إِدوَاردُو غَالْيَانُو..من ساعي بريد إلى أكبر كتاب أمريكا اللاتينية


محمد محمد خطابي


قبل أن يتعاطى الكاتب الأوروغوائي إدواردو غاليانو الكتابة ويصبح كاتباً كبيراً مشهوراً، ومثقفاً راقياً مرموقاً في أمريكا اللاتينية، ومثلما كان الكاتب المكسيكي الشهير خوان رولفو يعمل في مقتبل عمره، وشرخ شبابه في أحد مصانع العجلات المطاطية في بلاده المكسيك، فقد اشتغل غاليانو في ريعان عمره كذلك عاملاً بسيطاً في أحد المصانع، وساعي بريد، كما عمل في الطباعة، وموظفاً في أحد المصارف، وفي سواها من الأعمال التي ليست لها أي صلة باختياراته، وتطلعاته، وطموحاته الحقيقية في الحياة، حيث أصبح في ما بعد من أكبر الكتاب في بلده الأوروغواي، ثم على مستوى القارة الأمريكية، وفي العالم الناطق باللغة الإسبانية، وأن تترجم كتبه إلى ما ينيف على عشرين لغة عالمية.

في الثالث عشر من شهر نيسان/أبريل المنصرم 2016 حلت الذكرى الثانية لرحيل هذا الكاتب، الذي أصبح يوصف ويُصنف في مصاف أكبر الكتاب في أمريكا اللاتينية، وهو الكاتب الذي كان يوسم بأنه من أكثر الكتاب إثارةً للجدل في مختلف البلدان الناطقة بلغة سيرفانتيس، الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا التاريخ من السنة الفارطة 2015 في عاصمة الأوروغواي (مُونتيفيديو) عن سن يناهز الرابعة والسبعين عاماً.

كان إدواردو غاليانو رمزاً بارزاً من رموز الاتجاه اليساري في أمريكا اللاتينية، كما كان واحداً من أجرأ، وأشجع كتابها في العصر الحديث، وهو صاحب أشهر كتاب وُضع منذ ما يقارب الخمسين سنة حول معاناة السكان الأصليين في القارة الأمريكية الذين يطلق عليهم الكاتب اسمَ «سكان الشق الجنوبي السفليِ من القارة»، مقابل اسم «سكان الشق الشمالي العُلْويِ من القارة»، وهو كتاب «أوردة أمريكا اللاتينية المفتوحة»، التي لم تَزَلْ مفتوحةً ومشروخة بالفعل – في نظره – إلى يومنا هذا، كما صرح وأكد غير ما مرة ذلك قبيل رحيله، وكان قد قال كذلك قيد حياته على سبيل الدعابة والمزاح إنه: «على الرغم من أن رئيس فنزويلا الأسبق الراحل أُوغُو شافيِز كان قد أهدى نسخةً من إحدى طبعات هذا الكتاب إلى الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما عام 2009 خلال مؤتمر القمة الخامس للعالَم الأمريكي، المنظم في «بويرتو إسبانيا» عاصمة ترينيداد وتوباغو، وعلى الرغم من أن نسبة مبيعات هذا الكتاب قد قفزت في أحد مواقع البيع الأمريكية المعروفة بـ (أمازون) من رتبة 60.280 إلى المرتبة العاشرة في يوم واحد، إلا أنه على يقين تام لا أُوغُو شَافيِز نفسه قيد حياته، ولا باراك أوباما قد فَهِما فهماً حقيقياً، واستوعبا استيعاباً جيداً وعميقاً، عمقَ، وبُعْد، ومرامي هذا الكتاب»، وتجدر الإشارة إلى أن هذا المؤلف كان محظوراً في كل من بلده الأوروغواي، وكذلك في تشيلي والأرجنتين، وبعض بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى، وهو يذكرنا في هذا القبيل بكتاب آخر كبيرحول الموضوع نفسه من وجهة نظر تاريخية أوروبية وهو كتاب «أفريقيا مقابل أمريكا» وهو من تأليف لويسا إيسابيل ألفاريس دي توليدو دوقة مدينة شذونة، الذي ظل هو الآخر محظوراً نشره وبيعه في إسبانيا وفي بلدان أمريكا اللاتينية حتى سنة 2000، عندما سمح بنشر هذا الكتاب الذي قدم حقائق مثيرة وقلب موازين تاريخ اكتشاف العالم الجديد، ومدى فداحة الظلم الذي سامه وألحقه الإسبان بالسكان الأصليين للقارة الأمريكية. يضافُ في هذا السياق إلى هذا كتاب غاليانو الآنف الذكر كتابُه الآخر الكبير كذلك «مذكرات النار» (1986) الذي يقع في (ثلاثة أجزاء)، والذي أفردتُ له فصلاً قائمَ الذات تحت عنوان (إعمالُ النظر) في كتابي: «ذاكرة الحُلْم والوَشْم» (أضواء مثيرة على ماضي وحاضر العالم الجديد) الصادر عن دار النشر «أياديف» الرباط عام 2005.
