كنت تلقيت منذ أيام، في بريدي الإليكتروني، رسالة جادة من قارئة تقول فيها أنها سمعت بموتي، وتود أن تتأكد، إن كنت قد مت فعلا، أم أن الأمر مجرد إشاعة؟
هذه رسالة طريفة، وتدخل في لحم المفارقات السحرية، التي أستمتع بها وأوظفها في كتابتي، وأقول دائما أننا نتخيل ونمعن في التخيل، وتأتي مواقف من الواقع لتدحر خيالنا، وتتفوق عليه. فالمرسلة التي تسأل شخصا عن خبر فيه احتمال وفاة ذلك الشخص، قطعا تعتمد على الرد من عدمه. أي إن رد المرسل إليه فهو حي إذن، وإن لم يرد، فربما مات فعلا، ولم تضع احتمال أن لا يقرأ المرسل إليه رسالتها، أو يقرأها ولا يرد، كما يحدث في أحيان كثيرة، أن يهمل الكاتب رسائل ترد إليه بسبب انشغاله، أو خوفه من التورط في وعود لن يقدر عليها، مثل أن يكتب مقدمة كتاب لأحد، أو يساعد في نشر أو ترجمة لواحد يطلب ذلك.
منذ أعوام وبالتحديد بعد عامين من وفاة الأديب الكبير الطيب صالح، وفي يوم جمعة أمام أحد المساجد في الدوحة، التقيت بشخص في خمسينيات العمر، وكنت أعرفه معرفة سطحية، وغالبا كان من المرضى الذين مروا على عيادتي في وقت ما. صافحني الرجل بمودة شديدة، وسألني عن أخباري، وأخبار كتابتي وهل ما زلت أعالج الناس في ذلك المركز الطبي الذي يعرفه، أم انتقلت لمركز آخر؟ ثم فجأة سألني:
– ما هي أخبار الأستاذ الطيب؟ هل سيزوركم قريبا في الدوحة؟ رجاء إن زاركم، هذا رقم هاتفي، اخبرني حتى آتي وأسلم عليه.
كانت لحظة دهشة كبيرة مني، فالطيب الذي مات منذ عامين، لم يكن ميتا عاديا، تمت مواراته في قبر وانتهى الأمر، ولكن موته كان حدثا كبيرا، تمت تغطيته بكافة الطرق والوسائل التي يمكن أن يغطى بها خبر. لقد عزى فيه الملوك والرؤساء وجاءتنا الوفود من الخارج، لتحيط بمقبرة البكري، العتيقة بأمدرمان، وتشارك في مراسم الدفن، وامتلأ السرادق المقام أمام بيت أخيه بمئات بل آلاف، هكذا. قلت للرجل ألا تعرف أن الطيب قد توفي؟
رد بانزعاج: لا والله.
ثم رفع يديه، مدّهما في وضع قراءة الفاتحة، وتمتم بعدها: عظم الله أجركم، متى توفي؟
كان الرجل في عزلة اختيارية كما علمت بعد ذلك، من بيته إلى عمله، إلى المسجد، كما قال، لا يسمع الراديو، ولا يملك جهاز تلفزيون في البيت، وحتى أهل بيته، غير مهتمين بما يقدم في ذلك الجهاز السحري، ولعلهم كانوا مجبرين بسبب رغباته، بوصفه رب البيت. الرجل اعتذر، واكتشفت وبعد أن صنفته شخصية روائية، أنه لا يعرف أشياء كثيرة، حدثت منذ سنوات، ويعرفها حتى الرضع والأجنة، انقلابات، فيضانات، أعاصير، ثورات، هكذا. ومن الممكن جدا أن يكون شب حريق عند جاره، ولا يعرفه، أو انهار البيت الذي يواجه بيته، ولم يعرف بذلك أيضا.
هذه الشخصية بالقطع مهمة، وجاهزة لتُكتب ولو قيل للخيال تعال بواحدة تشبهها، لما استطاع بسهولة، وقد أخبرته بذلك الرأي، بعد أن التقيته بعد ذلك بعامين، فلم يكن يرد على الهاتف الذي أْعطاني إياه، وكان هاتف بيته.
