*رضاب فيصل
عن قصة حقيقية حدثت في واحدٍ من المعتقلات السورية، يروي الفيلم الروائي السينمائي القصير “الملك لا يموت؟!”، حكاية مختصرة تجتمع فيها ملامح الموت والحياة داخل غرفتين في قبوٍ مظلم، يمكنك من خلال الصورة أن تشتم رائحة العفن والإفرازات الإنسانية المقززة على جدرانهما، الشيء الذي بات بديهياً في ذاكرة المتلقي السوري الحاضرة الآن.
أشرف على صناعة الفيلم الذي تمّ إنتاجه العام الماضي، المعهد العالي للسينما في مصر، وهو من إخراج يامن المغربي الذي أهداه إلى الشعب السوري وإلى سوريا فقط لا غير.. حيث كتب في الشارة النهائية: “إلى سوريا، لأن اسمها يختصر كل شيء، إلى الجولان السوري نهدي هذا الفيلم”. وهو من تمثيل بسام قطيفان، نور علاء حور، كريستينا شلهوب والطفل جوزيف شلهوب. وقد تمت الإشارة في نهاية العمل، إلى أن الفكرة مستوحاة من قصة المعارض السوري ميشيل كيلو “العصفور” عندما طلب منه أحد المحققين أن يحكي قصة لطفلٍ صغير يمكث مع والدته في زنزانةٍ مجاورة.
يبدأ الفيلم خطواته الأولى مع خطوات السجان الأنيق الذي ينزل إلى القبو، حاملاً معه الضوء ليكشف وجهته نحو زنزانة مهترئة يقبع فيها أحد المثقفين المعتقلين، والذي يتضح فيما بعد، وعبر الحوار القصير، أنه كاتب روائي “لا يشق له غبار”. ويبدو من الغريب ما يحصل داخل الزنزانة، حيث يكمل السجان لعبة “الشطرنج” مع سجينه، التي بدأها مسبقاً قبل يوم أو يومين، لا ندري، ضمن حالة من التحدي تستثير ملامح الاثنين معاً.
هنا لا يمكننا القول عن هذا الحدث إنه غير منطقي أو غير واقعي ولا يحدث أو لم يحدث أبداً، إنما والحق يقال، هو حدث غير متوقع، بالنسبة لنا، كمشاهدين ننتظر المعتاد من شتائم وتعذيب وامتهان، نربط كل ما نشاهده من دراما بما يحدث فعلاً على أرض الواقع.
فما شاهدناه في الفيلم هو رفاهية مطلقة بالنسبة لسجين يعيش في جحيم المعتقلات السورية. لكن وبإرجاع الحدث الدرامي إلى ما قبل الثورة، على اعتبار أنها قصة حقيقية حدثت منذ سنوات، يمكننا تخيّل أن ثمة هدنة حذرة ومؤقتة، تحصل بين السجان والسجين، بفعل مرور الزمن وسط مناخ مستقر نوعاً ما.
يكشف الحوار بين الشخصيتين عن طرفين للنزاع وعن اتفاقيات مشروطة، وفي حين أحدهما أقوى من الآخر، إلا أن الشعور بالخوف يبرز كشعور متبادل، يدفع إلى الحذر وتطبيق العنف كمنهج للتعامل من قبل السجانين. فالمثقف وبعقله المنفتح يهدد السلطة الديكتاتورية، لذا تراها دائماً تتخذ من إقصائه الحل الوحيد، تلقي به في زنزانة عفنة كتلك التي رأيناها في “الملك لا يموت”، وفي معظم الأحيان تكون أسوأ بكثير.
نقطة أخرى، في الحوار تكشف عن قدرة الضابط على النقاش واستخدام المصطلحات “الثقافية” حتى ولو كان يسخر أثناء استخدامها، ما يعني أننا نواجه ظاهرة استثنائية تميزه عن غيره من المحققين، ليس عجيباً أن نشهدها بل من النادر فعلاً.
ويثير انتباهنا في تكوين الشخصيتين، أن الصورة النمطية تسيطر على الشكل الخارجي. فالمثقف بشعرٍ طويل ومن الغريب أنه شاب صغير، والسجان بهيئة كلاسيكية تحيل إلى عقل تقليدي، مع قصة شعر وشكل شارب بما يلائم هذه الهيئة. لكن توجد مشكلة يمكن تقصيها في كل ما قرأناه من مذكرات واقعية لمن كانوا معتقلين يوماً، عند تركيزهم على أن الضباط السجانين في زيارتهم للزنزانات، لا يحملون أسلحتهم خوفاً من أي رد فعل جنوني يقوم به السجناء، الشيء الذي وجدنا نقيضه في الفيلم، حيث كان السجان طيلة الوقت يحمل سلاحه على جانبه.
لم يأخذ مشهد بداية اللقاء بين الكاتب والطفل في الزنزانة الثانية، حقه من الحبكة الدرامية، فبدا وكأنه طبيعي على الرغم من كونه كارثة إنسانية، كان من المفترض الوقوف عندها مطولاً لتصوير مدى فظاعتها. فكيف لطفلٍ أن يولد ويعيش حتى يبلغ من العمر 4 سنوات تقريباً، وهو مسجون مع والدته في غرفة مظلمة، لا يعرف السماء، ولا العصافير؟
لقد كان مشهداً أضعف من الفكرة وأضعفها بدوره، كل شخصياته (الأم، الطفل، المثقف) لم تسهم في إعطائه ما يستحقه من دلالة قوية، تختصر كل عبارات الاستنكار والدهشة، وتختصر منهجاً وحشياً لطالما طُبِّقَ على السوريين. بينما أصبح المشهد أكثر قوةً ودلالةً في نهايته، بعد أن طالب الطفل برؤية السماء، وتوارى المثقف في زنزانته، فاتحاً بابها بيده، من فظاعة ما سمعه من مأساة، وكأنه يريد أن يختنق لوحده.
عنوان الفيلم “الملك لا يموت؟!” ليس جملة خبرية مكتملة بحذ ذاتها، فإشارة الاستفهام وتليها إشارة التعجب، تدفعان إلى الاستنكار وإلى الكثير من التساؤل والتحليل. هي قضية سورية إشكالية، استنزفت حتى اللحظة دماء الآلاف من أبناء البلد، وقد صرّح المخرج عن وجهة نظره تجاهها في المشهد الأخير، عندما صرخ السجان قائلاً: “الملك ما بيموت” فقابلها موت الملك على رقعة الشطرنج بحركة واحدة من يد “المثقف”، لنكتشف أن الملك من الممكن أن يموت، أو لا بد وأن يموت.
سينوغرافيا المكان جذبتنا بصرياً، منحت بدورها العمل، البؤس المطلوب، ومنحتها الكاميرا الفرصة لتشبه اللوحات التشكيلية. فالإضاءة رسمت على “الحيطان” ظلالاً تشبه ما تتركه فرشاة اللون من آثار على اللوحة. ما منح المشهد البصري جمالية تراوحت درجتها بين المشاهد الأولى والأخيرة. إذ لمحنا مفارقات ضوئية ظهرت على الوجوه، بين لقطة وأخرى.
واجه الفيلم بعد عرضه قبل أيام على صفحات التواصل الاجتماعي الفيسبوك، وجهات نظر مختلفة فيما بينها، صفق له بعضها متأثرين بالقصة المأساوية التي يرويها، بينما وجد البعض الآخر فيه، الكثير من مواطن الضعف بدءاً من الحبكة والحوار بمقارنته مع حكاية ميشيل كيلو، مروراً بالشخصيات، وصولاً إلى التصوير والرؤية الإخراجية.
بشكلٍ عام، ثمة اختلاف بتفاصيل الأحداث بين القصة التي رواها ميشيل كيلو، وبين القصة المصورة في الفيلم. فقد أضاءت القصة الحقيقية على جوانب من حياة الأم وطفلها مجهول النسب والاسم، أهملتها القصة المصورة. كما أن السجان في الحكاية الأصلية، يختلف بصفاته الطيبة والمتعاطفة عن نسخته اللاإنسانية الموجودة في الفيلم، حتى ردة فعل السجين المعتقل “ميشيل كيلو” في الحقيقة ـ إذ تسمّر في الزاوية المقابلة للطفل ووالدته عاجزاً عن الكلام حتى جاء السجان وأخرجه ـ تختلف عن الشخصية السينمائية المجسدة له. وفي النهاية، للمخرج رؤيته الإخراجية، وللمتلقي الحرية بتقييمها، سواء سلباً أو إيجاباً، استناداً على خاصية التذوق الفني من جهة، وعلى التحليل الدرامي من جهة أخرى.
لا بد من الإشارة، فيما يخص الفيلم وبعيداً عنه في الوقت ذاته، أن الواقع اليومي المعيش للسوريين صار جحيمياً لدرجة أنهم صاروا لا يجدون أية دراما، مهما كانت عبقريتها ومهما كانت صادقة، قادرة على استيعاب تفاصيله ومعالجتها. من هنا يأتي النقد الدائم لكل الأعمال المقدمة، خاصةً إذا كانت أعمالاً روائية. إلى جانب أن هذه الأعمال، التي هي في معظمها تجريبية وربما تكون الأولى بالنسبة لصانعيها، غير خالية من الأخطاء الدرامية والفنية، تحتاج إلى نقد حقيقي وواعٍ، لكن وللأسف لا وجود لمثل هذ النقد وسط الفوضى الثقافية الحالية.
________
*ميدل إيست أونلاين