*أحمد مغربي
في كتابه الذائع الصيت «موجز لتاريخ الزمان» Brief History of Time، استعاد العالِم البريطاني ستيفن هوكينغ (مولود في العام 1942)، وهو أبرز علماء الفيزياء حاضراً، تجربة مثيرة مع فكرة الناس عن «اللانهائي» Infinity. إذ ناقشته إحدى البريطانيّات، عقب محاضرة له عن «الانفجار الكبير» («بيغ – بانغ» Big Bang)، بأنه يكذب في صدد تشكّل الكون. وأعربت عن اعتقادها بأن هوكينغ «يعرف» جيّداً أن الكرة الأرضية والنجوم، إنما تقف على ظهر سلحفاة ضخمة، وهي تقف بدورها على سطح سلحفاة ضخمة وهكذا دواليك. وعندما سألها عن نهاية السلاحف، تنهّدت قائلة: «لكنك تعلم أن عددها لا نهائي»! أثارت هذه المرأة في بال هوكينغ أفكاراً عن علاقة العلوم ببعض المفاهيم التي تبدو كأنها موجودة كي تريح الأفكار وتسدّ فراغات فيه، أكثر من عنايتها بإعطاء شيء واضح عنه.
ماذا يعني اللانهائي؟ سأل هوكينغ نفسه، بشدّة هذه المرّة، لأنه تذكر أن فكرة اللانهائي مزروعة فعليّاً في قلب الرياضيّات، إضافة إلى وجودها في الفلسفة والفكر الإنساني منذ بداياته. وإذ شغل هوكينغ طويلاً كرسي الرياضيّات في «جامعة كامبريدج» الإنكليزية، وهو الكرسي الذي تربع عليه عالِم الفيزياء الشهير إسحاق نيوتن، يصبح لهذه الفكرة مذاق خاص، بل لاذع.
واشتهر عن هوكينغ مساهماته في بلورة فكرة الـ «بيغ – بانغ» Big Bang التي تقول بأن الكون ابتدأ بانفجار لنقطة «لا نهائيّة» في الكثافة، وبقوة لا نهائيّة، ثم أخذت الطاقة تبرد متحوّلة إلى مادة ومُشكّلة الكون بعناصره كافة. في الوصف السابق، وفق هوكينغ، يستعمل مفهوم الـ «لانهائي» للإشارة ليس إلى شيء لا ينتهي، بل لقول بأنه بالغ الضخامة، وأن حسابه يحتاج أرقاماً ضخمة… لكن لها نهاية فعليّاً. وكذلك أشار إلى أن هناك شيئاً متناهياً تماماً في صورة الـ «بيغ – بانغ»: الزمان. ووفق هوكينغ، الزمان الذي يعرفه عقل البشر هو الذي ابتدأ مع الـ «بيغ – بانغ»، وهو متناهٍ من حيث المبدأ، حتى لو تفاوتت الحسابات العلميّة في شأنه وتغيّرت وتبدّلت.
والآن يميل العلماء إلى تقدير الزمن المنصرم منذ بداية الـ «بيغ – بانغ» إلى اليوم بقرابة 13.6 بليون عام. وفي الكتاب عينه، طرح هوكينغ أن كثراً سألوه عما كان قبل الـ «بيغ – بانغ». وبكل صراحة علميّة، شدّد هوكينغ على أن هذه المسألة ليست علميّة، على الأقل بالنسبة إليه. وأشار إلى أن بلايين الأعوام بعد «الانفجار الكبير» هي ما يمكن النقاش فيه علميّاً، أما ما قبل ذلك، فيدخل في مجال الفلسفة والدين والاعتقاد. ليس من الممكن الدلالة على أزليّة الكون علميّاً، كل ما يمكن قوله أن سنواته المتراكبة فوق بعضها بعضاً، لا تمتد إلى أبعد من 13.6 بليون عام، على الأقل طالما يدور الحديث عن الكون كما تعرفه البشرية حاضراً.
عودة إلى الغزالي وابن رشد
ثمة استطراد عربي ممكن في هذا الشأن، على رغم أن الزمن العربي الحاضر ليس قوي الصلة مع الفلسفات الإنسانية وعقلانياتها وتمرّداتها، ولا مع العلوم وإيقاعاتــها المتسارعة بسرعة الضوء. فبين مدرستي الإمام حامد الغزالي الذي كان فائـــق الإلمام بالفلسفة على عكس كثر من الزاعقين باسمه في دنيا العرب، وفيلسوف قرطبـــة إبن رشد، الذي كان أكثر خضوعاً فــــي التدبّر العقلاني (بسبب شدّة انبهاره وتبعيّته للفيلسوف اليوناني أرسطو) من الغزالي، برزت مسألة الأزل، بمعنى اللانهائي في الزمان. ومن الواضح أنه إذا سرنا مع المدرسة الرشديّة في القول بأن الطرق إلى الحكمة واحدة ولو تعدّدت المــسالك، فسيكون من الملزم أن يتقيّد أتباع ابن رشد بأن تاريخ الزمان للكون ليس لا نهائيّاً، بل إنه محدّد بدقة. ومن المستطاع بالطبع الردّ على تكفير الغزالي لذلك «التناهي» في الزمن عند الفلاسفة، بالقول ببساطة أن الأمر يتعلّق بـ «الأزل» الإنساني، وأن ما يتصل بزمان الخالق هو أمر مختلف كليّاً، لأنه إلهي تماماً.
هناك شيء «لا نهائي» في نظرة العلوم حاضراً إلى الكون، على رغم أنه قلّما يتم نقاشه عربيّاً، يتمثّل بـ «لا نهائية» الكون في… المكان! فعلى رغم أن نظرية آلبرت آينشتاين في النسبيّة «قيّدت» الكون في حدود مُحددة، بل إن آينشتاين وضع لها رقماً محدّداً، إلا أن الوقائع ربما تميل إلى القول بأن ذلك الأمر خطأ جسيم. وفي الأمر إشارة إلى ظاهرة تمدّد الكون وتباعد أطرافه في صورة مستمرة، وهي ظاهرة أثبتها عالِم الفلك الأميركي إدوين هابل في ثلاثينات القرن العشرين. وأقرّ آينشتاين بهذا الأمر بمرارة.
وفي لقاء مع العالِم اللبناني جورج حلو، أوضح أنه يجد صعوبة في الحديث عن ظاهرة توسّع الكون وتمدّده، ببساطة «لأننا لا نعثر على نهاية للكون. وعندما ننظر في أي اتجاه، لا نعثر على نهاية». هل هناك «لا نهائيّة» في المكان في الكون فعليّاً؟ هل يتعلّق أمر تلك الـ «نهائيّة» أيضاً بمحدودية الوسائل التي يمتلكها العلماء حاضراً، في الإحاطة بالمسافات الفائقة الاتساع والرحابة للكون، بمعنى أن تطوّر العلم ربما يوصلهم إلى أنه يملك حدوداً، وأن المكان فيه له نهاية محدّدة، حتى لو كانت تتمدّد؟.
_________
*الحياة