ويليام وردزورث.. التحليق في الخيال


*نصر عبدالرحمن


هو إحدى العلامات البارزة في تاريخ الشعر الإنساني، وأحد مؤسسي الحركة الرومانسية في الشعر الإنجليزي في نهاية القرن الثامن عشر. كان صاحب رؤية تقدمية جعلته يتمرد على تراث الشعر الكلاسيكي، وأحدثت ثورة حقيقية في الشعر على مستوى الشكل والمضمون، فتحت آفاقًا أكثر رحابة أمام الشعراء في التعبير الصادق عن الإنسان. لم تكن مهمته سهلة في البداية، وعانى طويلًا تجاهل القراء وقسوة النقاد قبل أن يحصل على اعتراف الجميع ويصبح أميراً لشعراء انجلترا لمدة سبع سنوات قبل وفاته، وتصبح أعماله مصدر إلهام قوي للأجيال التالية.
ولد ويليام وردزورث عام 1770 في كامبرلاند، وهي منطقة تقع شمالي انجلترا، وتطل على بحيرة «ديستركت» الشهيرة بجمالها التي أصبحت بفضل قصائده مقصداً لشعراء الحركة الرومانسية لدرجة أنهم عرفوا بعد ذلك باسم شعراء البحيرة. كان والده ممثلاً قانونياً لأحد اللوردات، ما أتاح له حياة مريحة وبعض الثقافة رغم أنه يعيش في قرية صغيرة، كما حرص على توفير الكتب لأولاده وحثهم على القراءة وحفظ أشعار جون ميلتون، وشكسبير، وإيدموند سبنسر، لذلك أصبحت دورثي شقيقة وردزورث شاعرة هي الأخرى. علمته والدته القراءة والكتابة قبل التحاقه بمدرسة صغيرة في القرية، وبعدها التحق بمدرسة لأبناء العائلات الثرية. ماتت أمه وهو في الثامنة من عمره، فأرسله والده إلى مدرسة داخلية في مدينة لانكشير، وهناك بدأ خطواته الأولى في كتابة الشعر.
نشر وردزورث قصيدته الأولى وهو في السابعة عشرة من عمره في مجلة تدعى «المجلة الأوروبية»، والتحق في نفس العام بكلية سانت جورج في كامبريدج. كان مغرماً بالطبيعة منذ طفولته، وحرص على زيارة الأماكن التي تشتهر بجمالها سيرًا على الأقدام في العطلات، لذلك احتشدت قصائده بأسماء الزهور والنباتات، واعتمد عليها في تكوين استعاراته ومجازاته. وأصبح هذا الهوس بالطبيعة أحد الملامح الرئيسية للحركة الرومانسية، واتخذت من مقولة «تعلم من الطبيعة» شعارًا لها. وفي عام 1790، قرر الذهاب في جولة سيرًا على الأقدام في أوروبا، وزار إيطاليا وسويسرا وفرنسا، التي مكث بها بعض الوقت، وتركها مضطرًا بسبب صعوبات مالية، إضافة إلى توتر العلاقات بين إنجلترا وفرنسا. كان تأثير هذه الزيارة كبيرًا على تشكيل رؤيته للعالم وللشعر، والتقى عدداً من أقطاب الحركة الثورية التي مهدت لقيام الثورة الفرنسية، وتعرف على أفكارهم بشأن الحرية والإخاء والمساواة بين البشر؛ ولقد تشبعت قصائده وقصائد شعراء الحركة بهذه الأفكار.
عاد وردزورث إلى انجلترا مرة أخرى، وسرعان ما أصدر ديوانه الأول «نزهة مسائية ورسوم تخطيطية وصفية» عام 1793؛ الذي لم يهتم به أحد. أصابه إحباط نتيجة فشل ديوانه الأول، واستمرار الصعوبات المالية التي تواجهه، لكنه حصل على ميراث عام 1795، فتمكن من التفرغ لمواصلة كتابة الشعر. وفي نفس العام، التقى الشاعر الكبير صامويل تيلور كولردج، الذي يرى كثير من النقاد أن وردزورث تأثر بأفكاره إلى حد كبير. اشتركا معاً في كتابة ديوان «الأناشيد الغنائية» عام 1798؛ الذي يعد بمثابة نقطة انطلاق نحو تشكيل الحركة الرومانسية. وفي مقدمة الطبعة الثالثة للديوان، وضع وردزورث تصوراته للشعر الجديد الذي يتخذ من الطبيعة معلمًا، ويستخدم لغة الإنسان العادي، ويحاول التحرر بعض الشيء من قيود الوزن والقافية، ومن القاموس الشعري لشعراء القرنين السابع عشر والثامن عشر، كما وضع تعريفه الشهير للشعر باعتبار أنه: «تدفق تلقائي لمشاعر جياشة، مصدرها الأحاسيس، يستجمعها الشاعر بعد ذلك في لحظات الاسترخاء». كان هذا التعريف ضربة قوية لمنطق الشعر الكلاسيكي، الذي تغلب عليه الصنعة، ويفتقر إلى الخيال.
