحاً نقيّاً حاسماً سائراً صوب مهواهُ، لا يرتضي القسمة على خمسة. شابّان قويّان طويلان معضّلان منظرهما يوحي بأنهما من سبايا الربيع العربيّ المجنون. بضاعة غريبة تدور الظهرية الساخنة على أزقة الحارة. ينادون عليها ويدوزنونها وينوّطونها بصوت يأتيك بالتتابع المريح: مشمّع مبطّن للسُفرة مترين بليرة.
سيعود بك هذا النداء الرحيم صوب أغنية عذبة دافئة، حيث نجاة الصغيرة تشيل أطواق الياسمين وأمين الهنيدي يموسق المشهد بأكورديون وهميّ جائل و”دوّارين في الشوارع، دوّارين في الحارات، يا شبّاكهم يلّلي ضايع من عينيَّ، سلامات سلامات والله والله سلامات”. كان هذا قد وقع في شريط اسمه “سبعة أيام في الجنة” الذي ربما شاهدته عشر مرات من على شاشة سينما النصر ببغداد العباسية الجميلة، قبل أربعين سنة.
على طول وعرض طقطوقة نجاة وقردية الهنيدي الحميمة، كان ثمة زبائن كرماء وكان أكرمهم عند وشالة الأغنية، هو الزعيم الطيب عادل إمام الذي ابتاع منهما كلّ شدّات الياسمين. في مفتتح الصياح الملحون، لم يكن ثمة زبائن تردّ على غناء الشابّين القويين ولا حسن يوسف حتى.
كانت البضاعة رخيصة، وتحتاجها نسوان المطابخ المغدورات لفرشها فوق موائد الزاد والملح، وبما أنني أُفتّش عن القهر حتى لو كان طامساً تحت سور الصين العظيم، فلقد هبطتُ من مرقبي هبوط نازلٍ إذا نزل، وفوق يميني طاسة ماء بارد زلال، صوب الشابّين الحلوين. حيّيتهما بقوة فردّا عليَّ بأجمل منها وقد تطافرتْ منها حروفٌ شاميّة محبّبة ممطوطة، كما لو أنني أنصتُ إليها اللحظة وهي دائرة فوق لسان غوّار الطوشة أو ياسين بقّوش أو خالي أبو رياح.
وبرزق هاطل من الربّ الكريم، وبدفعة ضخمة من قانون المصادفة وخرافة أنَّ كل تأخيرة فيها خيرة، وبانفناء فصل الريبة النائمة بأعباب الناس من غرابة النداء، نزلتْ جارتنا اللطيفة أم مشية البطة فاشترتْ أربعة أمتارٍ من النايلون الكحلي، واشتريتُ أنا مترين من البنّي المحزّز بالبياض المبين.
عدتُ إلى شرفتي متأبطاً شجن النايلون المبطّن، ورجعتْ قبلي الحاجّة البطة الطريفة ذات الأربعة أمتار، وقبل أن أريحَ روحي على مقعد كأس، كان ثمة بيت شعر كاسر، مثل تنغيصة تهدهدني من بعيد وتهدّ حيلي وحيلتي. إنه من خلق أبي الطيب المتنبي العظيم:
بِمَ التّعَلّلُ لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَنُ
______
*العرب