«أوردة أمريكا اللاتينية وشرايينها»
يقوم إدواردو غاليانو في هذا الكتاب بتحليل تاريخ هذه القارة البِكر، مسلطاً الأضواء على وجه الخصوص على التصفية العِرقية، والاستغلال الاقتصادي، والهيمنة السياسية التي تعرضت لها هذه القارة بشكل رهيب منذ الاستعمار الأوروبي لها (1492) إلى فترة السبعينيات من القرن المنصرم، التي نشر فيها هذا الكتاب، ثم جاءت حقبة ما يُعرف بالحرب الباردة. كتاب إدواردو غاليانو المثير لقي هوىً وقبولاً كبيرين لدى الأيديولوجيات الثورية واليسارية التي غالباً ما تنعت بـ»التقدمية»، وبشكل خاص في بلدان مثل الأرجنتين، وتشيلي، والبرازيل، والأوروغواي وسواها التي كانت ترزح تحت نير الهيمنة الديكتاتورية المتسلطة، ونتيجة ذلك فقد زج بصاحب الكتاب إدواردو غاليانو في غياهب السجون في بلاده الأوروغواي أولاً بعد الانقلاب الذي عرفه هذا البلد عام 1973، ثم أُرْغِم بعد ذلك على الهجرة القسْرية، والاغتراب القهري، واللجوء إلى الأرجنتين في المقام الأول، ثم بعد ذلك الانتقال إلى إسبانيا.

وقال إدواردو غاليانو بخصوص كتابه قبيل رحيله: «إنه لن يعود لقراءة كتابه من جديد، فهو لو فعل ذلك فقد يُغمَى عليه، لأنه يرى أن هذه النصوص التي تنتمي لليسار التقليدي قد أصبحت مملة الآن بالنسبة له، فجسمه الواهن لم يعد يتحمل ذلك اليوم». كتاب غاليانو منذ أن صدر عام 1971 كان ولا يزال يُعتبر- حسب بعض النقاد ـ الكتاب الذي يمثل مذهب اليسار بامتياز في أمريكا اللاتينية حتى اليوم، والذي جعله هذا اليسار في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية لسنوات طويلة دليلاً ومرجعاً ومرشداً له في العديد من الملتقيات النضالية، التظاهرات السياسية، والتجمعات اليسارية في مختلف هذه البلدان. نشر غاليانو هذا الكتاب وهو في الواحدة والثلاثين من عمره، كان في البداية يعتقد أنه يضع كتاباً في الاقتصاد السياسي، وليس مؤلفاً يعالج فيه بعمق مختلف المشاكل والإكراهات والمعضلات التي كانت تتخبط فيها القارة الأمريكية في شقها الجنوبي في ذلك الأوان، سياسية كانت، أو ثقافية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو إنسانية، أو إثنية، أو عرقية، أو إبداعية وسواها.
فَلَذات الأكباد.. 
فلذات الأيام
ويقول إدواردو غاليانوعن كتابٍ آخر صدرله في المدة الأخيرة بعنوان «أبناء الأيام»: «إن هذا الكتاب يأتي انطلاقاً من شهادات ناطقة حية من أفواه أبناء شعب المايا في غواتيمالا منذ بضع سنوات خلت، هذه الشهادات هي التي يتضمنها هذا الكتاب بين دفتيه اليوم. ويضيف أن المايا يعتقدون اعتقاداً راسخاً أننا فلذات أو أبناء الأيام، أبناء الزمن، وفي كل يوم تتولد القصص، والحكايات المتواترة، ذلك أن الكائن البشري في عرفهم مصنوع وموضوع من الذرات، ولكنه صيغ كذلك من القصص والسرد والتراث والحكايات».