تحولت رؤية وردزورث إلى ميثاق للحركة الجديدة التي اعتمدت على الأحاسيس المختلفة التي تتولد نتيجة التجارب الصادقة في كتابة القصيدة؛ خاصة مشاعر الخوف والهلع، وليس الحب فقط كما يتصور البعض، فقد كانت كلمة رومانسية تستخدم في القرن الثامن عشر لوصف جمال الطبيعة، وليس العلاقة العاطفية كما هو الحال في الوقت الراهن، وكان أول من استخدمها هو الألماني فريدريك شيجل عام 1800 في كتابه «حوار حول الشعر». أعلت الحركة من قيمة الفرد مقابل المؤسسات، ومن قيمة الطبيعة مقابل المجتمع الصناعي، ومن الخيال مقابل العلم والفلسفة. وبالطبع جاء ظهور الرومانسية كرد فعل على الثورة الصناعية التي طغت على الروح الإنسانية وطمست الخيال.
كان المجتمع الإنجليزي ينظر بارتياب إلى شعراء الحركة الرومانسية في البداية، ويرى في أشعارهم وممارساتهم نوعًا من التحدي للقيم الاجتماعية الراسخة، كما انتفض النقاد لمهاجمة هذا الشكل الجديد الذي لا يلتزم بمعايير الشعر السائدة؛ لذلك استقبلت الأوساط الأدبية دواوين وردزورث الأولى في مطلع القرن التاسع عشر بفتور شديد، إلا أنه واصل الكتابة والدفاع عن رؤيته الجديدة لما يجب أن يكون عليه الشعر. وبعد سنوات طويلة من المثابرة، بدأت قصائده تلفت الانتباه بالتدريج، ورأى فيها كثير من معاصريه القدرة على التعبير عن روح العصر والقلق الإنساني الناجم عن تقلباته الحادة. نشر وردزورث عدة دواوين، إلا أن ديوانه الأساسي؛ «المقدمة»، لم ينشر إلا بعد وفاته؛ وهو عبارة عن قصيدة ضخمة ذات طابع ملحمي، صدرت في أربعة عشر كتاباً يحكي فيها سيرته الذاتية، وفلسفته في الحياة. بدأ كتابة هذه القصيدة عام 1799، كمقدمة لديوان كبير بعنوان «الناسك»، ليعبر فيه عن وجهة نظره في علاقة الإنسان بالطبيعة وبالمجتمع، على غرار قصيدة ميلتون الشهيرة «الفردوس المفقود»، إلا أنه ظل يعمل عليها نحو خمسين عاماً، ورفض نشرها في حياته لما تتضمنه من بعض تفاصيل حياته الشخصية. تسرد القصيدة الرحلات العديدة التي قام بها الشاعر بالفعل إلى أوروبا، لكنها تستخدم في ذات الوقت كتعبير عن رحلة الإنسان في الحياة. تتمثل أهمية هذه القصيدة في أنها محاولة لاستعادة ثقة إنسان العصر الحديث؛ خاصة بعد الإخفاق التام للثورة الفرنسية في تحقيق أهدافها على حد تعبير صامويل كولردج.
تزايد الاهتمام بأعماله منذ عام 1820، والتفت النقاد لقصائده الأولى، ومن ثم حصل على المكانة اللائقة بمنجزه الشعري. وفي عام 1839، حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة دورهام، وحصل على نفس التكريم من جامعة أوكسفورد في العام التالي، كما خصصت له الدولة معاشًا سنويًا قدره ثلاثمائة جنيه إسترليني. تزايد تلاميذه والمعجبون بشعره في تلك الفترة بشكل كبير، وفي عام 1843، تم اختياره أميراً لشعراء انجلترا، كتتويج لجهد طويل ومحاولات حثيثة بحثاً عن طرق جديدة أكثر صدقاً وتعبيراً عن الإنسان، وإضافة حقيقية للتراث الإنساني.
_____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *