ساعي بريد نيرودا


*إبراهيم صموئيل

التساؤل عن مستقبل ومصير الكتاب الورقي -وبمعنى أوسع مصير الكتابة على الورق- في ظل ثورة المعلومات ونموها ليس سؤالا استفهاميا صرفا بقدر ما يشير إلى منعطف كبير في ما ألفناه واعتدنا عليه منذ اختراع الطباعة إلى اليوم.

وسواء في الملتقيات الثقافية، أو في التحقيقات الصحافية والحوارات مع الكتاب، أو في الندوات المتخصصة عن القفزات الكبيرة المتتالية في عالم الاتصال والتواصل الذي نشهده فإن مآل الكتاب ومستقبل الكتابة على الورق يكون حاضرا على الدوام.
ولا شك في أن المكابر والمعاند لآثار ثورة الاتصالات سيكون منفصلا عن الواقع وعن راهن الإطاحة -أو لنقل الإزاحة المتدرجة- التي تقوم بها التكنولوجيا المعاصرة للعديد جدا مما ألفناه وتعودنا على استخدامه ووجوده.
عالم افتراضي
وبنظرة سريعة يتبين لنا أن عددا كبيرا من الناس لم يعودوا يحملون الأزهار إلى أصدقائهم وأقربائهم في المناسبات المختلفة بل شرعوا في إرسال أحلى الأزهار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأن التهنئة بالأعياد صار “البوست” يقوم بها على أحسن وأسرع وجه، وأن حوار الأصدقاء ودردشاتهم في أي موضوع لا يستدعي لقاءهم الشخصي المباشر، إذ يمكن إجراء “اللقاء” ببساطة عبر “الماسنجر”.
ثم، ألم يعد بإمكاننا اليوم أن نشاهد الأحباء ونسمع أصواتهم، بل ونرى أماكن إقامتهم ومحيطها بالتفاصيل الصغيرة عبر “سكايب” ولو كانوا في أبعد بقعة عن إقامتنا؟ وأن نطبع ونوزع بطاقات الزفاف دون حاجة إلى كرتون ومجموعة متطوعين للتوزيع؟ هذا عن غيض راهننا, أما فيضه فيؤكد العارفون أن ما تعد به التكنولوجيا الحديثة في القريب العاجل أبلغ وأهول من أن تصدقه عقولنا.
في اتساع تغيرات هائلة كهذه، لمَ سيكون الكتاب والكتابة على الورق في منأى، أو في مأمن كما يحلو للبعض التعبير؟
بالطبع ستختلف الآراء والإجابات بين راءٍ أن الكتاب ليس معلوماته فقط، وإنما غلافه وأوراقه وملمسها ومتعة تقليبها ودفء الإحساس المتولد من وجوده على رفوف مكتباتنا.. وآخر يرى “أن انقراض المكتبة الشخصية برفوفها وأدراجها التي تحتل حيزا واسعا من المكان في البيت هو أمر محتمل بالفعل وليس مجرد خيال علمي”، بحسب أحد الكتاب.
ويستشهد أنصار الرأي الأخير بأمثلة منها أن الموسوعة البريطانية الضخمة مثلا باتت محتواة في قرص أو قرصين مدمجين، لا يحتاج البحث فيها سوى إلى نقرات قليلة على أزرار الحاسوب، وأن معجم لسان العرب لابن منظور الذي تحتل أجزاؤه الورقية رفا كاملا من المكتبة بات متواجدا في “فلاش ميموري” بحجم عقلة الأصبع!
أزف الرحيل
ومن خلال تزاحم الآراء وتعارضها تجري تهيئة الكتاب والقراء وعموم المشتغلين بصناعة الكتاب والصحف والمجلات وغيرها لتقبل الحدث الجلل: انقراض المطبوع على الورق، تماما كما تجري تهيئة أسرة مريض في غرفة العناية المشددة لتلقي نبأ موته بين ساعة وأخرى.
وعندي، فإن الأمر يأتي في سياق الحياة ومرور الأزمان، إن أزف أجل الكتاب المعتاد فليغب! وإن أفل عصر الصحف الورقية المتداولة فلترحل! ما من حاجة إلى القلق والتهيئة أو إعلان النفير, بل لنقل: ما من جدوى ترجى.
فقد غابت -من قبل- أوراق البردي بما كتب عليها، واندثر عصر التخطيط بالريشة والحبر الأسود بيد المؤلف أو مدون كتبه، وبات الكتاب المخطوط بالأيدي والأحبار من التحف النادرة التي تعرض لزوار المتاحف داخل أقفاص زجاجية محكمة الإغلاق ومقاومة للكسر.
غير أن الكتاب -بالمعنى العريض للكلمة- منذ فجر فكرة تدوين الكلام على ورق أو رقعة جلد أو لوح حجري استمر عبر التاريخ البشري حتى يومنا هذا، لم يمت الكتاب ولا اندثرت الكتابة، ولدت طرائق، ورحلت طرائق فحسب، انبثقت مواد وأدوات وأشكال، وغابت مواد وأدوات وأشكال ليس إلا.
أما الكتاب، أو على الأدق الكتابة فقد استمرت وتواصلت وذاعت وانتشرت بوسائل وحوامل مختلفة ومتنوعة وفق كل عصر من العصور.
بالطبع، ستأسى أجيال على غياب طرائق ووسائل وأشكال بعينها، وستعتاد أجيال على طرائق ووسائل وأشكال جديدة، بل ربما يحل يوم -قريب أو بعيد- يشاهد فيه زوار المتاحف الكتاب الورقي المتداول اليوم داخل صندوق زجاجي، تماما كما نعاين نحن المخطوطات القديمة وآثار أدوات الكتابة في حياتنا الراهنة.
وما العجب؟ فرغم أن أحدا لم يعد يسافر على ظهور الدواب فإن السفر ما زال جاريا، ورغم أن الحمام الزاجل لم يعد يحمل الرسائل فإن التراسل ما زال قائما.
بل وحتى من زمن أقرب إلينا بكثير: هل بات بالإمكان اليوم الحديث عن شاعر معاصر يتلقى رسائله كما كان بابلو نيرودا يتسلم رسائله من ساعي بريده, ثم يتنادم معه حول شؤون وشجون القلب والشعر والحياة؟
_______________
*الجزيرة.نت

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *