*هيثم حسين
تشكل الهويات المتصارعة في بحر الهوية الوطنية العراقية المفترضة ميدان اشتغال العراقي ضياء جبيلي (البصرة 1977) في روايته الجديدة “أسد البصرة” التي يستهلها بمشهد يحمل نوعا من العبث والسخرية والأسى في الوقت نفسه.
يتوجه بطل روايته بطريقة افتراضية متخيلة إلى الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا ليحكي له حكايته التي يعتقد أنها ستكون مادة خام له يمكن أن يخلق منها بأسلوبه وفنه رواية مميزة.
وبطل الرواية (الصادرة عن دار الجمل 2016) هو نتاج زواج أبيه اليهودي وأمه الأرمنية في البصرة في خمسينيات القرن الماضي، ويختار له جبيلي ثلاثة أسماء في الوقت نفسه “موشي، خاجيك، أمل”.
يبقي أسير أزمات نفسية تعصف به، وضحية تربية بائسة لثلاث نساء (العمة اليهودية هيلا، الخالة الأرمنية ميساك، الأم بالتبني المسلمة حنان) اللواتي يخضن صراعا خفيا من أجل إظهار شخصيته بالصورة التي تراها كل منهن أنسب له ولانتمائه.
“كأن مؤلف “لعنة ماركيز” يعكس من خلال بطل روايته صورة بلد تمزقه الانتماءات الطائفية والمذهبية، وتسوده مشاعر ذم الآخر والنظر إليه بعين العداء “
عنف المجتمع
يصور جبيلي كيف أن تذكية نيران التعصب تأتي على حساب تنمية الشعور الوطني والإنساني، وعلى حساب التسامح المفترض ولا سيما أن بطله يكون نتاج زواج مدني لم يرض عنه أحد، وبقي سجين مجتمع يمارس أبناؤه عنفا فظيعا اتجاه بعضهم واتجاه الآخرين.
وكانت كل واحدة من المسؤولات عنه تحاول -بذريعة انتشاله من مستنقع الأخريات- تعبئته وبث ضغائنها فيه، وتكريسها لديه ليغدو صورة لها، ويتحول فيما بعد إلى كتلة من النقائض والتناقضات.
كأن مؤلف “لعنة ماركيز” يعكس من خلال بطل روايته صورة بلد تمزقه الانتماءات الطائفية والمذهبية، وتسوده مشاعر ذم الآخر والنظر إليه بعين العداء.
وهو يلتقط بعضا من تأثيرات الحروب المتعاقبة على الأجيال الجديدة التي تعيش معاركها الخاصة وسط المعركة الكبرى الدائرة، وتخوضها في ساحة أخرى، وتعاني تداعياتها الخطيرة عليها.
تحتل هوية الوطن الجريح، وتغييب المواطن المنتمي لبلده لصالح هوياته المتقاتلة فيما بينها، الصدارة، ولا يفلح بطل الرواية في إلغاء أي جانب من شخصيته وهوياته، لذلك تراه حائرا ضائعا بين ما يفترض أن يكون وما هو كائن.
يتماهى مع الجماد أحيانا في اللامبالات، ومع الحيوانات في غرائزها، يصدّر العنف إلى أقرب المقربين منه، ومنهم أخته بالتبني “نسرين” التي تكون إحدى ضحاياه، في رحلة تيهه وضياعه بين أفكاره وأزماته وواقعه وحروبه.
تجري أحداث الرواية في فترة زمنية تمتد من خمسينيات القرن الماضي إلى ما بعد الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق عندما يتغلغل بشكل سري عناصر الوكالة اليهودية للهجرة من جانب، وبعض مؤسسات الهجرة المسيحية السرية من جانب آخر، في العراق وتحديدا في البصرة.
تكون مهمتهم انتشال ما تبقى من كبار السن من اليهود العراقيين، أومن يرغب في الهجرة من الأرمن البصريين لترحيلهم إلى إسرائيل أو إلى أرمينيا.
إثبات الذات
ويؤكد الروائي ضياء جبيلي أنه يعالج في روايته مفهوم العودة وما تنطوي عليه هذه التسمية من تشعبات ومفارقات. ووسط كل ما يجري من أحداث، دائما ما يبرز من بين السطور أحد أكثر الأسئلة جدلا في هذا الصدد وهو: هل ما يُشاع من أنه عودة هو كذلك حقا؟ أم أنه هجرة، تهجير، ترحيل، هروب، طرد، أو خلاص؟ إلخ.
ويصف جبيلي في تصريح للجزيرة نت “أسد البصرة” بأنها رواية “الهوية الهجينة”، أو على الأقل هذا ما سعى إليه من خلال الشخصية الرئيسة التي تتحرك وفق ميولها الثقافية بعيدا عن الأسباب المتعلقة بالأرض والجذور.
ويشير إلى أنها ربما تكون هي رواية العراق الذي يأكل أبناءه، وتؤرخ لصراع أديان وقوميات مصغر في بقعة محددة من الأرض من أجل إثبات الذات عن طريق التعبئة.
ويؤكد صاحب “بوغيز العجيب” أنه حاول في عمله الجديد أن يبتعد عن الحس العاطفي “النوستاليجي” والبكائيات على أطلال الأوطان الضائعة، التي تعد سمة لمعظم الروايات التي اشتغلت بمسألة الهوية.
ويؤكد أن الشخصية الرئيسة لديه تنمو وسط تجاذبات اهتمت بالدين وبالقومية في حين أهملت الجانب الذي طالما كان مدعاة للتشبث بالأرض.
______
*الجزيرة.نت