يجد غاليانو تشابهاً وتقارباً بين كتابه الجديد وكتاب آخر له صدر منذ بضعة أعوام وهو بعنوان «مرايا» حيث يقوم الكاتب بمراقبة العالم ورصده، إنه أمرٌ مماثل أن ترمق وتراقب العالمَ من ثقب قفل، أو أن تحكي قصصاً عظيمة انطلاقاً من حكايات بسيطة وصغيرة، أو كما يمكن أن يقول أكثر من شاعر بواسطة الحكايات اليومية المتواترة، أو بواسطة هؤلاء الذين يُطلق عليهم الأبطال المجهولون.
ولقد اعتبر بعض النقاد هذا الكتاب امتداداً لكتب غاليانو السابقة، وتجسيماً لمواقفه من العديد من القضايا التاريخية، والاجتماعية، والإنسانية، والسياسية، التي ينفرد بمعالجتها بأسلوبه الخاص، وبقدْرٍ كبيرٍ من الجرأة والمواجهة والتحدي والثبات. 
يتضمن هذا الكتاب قدْراً باهظاً من هذه الشحنة الناقمة التي يصب فيها وبها الكاتب جام غضبه على هؤلاء الذين ينظرون إلى العالم من ثقب الباب، حيث لا يتراءى لهم منه سوى ما يروقهم، أو ما تحلو لهم مشاهدته، ورؤيته فيه. في هذا الكتاب تند نسائم الحرية، والانعتاق، وتفوح رائحة البحث المُضني عن الحريات والعدالة وحقوق الطبيعة، والبشر. ففيه نلتقي ليس فقط مع أمنا الأولى «حواء» أو مع أبينا الأول «آدم»، بل نلتقي وجهاً لوجه مع باراك أوباما، أو مع الحركات الشبابية الغاضبة في إسبانيا التي يقدم غاليانو لها دعمَه ومساندتَه مثل بلديه البيروفي مايو فارغاس يوسا بحماس منقطع النظير، في هذا السرد الحكواتي المتواتر، بقدر ما يدنو فيه الكاتب من القارئ، فإنه في الوقت ذاته ينأى ويفر مما يسميه أو يطلق عليه بالتضخم الكلامي.
من الماضي الغابر
إلى العصرالحاضر
كتاب غاليانو «أبناء الأيام» رحلة يومية مثيرة من الماضي إلى الحاضر على امتداد 365 يوماً من أيام العام، كل حكاية أو قصة تتضمن رسائلَ نافذة، ونقداً لاذعاً للمجتمع الحالي الذي نعيشه، هذه الرسائل تسافر عبر الزمن حتى تصل إلى الحاضر.
إنه إدانة صارخة للعصرالحاضرالذي نعيشه على مضض، إنها نظرة أو تشريح للواقع المر، إنه يوجه انتقاداً شديداً للنظام العالمي الحالي الذي يحافظ ويذوذ عن المصالح المالية والاقتصادية، ولكنه لا يتورع عن إلحاق الأذى بالطبيعة وإتلافها، يقول: «إنهم يتحدثون عن كوارث طبيعية كما لو أن الطبيعة قد أصبحت جلاداً»، وليس ضحيتهم إنهم لا يحافظون عليها بل يسلبونها حقوقها. 
وعــن النظام المالي يقول: «المصرفيون في حرب ضد التضخم المالي، أما أنا فقد أعلنت الحرب ضد التضخم الكلامي». وفي مجال حديثه عن الإرهاب يقـــــول «إن الذين ينبغي إدانتهم، هم هؤلاء الذين يخطفون بلداناً، الذين ينتهكون حرمة الأرض، لصوص الفضاء، الذين يتاجرون بالخوف». وانتقد الديكتاتوريات التي عاشتها، وعرفتها بلاده.

في هذا الكتاب نلتقي مع العديد من تعابيره المعهودة. إنه يذكرنا: «لو كانت الطبيعة مصرفاً أو بنكاً لكانوا قد عملوا على إنقاذها». كما يحفل هذا الكتاب مثل كتبه السابقة بالسخرية المرة، والتهكم اللاذع من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانوا يعتبرون نيلسون مانديلا إرهابياً، وفي الفاتح من يوليو/تموز 2008 تم شطب اسمه من قائمة الإرهابيين التي ظل فيها 60 عاماً. 

كتاب «أبناء الأيام» يعيد طرح إشكالية التفكير في العالم والاختلال أو المُعضلات التي يعيشها بشكل معاكس أو بطريقة تقهقرية. وهو يقدم قصصاً قصيرة، وحكاياتٍ كبرى لكل يوم من أيام الحَوْل. إنه في هذا السرد الحكواتي المتواتر، بقدر ما يدنو فيه من القارئ، فإنه في الوقت ذاته ينأى ويفر مما يسميه أو يطلق عليه: بالتضخم الكلامي.
أُودِيسَا عوالم الفَضَاء
من الفقرات التي تواجهنا في هذا الكتاب :وتمضي الأيام، الأيام التي صنعتنا، هكذا ولدنا، كأبناءالأيام، االلاهثون دائما وراء الحقيقة، الباحثون عن الحياة، 22 مارس : يوم الماء، نحن من الماء، من الماء كانت الحياة، الأنهار دم يروى الأرض، هذه الأنهار مصنوعة من ماءٍ زلال، إنها خلايا عديمة التفكير، إنها الدموع التي تجعلنا نبكي، وهي الذاكرة التي نتذكر بها، والتي تخبرنا أن صحارى اليوم، كانت بالأمس غاباتٍ وأدغالاً، والعالم الجاف تحول إلى عالم مبلل، في ذلك الزمن الغابر الذي لم يكن فيه لا الماء ولا الأرض ملكاً لأحد، بل كانا ملكاً للجميع، من ذا الذي إستحوذ على الماء؟ القرد ذو الهراوة، القرد الأعزل مات بضربة واحدة، إذا لم تخني الذاكرة فإن فيلم 2001 أوديسة الفضاء هكذا يبدأ، في 2009 إكتشفت مركبة فضائية الماء في القمر، هذا الخبر عجل بمخططات الإكتشاف، مسكين أنت أيها القمر..!
وهكذا يستمر الكاتب في تسجيل إنطباعاته وملاحظاته اللاذعة على إمتداد توالي الأيام وإنصرامها أمام أعيننا، وذاكراتنا كالسيل العارم، والأتي المنهمر، وهكذا يضع غاليانو نصبَ أعيننا لوحاتٍ وأحداثاً، وأمثالاً ووقائعَ، وتوابعَ وزوابعَ، وكوارثَ، وأهوالاً عاشتها البشرية في تتابع مسترسل. 
وفي مواقع أخرى من الكتاب نقرأ:المفقودون، إنهم أموات بلا مقابر، أو مقابر بلا أسماء، نساء ورجال إبتلعهم الرعب، الأطفال الذين إستعملوا أو هم رهينة حروب، وكذلك الغابات الأم، ونجوم ليالي المدن، والحواضر، وعطر الزهور، وطعم الفواكه، والرسائل المكتوبة بخط اليد، والمقاهي العتيقة حيث ينسابُ الزمانُ في سكون، ولعب الكرة في الأزقة والشوارع، وحق المشي، وحق إستنشاق الهواء الطلق، والدور بدون سياج، والأبواب بدون أقفال، والشعور بالإنتماء، والفطرة الأولى..!
إعمال النظر وتدقيق التمعن
وكما سبق القول لإدواردوغاليانو كتاب آخركذلك تحت عنوان «مذكرات النار» وهي ثلاثية قيمة حول أمريكا الجنوبية يتساءل الكاتب فيها عن بعض المصادفات الغريبة، والمحيرة التي تمر بالإنسان، وعن إعمال النظر في الأمور والتمعن فيها بعمق، ويورد غاليانو قصةً طريفة في هذا السياق يقول إنها أثرت فيه تأثيراً بليغاً، وهي عندما قرأ إستجواباً للكاتب الأمريكي الأسود اللون «جيمس بالدوين» الذي يحكي أنه حتى سن التاسعة عشرة من عمره لم يكن يعرف كيف يَرَى الأمورَ على حقيقتها على الرغم أنه كان سليمَ النظر، وأن صديقاً رساماً له هو الذي علمه كيف يرى، ففى عام 1944 عندما كانا هما الإثنان يسيران في بعض شوارع نيويورك، ووصلا إلى ركنٍ مُهمَلٍ من أركان الشارع توقفا عن السير، وبدأ الصديق الرسام يشير بيده إلى غَمْرٍ من الماء بجوار الرصيف وهو يقول له: أنظر، ويحكي بالدوين أنه نظر في البداية فلم ير شيئاً، رأى غَمْراً من الماء