حين كنت طالبا في المرحلة الثانوية بمدينة بورتسودان، كنت في مرحلة عشق الشعر، والمداومة على كتابته، وكنت أكتب الأغنيات العاطفية، أتباهى بها أمام الطلاب والمدرسين، وأحيانا أقرأها في حفلات الأعراس التي تقام في الشوارع، حلبا للإعجاب، وقد كنت أغشى دارا للأدباء والفنانين، فيها شعراء آخرون، يكتبون الأغنية أيضا، ومغنون يرددونها، وكان ذلك الدار قريبا من المدرسة، والبيت وأستطيع المرور عليه في أي وقت. داخل مبنى ذلك النادي تعرفت إلى شخص اسمه اسماعيل، أو لعله مرتضى، لم أعد أذكر بالتحديد. هذا الشاب لم يكن شاعرا ولا مغنيا ولا عازف طبل أو أي آلة. كان يأتي بصفة دائمة، يصفق لبروفات الغناء التي تجرى في حوش المبنى، ويحضر الأمسيات الشعرية، وأحيانا يردد قصائد بعينها، يكون قد التقطها، من داخل لحن منساب، أو من صاحبها شخصيا، وكانت قصائدي تتردد أحيانا على لسانه وأحس بالنشوة. في أحد الأيام طلب مني اسماعيل، أو مرتضى، أن أرافقه لبيت خطيبته، لأمر عاجل، لا يحتمل التأخير، سألته عن ذلك الأمر، فرد بأنني سأعرفه، وهكذا رافقته ومعنا صديق آخر، كان زميلا لي في المدرسة، ويتمرن على عزف الكمنجة.
ركبنا باصا مكتظا بالناس والروائح العطنة، وفيه مدخنون يوقدون السجائر، ونساء يتعذبن في وقفة الزحام، وقادنا إلى حي طرفي بعيد، نزلنا منه، وركبنا باصا آخر، أكثر تعقيدا وبطئا وقادنا إلى منطقة شبه عشوائية، لم أكن رأيتها من قبل، ولا اعتقدت بوجودها في مدينة تدعي أنها ميناء، وأنها قبلة للسياحة، وأنها أنظف المدن. نزلنا في محطة مزدحمة في الحي ذلك، ومشينا مسافة وسط بيوت الطين والصفيح، وبعض البيوت المبنية من الطوب الأحمر، ووقفنا أمام باب، عليه لافتة تحمل اسم صاحبه، طرق الرجل الباب وفتح صبي صغير، قال له: أين أختك سكينة؟
رد الولد: بالداخل.
قل لها أن تأتي.
وجاءت سكينة، كانت فتاة مزعجة تفاصيل الوجه، توجد كثير من الأكياس الدهنية على وجهها ومن الواضح أنها مصابة برمد دائم، لأن عينيها كانتا تدمعان وكانتا صغيرتين وحمراوين. لم تحي أحدا، ووقفت، وقال اسماعيل ساعتها، يخاطبني:
ـ أنت شاعر أغنيات عظيم، وكتبت قصائد جميلة استوحيتها من الجمال. هذه القردة، خطيبتي، تدعي أنها توحي بالشعر للشعراء، قل لي فقط، هل هذه فتاة يستوحي منها شاعر؟
كان من المواقف الساخرة بالنسبة لي، المواقف السحرية أيضا.
أن تأتي بشاعر أغنية إلى هذا المكان، لتسيء به إلى خطيبتك، شيء قد يضحك وقد يبكي لدي، ولكنه قطعا يبكي الفتاة، فلا امرأة مهما بلغ ابتعادها عن الجمال، تحس بأنها بعيدة عنه. لقد صادقت ذلك الشاب فترة، واستمعت منه إلى تفاصيل كثيرة مدهشة عن حياة العشوائيات، والمناطق الممعنة في الشعبية، ثم لأغادر المدينة، ولا أصادفه مرة أخرى قط.
ما قصدته من هذه المواقف، هو أن خيال الكتابة برغم تهيجه عند البعض وأنا منهم، يقف متفرجا أحيانا، حين يصنع له الواقع صورا لا تكاد تكونت فيه. نحن نكتب بخيالنا كله، نفعله بشدة، ونود دائما أن نكتب ما نريده بلا واقعية مريرة، ولا تفاصيل يومية مزعجة، ربما لا تضيف جديدا، ويوجد فتاة تسأل شخصا إن كان ميتا أم حيا؟ رجل في قلب الحياة ولا يتابعها، وخطيب فتاة يود أن يتزوجها، ويبذل جهدا خارقا، ليريها دمامتها.
إنها الحياة الواسعة المليئة بكل شيء.