*د.حسن مدن
قرأت مرةً للأديب الجزائري واسيني الأعرج قوله انه من التقصير عدم تدريس «دون كيشوت» في المقررات الدراسية الجزائرية. وكنت قد استمعت مرتين لواسيني الأعرج، مرةً في الشارقة ومرةً في البحرين، وهو يتحدث عن تأثره الكبير بهذه الرواية التي عدّها رواية جزائرية، ليس بمعنى أن كاتبها جزائري، وإنما لأن جزءاً مهماً من أحداثها يجري في الجزائر.
لم يكن ذلك مصادفة، وإنما لأن سرفانتس الجندي السابق في الجيش الاسباني وقع أسيراً في أيدي الأتراك، حينما هُوجمت سفينة كان على ظهرها في البحر الأبيض المتوسط، وأُخذ إلى الجزائر التي قضى فيها خمس سنوات سجيناً، وكانت الجزائر يومها مركزا لأعمال البحرية التركية والإسلامية بعامة.
خرج سرفانتس من سجنه بفديةٍ مالية، لكن الفترة التي قضاها هناك كان لها أعمق الأثر في نفسه وفي إنتاجه، ففي «دون كيشوت» فصول طوال تدور أحداثها في الجزائر، واتخذ من تلك المدينة إطارا لأحداث فاصلة وشيقة، خاصة انه ظفر بقسط من معرفة اللغة العربية فترة أسره.
نشر سرفانتس الجزء الأول من رائعته تحت عنوان: «النبيل البارع دون كيخوته دلامنتشا» في مدريد سنة 1605، وقال في استهلاله للرواية: إن القصد منها ليس إلا كبح بل تحطيم ما لكتب الفروسية من تأثير وسلطان عند عامة الناس. لكن الكاتب أراد من ذلك أن يكون جسراً للسخرية من العصر الذي عاشه بكل مخازيه الاجتماعية والسياسية والإدارية، وما يعج به من رذائل ونفاق ودعاوى زائفة في الآداب والأخلاق، دون أن يجعل من السخرية ذاتها هدفا وإنما وسيلة تعبير عن الاحتجاج.
قال «دون كيشوت» عن نفسه في رائعة سرفانتس: «أنا عاشق. هذا صحيح لأنه يجب على كل فارس أن يكون عاشقاً. لكني لست من أولئك العشاق الفاسدين، فأنا أحب حباً أفلاطونيا عنيفاً». حين طلبت منه الدوقة، وعلى سبيل التسلية، أن يصف لها حبيبته، قال هذا القول الساحر «سيدتي: لو كان في وسعي أن انتزع قلبي وأن أعرضه أمام عينيك هنا فوق هذه المنضدة، وفي صحن لأعفيت لساني من مؤونة وصف ما لا يكاد يتصور، لأنك سترينها مرسومة على الطبيعة في هذا القلب العاشق».
إنه إذن فارس يريد أن يحطم زيف الفروسية، وهو عاشق، يريد أن يحطم زيف الحب، انه شخصية متعددة الأوجه تريد أن تحطم الزيف على أنواعه، وهو بهذا المعنى لم يكن يحارب طواحين هواء ولا جيوشا متخيلة، انه يحارب عصراً متفسخاً، لذا فإنه فعل ما فعله وسيفعله كل «الدونكيشوتيين» قبله وبعده: يربحون أنفسهم حتى لو خسروا العالم.
لم يكن سرفانتس في «دون كيخوت» يرمي إلى تمجيد بطله. كان هدفه هو الذي عاش بين القرنين السادس عشر والسابع عشر هجاء مفهوم الفروسية الذي بدأ يتهاوى مع تزعزع مكانة الإقطاع وبواكير صعود البرجوازية الأوروبية. لكن ما من أحد قرأ الرواية أو شاهدها على المسرح أو في السينما إلا وتتعاطف مع البطل. بل أن الكاتب نفسه لم يخف هذا التعاطف في الطريقة التي تناول بها «بطولات» ذلك الرجل الذي راح ينازل طواحين الهواء ظانا انه ينازل جيوشا مجيشة.
كان دون كيخوت مدمنا على قراءة الكتب ومولعا بالأحلام وعدم التلاؤم مع واقع متحول كان يرفضه، لأنه غير قادر على التآلف معه. لذا فانه جرى وراء هذا الحلم، الذي هو إلى السراب أقرب منه إلى الحقيقة، فارتدى لباس الفرسان واصطحب معه مرافقه إلى حيث المجهول والمغامرة راغبا في استعادة حياة الفروسية التي طالما قرأ عنها في بطون الكتب التي استهوته. كان يبحث عن البطولة، عن المجد، عن دور يتخطى إمكانياته وإمكانيات الواقع، ولأن الأمر كذلك فانه لم يكن أمامه من مخرج سوى الإغراق في الوهم وتصديقه.
لم ينس سرفانتس أن يرسم ملامح بطله الإنسانية: حالم وخجول ومولع بالفروسية، روحه تنم عن الرحمة والإخاء، وتشيع فيها روح دينية متحفظة، ولم يكن يدرك وهو يغرق في الحلم انه كان يخدع نفسه. كان ذلك شعوراً خفياً ولكنه كلما اصطدم بالوقائع في مغامراته كلما أدرك ذلك بالتدريج.