ليس إلا، وعاد الرسام ليلح عليه، فقال له من جديد أنظر، أنظر وعاود النظر، وهذه المرة رأى شيئاً لم يتراء له من قبل، رأى بقعة من الزيت داخل الغمر، وعندما ركز نظره أكثر وبمزيد من التمعن، مع إلحاح الصديق في أن ينظر وينظر، فبالإضافة إلى قوس قزح المُنعكس في الغَمر، رأى كذلك أشياء كثيرة أخرى، رأى أناساً يمشون، المارة، الحمقى، العُمُال، السود، الذين يقطعون الطريق كل يوم، ولم يتوقفوا قط للنظر مثلما فعل هو، وبعد أن زاد تحديقه رأى المدينة بأكملها، ورأى الكَوْنَ داخل ذلك الغَمْر الحقير الذي يوجد في ركن قصي من أركان جزيرة منهاتن، وكان ذلك اليوم هو اليوم الذي تعلم فيه أن يرى.. ! ويشيرغاليانو معلقاً على هذه الحكاية: «إن الفن الحقيقي هو الذي يساعدنا على إعمال النظر، وعلى فتح نوافذ جديدة مُشرعة أمامنا»

تقول الحكاية الأخرى التي يوردها غاليانو في كتابه في نفس السياق، والتي لا تقل طرافةً عن سابقتها: أن صديقاً له لم يكن قد رأى البحر قط في حياته لأنه من داخل الأروغواي، فأخذه أبوه ذات يوم لمشاهدة البحر وليعرف البحر لأول مرة، كان صديقه لم يتجاوز السابعة من عمره، كان أول ما إنتهى إليه من البحر نسماته، ورذاذه ثم هديره، وعندما رأى البحرلاول مرة في ملكوته، ووسعه، وروعته لم يستطع أن يتمالك نفسه أمام جلال المفاجأة، فصاح في والده : يا أبتي ساعدني على النظر..!. فما أجملَ أن نساعد على فهم الحياة، أي أن نساعد على فتح نوافذ، وفوهات جديدة في منطقة ما من العالم، وهي أمريكا اللاتينية التي طالما نُظر إليها بغير قليلٍ من الإزدراء». !
مِن وَحْي الاكتشاف أو بالأحرى الغزو..
القصص التي يسوقها غاليانو في كتابه «مذكرات النار»عن تاريخ أمريكا اللاتينية هي قصص حقيقية، وهي تتضمن قيماً رمزية عميقة تكشف النقاب عن أشياء لا تخلو من أهمية، ويضرب الكاتب كمثال بواحدة من هذه القصص المروعة من تاريخ هذه الجهة النائية من العالم عندما أقيم عام 1496 أول «مكان للحرْق» في أمريكا اللاتينية في «هايتي» إنه منذ إكتشاف أمريكا لأول مرة يعاقَب إنسان في هذه القارة بالقتل حرقاً، إن القاتل (العشماوي) هو «بارطولومي كولومبوس» أخو كريستوفر كولومبوس البحار الشهيرالمغامر، الضحايا الذين إشتعلت أجسامهم حرْقاً وهم أحياء هم ستة من الهنود، ويشير الكاتب أن هذا الإعدام، أو هذه التضحية تجسم لنا كل شيء، ليس فقط تصادم حضارتين، بل وأكثر من ذلك هو أن أكبر خطأ لما يُطلق عليه إكتشاف أمريكا هو عدم إكتشاف شيء، لأن «كولومبوس» مات مقتنعاً أنه كان في اليابان كما يعرف الجميع. أي في ظهر آسيا. إن الأوروبيين الذين قدِموا إلى أمريكا كانت لهم عيون لمشاهدة الحقيقة التي وجدوها، إلا أنهم مثل حالة» جيمس بالدوين’ كانوا عاجزين عن إكتشافها، إن نظرتهم لها كانت شبيهة بنظرة بالدوين الأولى للغَمْر. إن دأب هؤلاء كان هو السلب والنهب المنظمين، وإلحاق الأذى والضرر ببلدان أخرى، إن الغازي، يقول غاليانو: وصل لإنقاذ الذي وقع عليه الغزو من ظلام الوثنية، إلا أنه في آخر المطاف هو الذي وقع بين مخالب الوثنية الحقيقية، فما هو الذنب الفظيع الذي إرتكبه هؤلاء الهنود الستة ليلقِي بهم بارطولومي كولومبوس في النار أحياء.؟. !