ولم يكن أمراً غير ذي مغزى أن سرفانتس اخترع شخصية مرافقه «شانسو» الفلاح الذي عركته الحياة: كان مخزونا من الحكم والأمثال الشعبية والمعرفة الفطرية الذكية بتعقيدات الحياة، وكان يزجي النصح لفارسه طوال تلك الرحلة الشاقة، لكن نصائحه كانت تقابل بالصمت، لا بل بالازدراء من قبل الفارس الذي أراد أن يصمم العالم على هواه، لذلك فانه كان يتصور السهل الغارق في الصمت سلسلة أخاديد تنبثق منها أرتال الفرسان الذي لا وجود لهم إلا في رأسه!
كم من دون كيخوت حولنا ؟ّ كم من دون كيخوت في هذا العالم الذي يتحول إلى صورة أخرى غير الصورة التي نشأوا عليها أو تلك التي شكلوها من الذي قرأوه، كم من دون كيخوت يغرق في الحلم، ويذهب مع هذا الحلم إلى ما يشبه الجنون الذي يجعله يتصور الجيوش طواحين هواء في قراءة معكوسة لدور بطل سرفانتس.
و(الدون كيخوتية) المعاصرة مستقاة من واقع مليء بالعسف والمظالم والخلو من الرحمة، لذا فإنها قادرة على استثارة العواطف إزاء دعوتها لفروسية جديدة بوجه ترسانة حرب لا قبل للفروسية على مواجهتها، لكن الدون كيخوتية بكل ما عرف عنها من اعتداد لا تسلم بان وسائلها أعجز من أن تحقق أمانيها.
لكن يظل أن لكل زمن دون كيخوته الخاص به. دون كيخوت لم يمت. دون كيخوت لا يموت!
هناك من يقول «لا» في الوقت الذي يقول فيه الجميع «نعم». هؤلاء الذي يقولون لا، يمكن أن يكونوا أقلية، أو هم في العادة أقلية، ولكنهم من الجسارة ورباطة الجأش وثبات الموقف وصلابته بحيث يغامرون ويمشون عكس التيار مراهنين على كسب الرهان.
ليس هذا زمن الفروسية، ولكن الفرسان، حتى لو كانوا قلة، موجودون، من هؤلاء كان الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو شافيز الذي وعلى بعد أميال ليست كثيرة من الولايات المتحدة اختار أن يتحداها وخلفه شعب بكامله، يقف معه بإرادته الطوعية لا بقوة البوليس والعسكر وغرف التعذيب والمقابر الجماعية وزنازين الموت، كما يفعل الطغاة عندنا ليسوقوا الناس كالإمعات أمامهم، لذا حين يقول شافيز لواشنطن: لا، يقول له شعب فنزويلا: نعم.
كان يأتي إلى سدة الرئاسة محمولاً بأصوات الناس وثقتهم بالقفز على الدبابة ولا بتزوير الانتخابات، لذا لم يكن مهماً عنده بعد ذاك أن يقال أنه حصد 100% من الأصوات أو 99,9% منها، إنه حصد ما هو أهم من ذلك: الإرادة الحرة لمواطنيه الذين كانوا يصوتون في غالبيتهم له، ولا ضير لو اختار البعض أن يقول له «لا».
ليس هذا زمن الفروسية، ولكن شافيز اختار أن يذكر مواطنيه بهذا الزمن، فقام بما لم يقم به رئيس سواه، دعا مواطنيه إلى قراءة رواية سرفانتس: «دون كيشوت»، وهتف أمام الجماهير: «كلنا دون كيشوت».
لم يؤلف شافيز كتاباً أحمر أو أخضر أو برتقالياً، ليجعله مقررا على خلق الله من مواطني بلاده، كما فعل رؤساء آخرون سواه، وإنما ذهب لواحدة من درر الأدب العالمي وتراث الإنسانية الزاخر: «دون كيشوت» وقرر توزيع مليون نسخة من الرواية الضخمة داعياً الناس لقراءتها، عائداً بهم أربعة قرون للوراء، أي إلى الزمن الذي كتب فيه سرفانتس روايته التي اختيرت في العام 2002 بصفتها أهم عمل روائي على الإطلاق أبدعه الإنسان، والذين اختاروها لهذا التوصيف هم نخبة من كبار أدباء العالم، وبينهم عدد من حملة جائزة «نوبل» للآداب.
صدَّر الدكتور عبدالرحمن بدوي ترجمته العربية للرواية بمقدمة قارن فيها بين «دون كيشوت» سرفانتس وبين «فاوست» غوته، وبين «هاملت شكسبير، نقل بدوي المقارنة عن سلفادور دي مدرباحا، وهذا يضعنا أمام مقارنة صعبة بين أعمال تزداد تألقاً مع الزمن، أعمال لا تتقادم ولا تبلى ولا تنسى، ليخلص إلى أن دون كيشوت بطل رواية سرفانتس الذي قارع طواحين الهواء كان رمزاً للنبالة الساعية لخير الإنسانية، إنه صوت العدالة العليا تصرخ في عالم حافل بالمظالم، ولا ضير عليه أن يظل صوتاً يصرخ في البرية، ذلك أن هذا النداء مهما كان وحيداً وخافتاً، يمثل ضمير البشر ضد الظلم والنفاق والخديعة والوضاعة والملق والدس، يمثل صوت أولئك الذين يقولون «لا» في الوقت الذي يقول فيه الجميع «نعم»، على نحو ما فعل هوجو شافيز في فنزويلا البعيدة.
____
*جريدة عُمان