الهِندي الأصيل المُلتحي
يشير غاليانو: «أنه ليس عيباً أن يُحْتفَى باكتشاف أمريكا، ولكن ليس من أجل تكريم الملوك الكاثوليك الإسبان الذين أنشأوا محاكمَ التفتيش، والتعذيب، والتنكيل المعروفين بعدم التسامح، والجهل، بل فليكن هذا الاحتفال تكريماً لبعض التقاليد الأمريكية القديمة جداً، وقيم، وعوائد الأمم التي عشقت الحرية، وتعلقت بالشرف، والكرامة، وهامت بالطبيعة، إن سكان هذه المناطق من العالم كانوا يعيشون ويعملون جماعات فيما بينهم قبل أن يحدث «الإكتشاف» الذي جاء ولقنهم الأنانية، والكراهية، والأثرة، والتشرذم، وحق المِلْكية، والجَشَع، وروائع أخرى..! أو أن يكون إحتفالاً بهؤلاء الذين جاءوا فاتحين مثل حالة البحار «غونسالو غيريرو» الذي ظل تائهاً في أرض «المايا»، ثم سرعان ما إنخرط في مجتمع الهنود، وتزوج منهم وكان له أولاد، وعندما علم (المكتشِف) «إيرنان كورتيس» بقصة ذلك البحار طلب منه الحضور فرفض، وآثر أن يظل مع أهله الجدد، وعائلته وأولاده، ولما كان عام 1536 وبعد معركة طويلة بين هنود المايا والغزاة، وبين العشرات من الجثث ظهر هندي ملتحٍ، هندي ذو جلد أبيض، وقد شقت جبينه رصاصة غاشمة، لقد كان «غونسالو غيريرو» الذي آثر أن يسقط مع مَنْ إرتاح إليهم، وأحسنوا وفادتَه، هذا الرجل هو أول غازٍ تم غزوُه، وكان هناك آخرون ظلوا في غياهب المجهول.
سَابَاتاَ، سَاندينُو، وغِيفارَا
ويحكي لنا غاليانو من جهة أخرى في كتابه المثير برمزية عميقة عن مبدأ تقدير وتقديس الصداقة في هذا الشق من العالم، فيخبرنا كيف أن البطل الأسطوري «بانشو فييا» كان إسمه الحقيقي هو «دوراتيو أرانغو» وبانشو كان إسم أعز اصدقائه، وعندما قتل الحَرَس المدني صديقَه الذي كان ينتمي إلى شلة «أرانغو» إتخذ لنفسه إسمَ صديقه، أي الإسم الذي هَوَى، وأصبح إسمه «بانشو فييا» لكي لا يموت إسم صديقه أبدا، إنه نوع من مصارعة أو مقارعة الموت ضد النسيان الذي يُعتبر الموت الوحيد الذي يقتل حقيقة. وهكذا ظل إسم صديقه حياً في شخصه، تردده أمريكا اللاتينية حتى اليوم. ويسوق الكاتب مثالاً آخر في نفس السياق فيقول: كيف يمكن تفسير أن ثلاثة من المتمردين الأمريكيين الجنوبيين الذين أصبحوا يشكلون نوعاً من الأسطورة في حياة الناس، وفى أدب أمريكا اللاتينية وهم: «سَابَاتاَ» و»سَاندينو» و»غِيفارا» جَمَعَهم مصيرٌ واحد، فالثلاثة ماتوا في سن 39 سنة، الثلاثة ماتوا على إثر خيانة، والثلاثة ماتوا في كمين نُصِب لهم…!…
هذه جوانب من الصفحات الصفر المرة التي يمليها علينا على مضض إدواردو غاليانو في مختلف كتبه وتآليفة الشجاعة والمثيرة عن شعوب مختلف بلدان أمريكا اللاتينية التي تعرضت لأكبر حملات الظلم والتظلم، والذل والهوان، والعنت والتقتيل والتنكيل منذ أن وطئت أقدام الإنسان الابيض تلك القارة البكر التي أصبح يطلق عليها فيما بعد بالفردوس الأرضي أو العالم الجديد، كما ظهرت لنا، وقدمت إلينا من طرف العديد من كتابها، وروائييها، وشعرائها الكبار من روبين داريو إلى أوكتافيو باث مروراً بخورخي جيين، وبابلو نيرودا، وكورتاثار، وخورخي لويس بوخيس، وميغيل أنخيل أستورياس، والفارو موتيس، وخوان رولفو، و كارلوس فوينتيس، وغابرييل غارسيا ماركيز وإدوارد غاليانو وآخرين، وما أكثرهم.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *